الظاهر، والله أعلم، أن السي عبد الإله بنكيران اهتدى مؤخرا إلى نهج سياسة «تكايسو علينا»، بعدما لم يجن من «التبوريدة» سوى الغبار. ومن تابع رئيس الحكومة خلال آخر ظهور له تحت قبة البرلمان، سيلمس بكل تأكيد الرزانة التي تحلى بها، وسينتبه أيضا إلى كلامه الموزون الذي لم يكن يخرج من بين شفتيه إلا بمقدار، لأنه يعلم علم اليقين بأن الأيام العصيبة القادمة سيلزمها رصيد كبير من الكياسة وحسن التصرف، خاصة بعد مرور الحكومة إلى السرعة القصوى في مسلسل رفع الأسعار، وهذا وحده كاف لدفعه إلى تهدئة الأجواء أو كما قال هو بلسانه: «العداوة ثابتة والصواب يكون». والمهمة القادمة لعبد الإله بنكيران ستكون، لا محالة، هي تبييض وجه الحكومة، بعد ما حاق به من اسوداد. فلا شك أن رئيس الحكومة يستحضر جيدا في مثل هذه المناسبة ذلك المثل الشعبي القائل «ملي حتاجتك يا وجهي خبشوك القطوط»، ويعلم بأن اقتراب موعد الانتخابات الجماعية القادمة وتزامنها مع الارتفاعات المتتالية في الأسعار، سيجعل حزبه ينتهي كما انتهى «الحجام» في حكاية «طاحت الصمعة..»، ومع أنه مكتوب على باب الحمام أن «لا لبيض كيسمار ولا السمر كيبياض»، فإن بنكيران يحاول جهد الإمكان حفظ ماء وجه حكومته، لذلك فربما عمل بنصيحة مقربيه التي تحثه على توخي الروية واللين وخفض الجناح في تعاطيه مع المعارضة والصحافة والرأي العام، إلى أن تمر الانتخابات القادمة بسلام ويصفوَ الجو مجددا لممارسة كل أشكال «التبوريدة». ربما يعيننا كل ذلك على فهم سبب ظهور بنكيران تحت قبة البرلمان مهادنا المعارضة، حتى إنه وجه رسالة مباشرة إلى شباط عبر برلمانيي حزب الاستقلال حين خاطبهم قائلا: «كولو ليه يتكايس شويا»، في وقت تبادل فيه بنكيران وشباط رسائل من نوع آخر خلال الأسبوع نفسه، حين ظهر الأول في شريط فيديو يرقص مع أحفاده فيما ظهر الثاني في شريط آخر منشغلا بإرضاع حفيد له، هكذا وفي ظرف أسبوع واحد تحول الأطفال والرضع إلى سعاة بريد جدد للسياسيين المغاربة، فما لا يستطيع هؤلاء قوله بشكل مباشر يتكلفون اليوم عناء نقله إلى بعضهم البعض ومن ثم إلى الرأي العام عبر أحفادهم، لذلك كان المغاربة يقولون قديما «إلى شفتي مول الدار هاز البندير ما تلوم دراري على شطيح». فبنكيران يعلم جيدا بأن الانتخابات القادمة وتزامنها مع مسلسل ارتفاع الأسعار، بما نتج عنه من احتقان اجتماعي، وتوقف الحوار مع النقابات وتجميد الأجور وعدم الوفاء بمضامين البرنامج الانتخابي، خاصة منها الالتزام بالرفع من الحد الأدنى للأجور إلى 3 آلاف درهم، كلها أمور تصب في صالح المعارضة، وخاصة حزب الاستقلال. وقد فهم بنكيران، أخيرا، أن سياسته العامة ليست سوى مقويات ومهيجات انتخابية للمعارضة، وأن من مصلحته البحث عن وسيلة لتهدئة الأجواء ومعها النفوس أو، على الأقل، العمل بحكمة «الشفايف تتباوس والقلوب تتداوس»، لأنه إذا ما ذهب بعيدا في سياسة «التبوريدة» و«مامسوقش» و«عفا الله..»، فالأكيد أن حزب العدالة والتنمية سينتهي في الحملة الانتخابية «مخبي وجهو» أمام الناخبين. وخلال مروره الأخير بالبرلمان، قال بنكيران إنه «ملي كان صغير كان كايصبر ملي كايتعاقب»، ويقول لنفسه: «أنا اللي درتها»، لكنه لم يكشف لنا اليوم أمام الذي وقع له منذ توليه رئاسة الحكومة «شكون اللي دارها؟»، لأن وضعية بنكيران كانت ستكون مريحة، سياسيا، لو أنه رفع الأجور والأسعار معا، لكنه فضل التضحية بشعاراته وبالرصيد الشعبي لحزبه فعمد إلى خنق الطبقتين الفقيرة والمتوسطة وفرض على صغار التجار ضرائب جديدة، فيما تم سن قانون خاص بكبار المهربين يحمي هويتهم ويعفيهم من المتابعة القضائية ويتيح لهم إرجاع أموالهم وعقاراتهم الموجودة في الخارج إلى المغرب ويسمح لهم بفتح حسابات بنكية عندنا بالعملة الصعبة، وهذا ما يعبر عنه بمقولة «اللي يشيط عليه الزعفران يسلقو مع البابوش». لكن مصدر خوف بنكيران، اليوم، هو أن سياسته، التي قوامها «خيط وفتق»، بدأت تظهر نتائج عكسية لكل ما كان ينتظره، لأنه لم يتأسَّ بالقول المأثور «خيط وفتق إيوا فلعشية شوف آش تنفق».