تشبه ملفات الفساد في المغرب والمحاكمات التي تتم بخصوصه إلى حد كبير سيناريوهات برامج «كاميرا الواقع» التي أصبحت تعج بها الفضائيات الغربية والعربية في الأيام الأخيرة، ذات الحبكة والإخراج المعروف مسبقا، فما إن يشد انتباه المشاهدين ويتركز ذهنهم على توقع القادم، حتى يبتسم الضيف ملوحا سعيدا. لذلك أصبح للمغاربة ذكريات سيئة مع الفساد والملفات التي تفتح بخصوصه، وكل ما طفا على السطح ملف من الملفات الكبرى، حتى يضع المغاربة أيديهم على قلوبهم، ليس لأن أسماء رجالات كبار ستكشف وزعماء سيرمى بهم في السجون، لكن لعلمهم بناء على التجربة أن الملف قد يجر أبرياء إلى السجن كأكباش فداء، عوض المسؤولين الحقيقيين، وأن نيرانه لن تصيب المتورطين الحقيقيين الذين سيخرجون منه أقوى. في سنة 1996، قاد رجل الدولة القوي ووزير الداخلية آنذاك إدريس البصري حملة سميت ب«حملة التطهير» بإيعاز من الملك الراحل الحسن الثاني، بعدما سجلت السنة ذاتها أكبر حملة لتهريب الأموال إلى بنوك الخارج من قبل رجال أعمال مغاربة، وسجلت فساد بعض كبار رجال الأعمال المقربين من دوائر القرار آنذاك، لكن سرعان ما تبين أنها حملة قادها البصري لتصفية الحساب مع خصومه، أتت على الأخضر واليابس، بعدما تسببت في الزج بأبرياء في السجن، وأرجعت المغرب سنوات ضوئية إلى الوراء في تقارير المنظمات الدولية، بل إنها أدت إلى هروب العشرات من رجال الأعمال الأجانب، كما هرب الأثرياء المغاربة أموالهم إلى البنوك الأجنبية، وتوقف المستثمرون الأجانب عن القدوم إلى المغرب للاستثمار، وهو ما أثر سلبا على عجلة الاقتصاد المغربي حينها. ولم تقتصر ملفات الفساد على قضية حملة التطهير لسنة 1996، بل إنه منذ عرف المغرب استقلاله حتى اليوم، عرف البلد تشكيل لجان نيابية كثيرة لتقصي الحقائق، أغلبها جاء في العقدين الأخيرين، وهو ما عكس بداية تفعيل آليات المراقبة البرلمانية التي اتخذها المغرب بعد الاستقلال، في ظل الزخم السياسي الذي أطلقته حكومة التناوب، لكن الملفات والقضايا التي فتحتها تقارير هذه اللجان ظلت حبرا على ورق. يرجع الكثيرون ما آلت إليه ملفات الفساد الكبرى في المغرب، إلى عدم استقلالية القضاء، وتدخل السلطة التنفيذية في الجهاز القضائي، ففي مثل هذه التهم يُصدر القاضي حكما طبقا ل«التعليمات» وليس طبقا لما يحمله القانون المغربي من عقوبات زجرية وحبسية في حق المخالفين والمتورطين في قضايا المال والاختلاس. وإلى جانب تدخل السلطة التنفيذية في جهاز القضاء، هناك مشكل آخر لا يقل خطورة وهو مشكل بنيوي بالدرجة الأولى، وهو ارتباط الضابطة القضائية في المغرب بجهاز الأمن الوطني والدرك الملكي، وهو ما يرجعه بعض من تحدثت إليهم «المساء» إلى غياب قوانين واضحة وصارمة في محاربة الفساد، فالقوانين التي يتوفر عليها المغرب هي قوانين براقة في أعين المنظمات الدولية، لكنها فارغة في ظل دولة يتداخل فيها الجهاز التنفيذي بالجهاز القضائي. في هذا الملف تلقي «المساء» الضوء على نماذج من ملفات الفساد الكبرى التي عرفها المغرب الحديث، توافرت فيها جميع عناصر الجريمة المالية التي كان من المفروض والطبيعي أن تودي بالمتورطين فيها من مدراء ومسؤولين ولصوص إلى ردهات السجن، بعقوبات حبسية قد تفوق عشر سنوات في أغلب الأحيان، لكن الذي حدث في جل هذه الحالات هو العكس تماما، إذ غالبا ما تتم التضحية ب«أكباش» فداء، تورطهم قد يكون ثابتا، لكنهم يبقون لاعبين صغار في ملعب الفساد الذي يهيمن عليه آخرون كبار، يخرجون من كل ملف فساد بشهية أكبر لالتهام المزيد. أشهر ملفات «أخطبوط الفساد» في المغرب ناهبو صندوق الضمان الاجتماعي يتحدون بنكيران الاختلاسات المالية التي وقعت في صندوق الضمان الاجتماعي على مدى السنين الأخيرة، والتي يضطر بسببها اليوم ملايين المغاربة إلى تقبل قرارات حكومية تجبرهم على التأقلم مع إجراءات جد قاسية، مثل تلك التي تعتزم حكومة بن كيران نهجها لسد ثغرات العجز المترتبة عن نهب الكبار لأموال الصناديق الاجتماعية، قرارات كالزيادة في سن التقاعد، هي من الملفات التي لن تأخذ من حكومة عبد الإله بن كيران، الكثير من الإجراءات لإعادة فتحها بعد سنوات من التماطل في فتح الملف لتورط شخصيات لها من يحميها في الوسط السياسي والحزبي، حسب ما تؤكد مصادر من داخل اللجنة التي كلفت بتقصي الحقائق في ملف الصندوق أكثر من 10 سنوات من الآن.. الملف جاهز بوثائقه وأدلته، وما على وزير العدل إلا فتحه، فهل يجرأ الرميد بعدما جبن سابقوه أو التقت مصالحهم ومعارفهم مع مصالح المتورطين على السير على الأسلاك الشائكة لمحاكمة ناهبي المال العام؟ يتساءل مصدر «المساء». صندوق التضامن الاجتماعي في صبيحة السادس من شهر يونيو من سنة 2002، وضعت لجنة تقصي الحقائق برئاسة «رحو الهيلع» تقريرها بخصوص الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أمام أنظار المجلس، إذ توصلت اللجنة البرلمانية إلى نتائج كارثية.. فضائح مالية، اختلاسات بالجملة، سوء تدبير وحسن تبدير.. بعد أكثر من 173 يوما وأزيد من 57 اجتماعا ولقاء، وفحص أكثر من 1900 وثيقة داخلية للصندوق، وبعد أكثر من 13 زيارة وجولة ميدانية لمقر الصندوق الوطني وللمندوبيات الجهوية والإقليمية والمصحات التابعة لها، توصلت لجنة تقصي الحقائق البرلمانية إلى أن اختلاسات كبيرة من أموال الصندوق قد تمت دون حسيب أو رقيب.. بلغ حجم الأموال التي نهبت من الصندوق أكثر من 115 مليار درهم على مدى 30 سنة، منها 47,7 مليار درهم مجموع الأموال التي صرفها الصندوق من دون حق، من خلال «اختلاسات» و»صفقات مشبوهة»، حسب ما توصلت إليه لجنة التقصي. اللجنة وضعت أسماء المسؤولين عن النهب والفساد المالي بالبنط العريض، وأشارت إلى أن المسؤولين الذين تقع عليهم المسؤولية، هم محمد كورجا الذي تولى إدارة الصندوق في الفترة الممتدة بين (1971- 1972) ومحمد لعلج الذي تولى إدارة الصندوق في (1992- 1995) ورفيق الحداوي الذي تولى إدارة الصندوق بين(1995- 2001) ومنير الشرايبي الذي تولى إدارة الصندوق سنة (2001). كشفت اللجنة أن من مظاهر الفساد الذي استشرى في إدارة الصندوق، على سبيل المثال لا الحصر، سيادة الرشوة في عملية تحصيل الاشتراك، تزوير الوثائق، وعدم التدقيق في المعطيات أثناء منح التعويضات، بالإضافة إلى توظيف أكثر من 5000 مستخدم خارج أي إطار قانوني، وعدم تغطية المراقبة المالية لمجالات نشاط الصندوق، ورفض الحسابات الختامية منذ 1981 من طرف المجلس الإداري الذي فشل في أداء وظيفته كمراقب لأداء سير المجلس، واستعمال بعض الحسابات خارج القانون واللجوء إلى إبرام الصفقات، حسب مسطرة الاتفاق المباشر بدون تبرير مقبول.. كل ذلك شكل تهما ثقيلة كانت كفيلة أن تجر أعتى المسؤولين في دول تحرص على مالها العام إلى غياهب السجون مباشرة، لكن الذي حدث هو العكس تماما. بدأت عراقيل الملف الذي لم يأخذ مجراه الطبيعي بنقله مباشرة إلى القاضي سرحان، دون إرفاق ذلك بالوثائق التي ضمنتها اللجنة في تقريرها، وبدل تسليم الملف إلى الشرطة المالية لفتح تحقيق مع المتهمين، والاستماع إلى إفاداتهم قبل نقلها إلى المحكمة. في حديثه ل»المساء» يكشف أحد أعضاء اللجنة أن ذلك كان معدا سلفا «للخبطة» مسار الملف، «كنا نفاجأ ببعض المسؤولين الكبار في الصندوق تصلهم خطواتنا وتحركاتنا واتصالاتنا بالتفصيل، حتى قبل أن تطأ أقدامنا أبواب المؤسسة.. وهو ما كان يدعو المعنيين إلى اتخاذ كافة احتياطاتهم. تسلم القاضي جمال سرحان الملف سنة 2006، وبلغ عدد المتابعين في النازلة 43 ظنينا، منهم 5 لقوا حتفهم، في حين تم الحكم على 10 بالبراءة وتوبع 28 ضمنهم 3 في حالة فرار.. ومن أبرز المتابعين محمد كورجة ومحمد العلج ورفيق الحداوي وعبد المغيث السليماني وحسن مهاجر، لكن الملف لم يأخذ مساره الطبيعي. فبعد مجيء عباس الفاسي إلى الوزارة الأولى تسلم الملف من الشيخ بيد الله، الذي بدوره حسب مصدر «المساء» أراد التخلص من كرة نار حارقة برميها في نصف ملعب الوزير الأول، الأخير بدوره لم يقدم ولم يؤخر، وظل يتصرف كمن لا يسمع ولا يرى شيئا بعد إطلاعه على مضامين التقرير، لكن الأسماء ذاتها التي تدخلت من قبل في عهد الوزير الأول إدريس جطو هي أيضا التي تدخلت في عهد عباس الفاسي لعرقلة مسار وصول الملف إلى القضاء، ففي تصرف غير مفهوم رفضت رئاسة مجلس المستشارين تزويد الجهات المختصة بمجموعة من الوثائق، التي بدونها لا يمكن بتاتا جر أي شخص إلى المحكمة، يضيف مصدر «المساء»، وهو ما عرقل سير المساطر القضائية، وجعل الملف برمته مجمدا داخل رفوف القبة الثانية للبرلمان. قد يبدو للقارئ للوهلة الأولى غياب بعض الوثائق لطمس الملف، لكن الأمر عكس ذلك يضيف مصدرنا، فهذه إجراءات تمنح الوقت الكافي وربح فترات طويلة من الزمن تدوم شهورا وسنوات... وبعد ذلك تتم التدخلات والتواطؤات. اليوم تتحدث دوائر حكومية عن إعادة فتح الملف بعد طول انتظار، وهو ما يقلل منه مصدر «المساء» بالقول إن هناك جهات نافذة تضع العراقيل كي لا يغادر الملف الرفوف أبدا.. فهل تجرؤ الحكومة الحالية على تحريك ملف جاهز بالمستندات والأدلة، قد يطيح برؤوس كبيرة إلى أن تدفع ثمن سرقتها لأموال الشعب، بعد أن دفعت الدولة المغربية إلى اتخاذ قرارات غير شعبية وعلى حساب الطبقة العاملة، كالرفع من سن التقاعد وتخفيض نسبة الاستفادة لمنخرطي الصندوق؟ يوم غطى الحسن الثاني عن محمد اليازغي لم تسلم حتى بعض قيادات الأحزاب المغربية من تُهم الفساد بالرغم من شعاراتها هي نفسها لتخليق الحياة العامة، وتأسيس دولة الحق والقانون، وتساوي الجميع أمام قضاء مستقل عن السلطة التنفيذية. ولعل من أبرز قضايا الاختلاس المالي والفساد التي طمست بعد تعارض مصالح القصر الملكي على عهد الحسن الثاني وقيادة حزب الاتحاد الاشتراكي بزعامة عبد الرحيم بوعبيد، قضية الفساد والاختلال المالي التي سجلت مطلع الثمانينيات في ملف شركة دار النشر المغربية «إيديما» التابعة للحزب. وتوقفت القضية في بداية الطريق، بعد أن كانت كل الإشارات تدل على أن القضاء يتجه إلى أن يحقق العدالة في قضية اختلاس أموال من دار النشر على عهد الاتحادي محمد اليازغي، كما عكست ذلك الضابطة القضائية. هل استسلم الحسن الثاني لتهديد القيادي الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد الذي أصدر إشارة من قلب اللجنة الإدارية حين بوشرت التحقيقات، بأن حزب القوات الشعبية كالجسد الواحد الذي إذا مس منه عضو تداعت له باقي الأطراف بالسهر والحمى، وهي رسالة واضحة تتغيى حماية محمد اليازغي من السجن مهما تطلب الأمر؟ أم أن الحسن الثاني تمكن من لف الحبل على عنق محمد اليازغي، قبل أن يرخيه بشكل يظهره كريما مع الاتحاديين؟ تتضارب روايتان في القضية التي هزت البيت الاتحادي في الثمانينيات، فبعد أن توصلت اللجنة إلى أن دار النشر المغربية التابعة لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والتي كان يديرها محمد اليازغي، تعرف اختلالات مالية كبرى، تحركت الضابطة القضائية للتحقيق في الفضيحة التي هزت البيت الاتحادي، وكان محمد الحبابي قد تحدث عن ذلك بتفصيل في كرسي الاعتراف بجريدة «المساء» إذ أشار إلى أن القيادي الاتحادي محمد اليازغي تورط في اختلاس مبالغ مالية كبيرة من مالية شركة دار النشر التابعة للحزب. ويضف الحبابي أنه « «من جملة الأشياء التي أخبرني بها الخبير المحاسب أن مبلغا ماليا يتجاوز 50 مليون سنتيم سلمه سعيد البوري مدير المطبعة إلى اليازغي غير مبررة مصارفه، كما وجدنا أن إجمالي المبلغ المختلس هو 586 ألف درهم». في رواية الحبابي ل«المساء» يقول: «بعد أن تسلم الحسن الثاني هذا الملف، الذي تم الاستماع فيه إلى كل من سعيد البوري وكذا محمد اليازغي الذي استمعت إليه الشرطة أكثر من أربع مرات، بعث مستشاره عبد الهادي بوطالب إلى عبد الرحيم بوعبيد ليخبره بأن الشرطة كانت ستحيل الملف على القضاء، لكن الملك – حسب قول بوطالب –عندما عرف أن اسما بارزا في الاتحاد الاشتراكي متورط في الملف، قرر أن يضعه جانبا دون محاولة لاستثمار ذلك سياسيا. لكن هناك من يتبنى نسخة ثانية بخصوص هذه القضية، مفادها أن الملك الراحل الحسن الثاني استغل جيدا تلك القضية، واستثمرها سياسيا في وجه عبد الرحيم بوعبيد. يحكي أحد الاتحاديين السابقين أن فترة الثمانينيات كانت فترة تجاذب كبير بين القصر وحزب الاتحاد الاشتراكي، وعندما وصل نبأ قضية الاختلاس إلى الملك الراحل الحسن الثاني، بعث مستشاره عبد الهادي بوطالب إلى عبد الرحيم بوعيد ليخبره بتورط محمد اليازغي في قضية اختلاس الأموال من دار النشر التابعة للحزب. فلم يكن من الزعيم الاتحادي إلا أن مرر رسالة قوية في أحد خطاباته موجهة لمن يهمهم الأمر: «من مس اتحاديا واحدا كمن مس حزب الاتحاد الاشتراكي بأكمله» من جانبه لم يكن الملك الراحل الحسن الثاني يرغب في أن تصل الأمور إلى إدخال محمد اليازغي إلى السجن بسبب الاختلاس المالي الكبير، فقد كان الملك يرغب في لي ذراع حزب القوات الشعبية عبر أحد قيادييه المتورط في اختلاس الأموال. وقال قولته المشهورة التي نقلها عنه مقربوه بخصوص محمد اليازغي « غطيو عليه « أي تغاضوا عن تورطه. البنك الشعبي.. القضاء الفرنسي يقضي بأحكام غير نافذة لم تقتصر قضايا الفساد المالي على التراب المغربي فقط، بل إنها أحيانا كثيرة امتدت خارج الحدود، وكانت فرصة لإظهار قوة التيار المناهض للقضاء النزيه ولتنفذ المفسدين، إذ كانت تصل أيادي النافذين إلى خارج المغرب، كي تمنع إحقاق العدالة وجر المتورطين إلى ردهات المحاكم. في سنة 1996، انفجرت قضية البنك الشعبي في العاصمة الفرنسية باريس، فقد تم التوصل إلى اختلاسات مالية كبيرة، وتبذير للأموال فاقت 30 مليون درهم، بعد أن فتح تحقيق في القضية وتم التوصل إلى أن الرجل المسؤول هو عبد اللطيف العراقي. بسرعة تم القبض عليه وخرج بكفالة مالية، بعد أن تدخل موظفون سامون في جهاز الدولة، كانت تربطهم علاقات صداقة ومنفعة متبادلة مع المتهم.. وسرعان ما أعلنت محكمة العدل الخاصة بعدم الاختصاص، مشيرة إلى أن البنك الشعبي بفرنسا هو شركة خاضعة للقانون التجاري الفرنسي، وليست مؤسسة عمومية يمكن للقضاء المغربي أن يصدر أحكامه فيها، وهو ما يتنافى مع القانون الجاري به العمل، ومع كل النماذج القضائية في العالم. ولجأ نوابغ الفاسد إلى الحيلة قصد طي الملف، إذ سرعان ما أحيل الملف على المحكمة الابتدائية التي أحالته بدورها على محكمة الاستئناف لعدم الاختصاص. تم طي الملف تماما كما تم طمس الحديث عن الأموال التي تم اختلاسها، لكن سرعان ما عاد إلى واجهة الأحداث، بعد أن سافر المتهم الرئيس في القضية التي هزت الرأي العام المغربي، عبد اللطيف العراقي إلى إسبانيا، حيث لم يتردد الأمن الإسباني في القبض عليه بناء على مذكرة اعتقال أصدرتها السلطات الأمنية الفرنسية التي وقعت جل الاختلاسات فوق أراضيها. فقد أُلقي القبض عليه، رغم صفته، بطلب من السلطات الفرنسية التي فتح قضاؤها تحقيقا في القضية، وتوصل إلى أنه مسؤول عن الاختلاسات المالية التي وقعت، وأن ذلك يضر لا محالة بمصداقية جو الأعمال فوق الأراضي الفرنسية، وجاء التحرك الفرنسي بعدما تعذر على القضاء المغربي النظر في الملف، وبعدما تبين للفرنسيين أن سمعة قضائهم على المحك، خاصة أن الأمر يتعلق بأموال أجنبية على أراضيهم. بعد تحقيقات ومداولات ومرافعات ماراطونية، حكم القضاء الفرنسي على عبد اللطيف العراقي بعد أن ثبت تورطه في قضايا الاختلاس المالي من المؤسسة، بالسجن الموقوف التنفيذ على خلفية تهمة سوء تدبير فرع البنك الشعبي بباريس. بقدر ما شكل الحكم صدمة لأوساط الحقوقيين الناشطين ضد الفساد المالي، بقدر ما كان الأمر سابقة في تاريخ القضاء الفرنسي، إذ لم يسبق للقضاء الفرنسي أن حكم في قضايا سوء التدبير أو الاختلاس المالي بأحكام موقوفة التنفيذ، لكن الاستثناء حدث وخرج عبد اللطيف العراقي كما خرج قبله العشرات من المسؤولين من قضايا اختلاس وسرقة أموال عامة تورطوا فيها بسلام. القرض العقاري والسياحي.. نهب 15 مليار درهم قبل قضية «السياش» التي يتابع فيها القيادي الاتحادي خالد عليوة بتهم تتعلق بسوء التسيير واستغلال موارد البنك لقضاء أغراض شخصية، كانت هناك قضية أخرى مشابهة بالبنك نفسه، المتورطون فيها كانوا أكثر جرأة وأكثر طمعا في أموال المال العام المودعة في البنك.. تفجرت القضية سنة 2007، وهي الفضيحة التي ثبت تورط أسماء كبيرة فيها، اختلست أموال باهظة من البنك عبر قروض كبيرة دون ضمانات كما هو معروف في مجال تسليم القروض، لكن بالرغم من ذلك تم تقديم أكباش فداء صغيرة كانت تنفذ الأوامر، في الوقت الذي ظلت فيه الحيتان الكبيرة التي التهمت أموالا طائلة في منأى عن المحاسبة، بالرغم من تسميتها بأسمائها في مجريات التحقيق. ففي عام 2001 انفجرت فضيحة اختلاسات القرض العقاري والسياحي، بعدما تشكلت لجنة لتقصي الحقائق برئاسة الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي اليوم، إدريس لشكر، حققت في تدبير البنك في الفترة الممتدة بين 1985 إلى سنة 2000، وتوصلت إلى حقائق كارثية وصادمة. بعد مداولات وتحقيقات ماراطونية.. تبين فيما بعد أنها لم تمس جوهر القضية، ولم تضع الأصبع على مكمن الاختلاس. أقفل الملف سنة 2007، بعدما حوكم على المتهم الرئيس مولاي الزين الزهيدي ب20 سنة سجنا نافذا، و13 شخصا بمدد سجنية متفاوتة، تراوحت بين 5 سنوات سجنا نافذة وسنة واحدة مع إيقاف التنفيذ. حكم على المدير العام السابق، الذي كان في حالة فرار، لا يعرف الكثيرون كيف تمت في جنح الظلام، ب 20 سنة سجنا، فيما تحولت الأحكام الصادرة في حق المتابعين الماثلين أمام المحكمة إلى أحكام غير نافذة. جوهر القضية هي المبالغ الضائعة من بنك «السياش» والتي بلغت 15 مليار درهم لم تسترجع، بالرغم من أن أسماء وازنة استفادت من قروض ضخمة من البنك ظلت خارج دائرة المساءلة. في حديثه ل«المساء» يقر أحد أعضاء اللجنة أن بعض الأسماء من المتهمين كانوا مرتاحي البال أثناء محاكمتهم، كانوا هادئين أمام تهم ثقيلة، لأنهم كانوا يعلمون أنهم محميون من طرف أسماء نافذة، استفادت من أموال البنك عبر قروض كبيرة دون ضمانات. المتهم الرئيس وبعد أن فر إلى الخارج أطلق تصريحات صحفية تتهم أسماء نافذة في الدولة بدفعه إلى إعطاء قروض دون ضمانات حقيقية، كما تنص على ذلك النصوص القانونية الجاري بها العمل. انتهت فصول المحاكمة دون أن تحقق أي شيء، لأن الأحكام كانت موقوفة التنفيذ، والمتهم الرئيسي فر خارج البلد واستقر بالديار الفرنسية، دون أن يعمد المغرب إلى إصدار مذكرة إيقاف دولية في حقه كما هو شائع ومعروف. وبالرغم من أن المتهم الرئيس في خرجاته الإعلامية، كشف عن الأسماء التي استفادت من القروض، والتدخلات التي كانت تتم لصالحها وكيف كانت تتم، إلا أنه تم تقديم موظفين صغار، قد تكون مسؤوليتهم ثابتة في الأمر، لكنهم كانوا ينفذون الأوامر، وظلت الأسماء التي استفادت من القروض ونهبت الصندوق بعيدة حتى عن التحقيق، إما لحساسية مسؤوليتها في دواليب الدولة أو لوزنها الحزبي. كان الأمل لدى المتتبعين للملف هو أن تسترجع بعض الأموال على الأقل، دون الزج بالمسؤولين خلف القضبان، لكن لا شيء من ذلك تحقق، لا مال أرجع ولا مسؤولين حوسبوا، لينتهي الملف كما انتهت عشرات الملفات التي سبقته، وبالسيناريو نفسه تقريبا، ضجة كبيرة ونهاية باردة لا تتناسب مع ما ارتكب من اختلاسات للمال العام. وزراء الحسن الثاني.. لصوص في حكومة صاحب الجلالة سنة 1971 سيصل إلى علم الملك الراحل الحسن الثاني أن مسؤولين كبار في الدولة متورطون في قضية فساد تهم شركة أمريكية، شركة «بانام» الأمريكية، التي كانت تريد بناء مركب سياحي في ثكنة عسكرية قريبة من حديقة جامعة الدول العربية، لكنها تفاجأت بجشع المسؤولين المغاربة الذين سال لعابهم من أجل دولارات الشركة الأمريكية، وفرضوا عليها تقديم رشاوى لكي يسهلوا تراخيص المشروع، هذا الأمر أدى إلى غضب مسؤولي الشركة الأمريكية، الذين لم يترددوا في إبلاغ الأمر إلى الإدارة الأمريكية، التي لم ترغب في إخبار الملك الراحل الحسن الثاني وفضلت أن تكتم غضبها. لكن الغضب الأمريكي لمسه الحسن الثاني بخبرته وذكائه السياسي، وظل لشهور طويلة يبحث عن سبب هذا الغضب الأمريكي من المغرب، إلى أن جاء اليوم الذي اكتشف أن الأمريكيين غاضبون بسبب جشع وزراء في حكومته. أرسل الأمريكيون إلى الملك الراحل نسخا من كتابات واردة من المغرب تتعلق بقطعة أرضية كانت الشركة ترغب في شرائها لتشيد عليها فندقا راقيا بمدينة الدارالبيضاء، لكن المسؤولين المغاربة طلبوا رشاوى من الشركة الأمريكية، بل بلغت بهم وقاحتهم أن طلبوا مقابلا ماليا كرشوة عن كل متر مربع تستفيد منه الشركة الأمريكية، التي وبحكم طبيعتها العسكرية كانت لها علاقات بمسؤولين نافذين في البيت الأبيض. في البداية كانت رسالة الشركة الأمريكية تشير إلى شخص واحد فقط هو رجل الأعمال المعروف آنذاك عمر بنمسعود، لكن بعد أن بدأت أصابع الاتهام تشير إليه، وأحس بنظرات الحسن الثاني الغاضبة، كشف عن تورط وزراء في الحكومة التي كان يقودها مولاي أحمد العراقي آنذاك، في أول فرصة تم الاستماع فيها إليه. بعد أن توصل الملك الراحل الحسن الثاني بأسماء الوزراء المتورطين والذين كانوا مازالوا يقومون بمهامهم في الحكومة، كان هناك من اقترح عليه تعيينهم سفراء بدل عزلهم ومحاكمتهم، لكن الحسن الثاني سيفاجئ وزيره الأول باستدعائه للوزراء المعنيين ويقول لهم:» لقد خيبتم أملي فيكم، لكنني أسامحكم للخدمات التي قدمتموها لبلدكم « بل وطلب منهم الاستمرار في مهامهم، وكأن شيئا لم يقع. لكن بعد أن فاحت رائحة الفساد التي تصيدتها قوى المعارضة للي ذراع الحسن الثاني، وأمام ضغط الألسن في أوساط علية القوم من سياسيين واقتصاديين، سارع الحسن الثاني إلى إجراء تعديل وزاري أخرج بموجبه الوزراء المتهمين من الحكومة، إذ أعفاهم من مهامهم. هكذا طمست قضية الفساد التي تورط فيها الوزراء أول مرة، لكن سرعان ما حدث ما يعيدها إلى الواجهة من جديد، بعد الانقلاب الفاشل بقصر الصخيرات الذي قاده اعبابو والجنرال المذبوح. إذ أصدرت حكومة جديدة برئاسة كريم العمراني، أياما قليلة بعد ذلك بيانا عن وزارة الأنباء يؤكد اعتقال بعض المسؤولين الكبار في الدولة، في مقدمتهم: محمد الجعيدي، الذي شغل منصب وزير للتجارة والصناعة، عبد الحميد كريم، الذي شغل منصب وزير سابق في السياحة، عبد الكريم الأزرق الذي شغل منصب وزير سابق للأشغال العمومية، إضافة إلى يحيى شفشاوني، وزير سابق للأشغال العمومية ومدير سابق لمكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية، ومامون الطاهري وزير سابق للمالية.. هذا بالإضافة إلى رجل الأعمال عمر بنمسعود وثلاثة موظفين سامين، لكن دون أن تتم الإشارة إلى العفو السابق في حقهم. لقد تم طمسه تماما، وأظهر للرأي العام المغربي وكأن القضية تفتح لأول مرة، إذ استغلها الحسن الثاني أحسن استغلال من أجل كسب معركته ضد خصومه السياسيين. أثارت القضية ضجة كبيرة في البلد، بل حتى أحزاب المعارضة وأقوى رموزها استبشروا خيرا ببداية عهد جديد من محاربة الفساد، بل إن الملك الراحل الحسن الثاني استثمرها سياسيا بشكل ذكي، إذ في خطابه للعرش سنة 1972 قال: «نتمنى أن كل الرجال الذين وضعت فيهم الدولة الثقة للتصرف في مصالحها، والذين يربطون لصالحها معاهدات أو صفقات أن يعتبروا من هذه المتابعات». عومل الوزراء والمسؤولون المتورطون عند نقلهم للسجن المركزي بمدينة الرباط كما يعامل باقي السجناء، وهو ما نقلوا جزءا من تفاصيله فيما بعد لبعض مقربيهم، إذ لم يحظوا بأي معاملة تمييزية. كان الكل يعتقد بعد انفجار القضية أن الأمر يقتصر فقط على رشاوى طلبها هؤلاء من الشركة الأمريكية، لكن سرعان ما انكشفت أمور أخرى أكثر فظاعة من قضية طلب الرشاوى. بعد التحقيق تم اكتشاف أن قضية الشركة الأمريكية ما هي إلا جزء بسيط جدا مما كانوا متورطين فيه، معمل البترول بسيدي قاسم، معامل السكر، بيع الأسمدة، التنقيب عن البترول، بيع معدن الرصاص، الحديد، اختلاسات بالملايين، فضائح الرشوة واستغلال النفوذ، خيرات المغرب وثرواته بدل أن تصب عائداتها في خزينة المملكة، كانت تصب في حسابات شخصية لهؤلاء في بنوك سويسرا. أظهر التحقيق أن عمر بنمسعود كان يتوسط للموظفين السامين عبر شركة في ملكيته للتسيير والتمثيل الدولي، لفرض عمولات كبيرة على الشركات الأجنبية التي كانت تفوز بالصفقات العمومية، وكان يقتسم العمولات المالية التي يتحصل عليها مع الوزراء والموظفين السامين، وكانت حصصهم من الأموال توضع في حساباتهم البنكية خارج المغرب وبالعملة الأجنبية. عدد المتهمين كان 14 شخصا، هرب منهم اثنان خارج البلاد وهما هنري هانسون وبرنارد ليفي، وتم إيداع الجميع السجن، قبل أن يتم نقلهم إلى المستشفى جراء تدهور الحالة الصحية للكثيرين منهم. كان المراقبون يتوقعون أن تصل الأحكام إلى سنين طويلة لا تقل عن 10 سنوات في أخف الحالات، ومصادرة ما راكموه من ثروات عن طريق سرقة خيرات الشعب، غير أن ذلك لم يتم إذ سرعان ما حوكموا بأحكام خفيفة لا تتناسب مع جزء يسير مما ارتكبوه والتهم الموجهة إليهم، بل إن حتى تلك الأحكام المخففة التي تقبلها المراقبون على مضض لم تعرف طريقها للتنفيذ، إذ لم يكملوا عقوبتهم السجنية وسرعان ما تم العفو عنهم، واختفوا كأن شيئا لم يكن. قررت المحكمة مصادرة الأموال الخاصة بالرشوة أو كانت معدة لها، لكل متهم المقدار الذي سيصادر حسب العمولات والرشاوى التي تورط فيها.. لكن الصفح الجميل كان الوسيلة المثلى لطي الملف إلى الأبد. زيوت مسمومة وجناة أحرار في سنة 1959، استيقظ المغاربة من مدن «سيدي سليمان» و«سيدي يحيى» على أعراض مرضية غريبة وغير واضحة المعالم، وفيات، تشوهات وعاهات، ليكتشف الناس فيما بعد أن هؤلاء استهلكوا زيوتا تستعمل لاشتغال الآليات والمعدات العسكرية، بعد أن أدخلت إلى السوق بعد خلطها بنسب قليلة من الزيت العادية المعدة لاستهلاك، وهو ما أصبح يعرف بقضية «الزيوت المسمومة» ويعود مصدر الزيوت إلى القواعد الأمريكية التي كانت متواجدة بالمغرب في عهد الملك الراحل محمد الخامس، وعندما كانت تستعد لمغادرة المغرب، لجأت إلى التخلص من تلك الزيوت التي كانت تعرف في أميركا باسم «تي إس بي» وهي تستعمل في محركات طائرات عسكرية ، نقلت من القواعد العسكرية الأميركية في «سيدي سليمان» و»سيدي يحيى» و»القنيطرة» في منطقة الغرب إلى مكناس في وسط البلاد، ومزجت مع زيت طعام في مزارع كانت في ملكية الدولة المغربية. مزجت هذه الزيوت السامة بنسبة 67 في المائة والباقي 33 في المائة من الزيوت الطبيعية في قنينات من لتر واحد، وبيعت للمواطنين على أنها زيوت صالحة للاستهلاك. مات مواطنون نتيجة استهلاكهم لتلك الزيوت، في الوقت الذي كانت سببا في إصابة آخرين بعاهات وأمراض مزمنة، وبلغ عدد ضحايا الزيوت المسمومة أكثر من 20 ألف مغربي، إذ أصيبت غالبيتهم بتشوهات وعاهات مستديمة، إضافة إلى الشلل النصفي، وسجلت فاس وتازة أكبر عدد من الضحايا. بعد تقصي الحقائق في الملف تبين تورط العشرات من الموظفين، الذين حرصوا عن قصد وسبق تخطيط بمزج الزيوت السامة بنسبة كبيرة مع الزيوت الصالحة للأكل. وكان الملك الرحل محمد الخامس قد قرر تخصيص عائدات تنبر من فئة 4 دراهم للضحايا، ورغم مرور أكثر من 50 سنة على انفجار القضية وقرار محمد الخامس، إلا أن العائدات التي جمعت لم تصرف بشكل يستجيب لمرور السنين، إذ عادت مجددا إلى الواجهة بعد أن نظم الضحايا الذين يعاني أغلبهم من عاهات مستديمة وأمراض مزمنة غير قابلة للعلاج، وقفة أمام مقر وزارة الاقتصاد والمالية. وتمت الاستجابة للرفع من قيمة التعويضات الشهرية للضحايا، بعد التوصل إلى اتفاقية بين كل من وزير الاقتصاد والمالية صلاح الدين مزوار، ووزيرة الصحة ياسمينة بادو، والوزير المنتدب لدى الوزير الأول المكلف بإدارة الدفاع الوطني، وممثل مؤسسة الحسن الثاني للأعمال الاجتماعية لقدماء العسكريين وقدماء المحاربين عبد الرحمن السباعي، ورئيس العصبة المغربية لضحايا الزيوت المسمومة جويليل الحسن اليماني. ورغم التعويضات والإعانات الشهرية، حيث رفعت التعويضات إلى ألف ردهم بدل 75 درهما للبالغين، 200 درهم لأقل من 21 سنة، إلا أن الجناة لم تعرف إليهم العدالة طريقا، وحتى بعد محاكمتهم والزج بهم في السجون، سرعان ما استفادوا من عفو ملكي بعد 3 سنوات فقط من إيداعهم السجن في هذا الجرم الجنائي. عليوة وبنعلو قضيتان متشابهتان وتعاط مختلف تجمع بين قضية المدير العام السابق للقرض الفلاحي والسياحي «خالد عليوة» وبين المدير العام السابق للمكتب الوطني للمطارات عبد الحنين بنعلو الكثير من نقط التشابه التي تجعل كل متتبع يجزم أن مسار القضيتين سيكون متشابها، ليس لأن الرجلين ينتميان لحزب واحد/ لكن لتقارب التهم التي وجهت لهما. في 29 من يونيو من السنة الماضية 2013، أمر قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف للدار البيضاء باعتقال خالد عليوة بناء على تحقيقات للشرطة القضائية، على خلفية اتهامات وجهت للقيادي الاتحادي جاء بها تقرير للمجلس الأعلى للحسابات» تهم « تسخيره لموارد الفنادق التابعة لمؤسسة «السياش» الذي كان على رأسه، لفائدة عائلته ومقربيه، إذ كشف التقرير أنه استفاد من أجنحة ملكية كاملة الخدمات لنفسه، وسخر بعض خدمات الفنادق التابعة للبنك لأقاربه ومعارفه بشكل مجاني» زج بعليوة في السجن بعد أن تقررت متابعته في حالة اعتقال، قبل أن تصدر تعليمات عليا تمكنه من حضور جنازة والدته التي توفيت وهو في السجن، لتتقرر متابعته في حالة سراح، على أن ينتظر أن يمثل أمام القضاء من جديد في الغرفة الرابعة لاستئنافية الدارالبيضاء في قضية «السياش». استفاد الاتحادي من مؤازرة قيادات اتحادية، وتمتع بسراح مؤقت في قضية لا تبدو نهايتها قريبة، بالمقابل هناك قضية مشابهة لقضية عليوة والمتهم هو أيضا من المنتمين أو المحسوبين على حزب الوردة. وكانت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية أحالت عبد الحنين بنعلو ومدير ديوانه ومسؤولين سابقين في المكتب الوطني للمطارات على خلفية اتهامات بارتكاب خروقات وتجاوزات مالية في تدبير المكتب الذي كان يديره بنعلو، في ملف وصل عدد المتابعين فيه إلى 25 متهما. أدانت استئنافية الدارالبيضاء، عبد الحنين بنعلو المدير العام السابق للمكتب الوطني للمطارات بخمس سنوات سجنا نافذا، وبالعقوبة نفسها أدانت المحكمة مدير ديوانه أحمد أمين برق الليل. رفضت غرفة الجنايات الابتدائية لدى محكمة الاستئناف منح السراح المؤقت لبنعلو وعضو المجلس الوطني السابق للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لسبع مرات على التوالي. الغرفة ذاتها التي رفضت منح عليوة السراح المؤقت في وقت سابق، عادت لتمنحه السراح المؤقت بدعوى أن له عائلة ويتوفر على سكن قار، بعدما تبنى حزب الاتحاد الاشتراكي قضية خالد عليوة، ولم يتبن قضية بنعلو، وجند كل إمكاناته من أجل منح السراح لخالد عليوة. فلماذا تم تسييس قضية الثاني في ما تم التغاضي عن الأول؟ وزن خالد عليوة ليس هو وزن بنعلو في حزب الاتحاد الاشتراكي، يقول أحد الشباب الاتحاديين ل «المساء»، كما أن خلفية بنعلو الحزبية واعتباره امتدادا لتيار المندمجين من الحزب الاشتراكي الديمقراطي عند التحاق أمينه العام السابق عيسى الورديغي بحزب الاتحاد الاشتراكي جعل صوت المنادين بتبني قضيته يضيع وسط المدافعين عن تبني قضية خالد عليوة، الذي تحدثت مصادر عن أنه فتح مكتبا لتقديم الاستشارات في مدينة الرباط، وتعذر الاستماع إليه خمس مرات منذ سراحه المؤقت بطلب من دفاعه إدريس لشكر الكاتب الأول للاتحاد نظرا ل»التزامات لشكر المهنية والحزبية. مجازر البيضاء الكبرى.. كيف تبخرت ملايين الدراهم تعود أطوار هذه القضية إلى سنة 1996 ، حيث تفجر ملف فساد جديد في المغرب الحديث، وتورطت أسماء نافذة في اختلاس المال العام، عبر التحايل واستغلال النفوذ، وما إن تفجرت قضية المجازر حتى استبشر المغاربة خيرا في أن القضاء سيأخذ مجراه الطبيعي أمام قضية واضحة وأدلة بينة، لكن شيئا من ذلك لم يتم، وعاد اللصوص الذين لم يكونوا إلا مسؤولين نافذين في الدولة إلى قواعدهم وقصورهم الفخمة سالمين. لقد تم تسجيل وجود فرق شاسع بين قيمة الغلاف المالي المرصود للمشروع، والقيمة الحقيقية لما تم إنجازه فعلا من أشغال وبنايات وتجهيزات من طرف الشركة الإسبانية «فيزكاينو» التي فازت بالصفقة. تعود حيثيات قضية مجازر الدارالبيضاء وتفجرها إلى فترة توصل الشبكة المغربية لحماية المال العام إلى تسجيل فرق شاسع بين قيمة الغلاف المالي الذي تم رصده لمشروع بناء المجازر، وبين القيمة الحقيقية التي كلفها ما تم إنجازه على أرض الواقع من مباني ومراكز. توصل المختصون إلى أن ملايين الدراهم تبخرت فجأة، اختلاسات كبيرة وقعت ومبالغ ضخمة مرت مرور الكرام عبر أوراق نفقات المشروع لتستقر في الحسابات البنكية الخاصة لبعض المسؤولين. تفاصيل القضية تتجلى في أن شركة إسبانية فازت بالصفقة لبناء المجازر الخاصة بالعاصمة الاقتصادية بمبلغ 640 مليون درهم نظير مساهمتها، في الوقت الذي توصلت شركة مغربية بما قيمته 30 مليون درهم، نظير مساهمتها في إنجاز المشروع إلى جانب الشركة الإسبانية. المثير أنه بعد التحقيق والتمحيص مع المختصين توصلوا إلى أن قيمة كل ما أنجز لا تفوق سقف 180 مليون درهم، فأين ذهبت المبالغ التي بقيت؟ حوالي 490 مليون درهم تبخرت.. هل سلطات المراقبة لم تعرف أي طريق سلكته هذه الأموال المنهوبة ؟ بلى، يكشف بعض الذين كانوا قريبين من الملف، 490 مليون درهم لم تتبخر، بل عرفت طريقها إلى حسابات خاصة لمسؤولين نافذين في الدولة. ولحظة انفجار القضية هددت السلطات المختصة بالمضي في الملف قدما، لكن سرعان ما كانت العراقيل توضع أمامها، وبالرغم من ظهور اسمين بارزين في كل حيثيات الملف، لم تجرؤ الجهات القضائية في المغرب على فتح القضية وجر المتورطين إلى ردهات المحاكم. في النهاية تم طمس الملف والتغاضي عنه بسرعة كبيرة، بعد عدة توافقات، بالرغم من أن الأموال المختلسة يمكن أن تنشئ أكثر من أربعة أو خمسة مشاريع تفوق مداخيلها مداخل مجازر الدارالبيضاء. وهكذا طمس الملف الذي شكل تفجيره فضيحة، بعد أن تم اكتشاف تورط اسمين كبيرين في تمرير الصفقة بشكلها النهائي، وشراء صمت الشركات الإسبانية والمغربية مقابل استفادتهما من الصفقة. محمد المسكاوي *: قوانين محاربة الفساد في المغرب براقة لكنها فارغة في العمق - لماذا ملفات الفساد في المغرب تبدأ بقوة وضجيج وتنتهي إلى الركن؟ ملفات الفساد ومساره الذي تتخذه أمام القضاء يرجع أولا إلى غياب الإرادة السياسية، لأن ما عرفه المغرب سابقا قبل حكومة التناوب كان محاكمات انتقائية، كانت هناك إشارتان، إشارة محاكمة الوزراء في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، والإشارة الثانية حملة التطهير التي قادها إدريس البصري. الفساد ظاهرة متشعبة، ولها تفرعات تقوم بها مافيات منظمة، إذ يمكن للفساد أن يترعرع وأن تكون له شبكات كبيرة منتشرة، مقابل غياب دولة لها إرادة سياسية، وبالتالي يصعب أن تنجح محاكمات في القضاء عليه. المحاكمات التي عرفها المغرب من قبل، كانت تدخل في مجال المحاكمات الانتقائية، والتي تهدف إلى تصفية الحسابات مع بعض الخصوم. إذن المغرب لم تكن يوما له إرادة سياسية حقيقية لتصفية ملفات الفساد المختلفة، وحتى في العصر الحالي تغيب هذه الإرادة، ففي العصر الحالي ومع حكومة التناوب برئاسة عبد الرحمان اليوسفي، كانت هناك عدة لجان لتقصي الحقائق، ومازال ما توصلت إليه من اختلاسات واختلالات في التسيير في ردهات المحاكم، حيث تصل المبالغ التي اختلست تقريبا إلى ما يفوق 200 مليار درهم، سواء القرض العقاري والسياحي أو مجموعة من المؤسسات الأخرى. - لماذا تنتهي غالبا بأكباش فداء في السجن ؟ مثل هذه الملفات لا يمكن أن تحسم بمحاكمة شخص أو شخصين، فالأمر لا يتعلق بشخص واحد أو شخصين في نهاية الأمر، بل هذه شبكات منظمة تصل إلى رؤوس كبيرة، في حال بداية سقوط بعضها سنصل إلى الرؤوس الكبيرة في الدولة، لذلك يلجئون إلى وقف ذلك في بدايته كي لا تصل الأمور إلى تورط أسماء كبيرة، لكن بالمقابل تبقى هذه الأسماء الكبيرة مهددة بملفات الفساد كورقة ضغط تستعمل ضدهم في وقت الحاجة. لكن كيف أن شخصا يتابع في قضية فساد، وبعد ذلك يتم إطلاق سراحه ليتابع في حالة سراح، ومن بعد تؤجل محاكمته. نحن في دولة غير ديمقراطية، إضافة إلى غياب الإرادة السياسية لمحاربة الفساد الذي مازال مستمرا. بالعودة إلى الحكومة الحالية، كل ما قامت به وتقوم به في مجال محاربة الفساد والنظر في الملفات الكبرى، لا يتجاوز خطابات، رصيدها حتى الآن في محاربة الفساد لاشيء، كما لا توجد دلائل على عزم الحكومة على محاربة الفساد. أما على مستوى القوانين التي تنظم محاربة الفساد في المغرب، فهي تظل قوانين مبتورة وغير كاملة، حيث تبدو للوهلة الأولى أنها قوانين براقة بفعل عناوينها، لكن على مستوى عمقها فهي قوانين فارغة ولا يمكنها أن تحارب الفساد والقضاء على المفسدين. - هل هناك أمل في تغيير مناخ القضاء في العهد الحالي ؟ يظهر تاريخ قضايا الفساد في المغرب أنها كانت دائما عبارة عن تصفية حسابات، عبارة عن لعبة تتغير حسب الوقت وحسب الو لاءات، لأنه لا وجود لعدالة مضبوطة وقوانين جارية ومفعلة في هذا المجال. هناك ضوابط جديدة، المغرب صادق على اتفاقية دولية لمحاربة الفساد، إذن أصبح ملزما بوضع آليات لتطبيق وملائمة التشريعات الوطنية مع هذه التشريعات والاتفاقيات الدولية. من جهة أخرى تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الحالية جاءت بعد ضغط مارسته حركة 20 فبراير، كما مارسه الشارع المغربي بكل تلاوينه، الحكومة جاءت بعد رفع شعار محاربة الفساد من طرف الشارع المغربي، إذن كان الأجدر أن تكون من بين أولوياتها على الأقل في التشريع القانوني أن تأتي بقوانين جديدة لمحاربة الفساد واختلاس المال العام. حتى الحكومة الحالية تغيب عنها الإرادة الحقيقية لمحاربة الفساد، ليست لها إرادة سياسية، وما نراه هو فقط مسرب بآليات لطيفة. - هناك من يرجع تعثر بعض الملفات إلى أخطاء ترتكب في المساطر ؟ صحيح، كل ملف يتعلق بالفساد قد يتأخر لأنه ملف ضخم، فنحن في نهاية المطاف نتكلم عن ملفات كملف صندوق الضمان الاجتماعي، إذ يصل إلى 18 مليار، لكن يجب أن تمنع بعض الأخطاء في المساطر، لأن المسطرة عندما تكون مكتملة يجب أن يحال الملف على القضاء. ميثاق العدالة الجديد مثلا يلزمه إصلاح مثل هذه المعطيات، السلطة القضائية الحقيقية يجب أن تبقى تابعة لمثل هذه التعليمات. أي ملف قامت بالتقصي فيه لجنة برلمانية، يجب أن يفتح، وليس أن ننتظر تحرك رئيس الحكومة، لأن ذلك سيعيدنا إلى القضاء الاستثنائي لمحكمة العدل الخاصة كما كان يعرف سابقا، أي أنه لا يمكن أن تتحرك المحكمة إلا برسالة من وزير العدل. - طفت على السطح محاكمات في الآونة الأخيرة لمدراء مجموعة من المؤسسات العمومية لكن الملفات عرفت ونتائج مختلفة؟ هذا يدخل في المحاكمات الانتقائية، لذلك نقول إن المسطرة يجب أن تمشي بطريقة عادية، عندما بدأت محاكمة خالد عليوة مثلا قلنا إنها محاكمة انتقائية، لماذا بالضبط ملف «السياش» الذي تم فيه التحرك في الوقت الذي تم التغاضي عن ملفات مؤسسات أخرى، يجب أن تفتح جميع الملفات. - وبالعودة إلى ملف «السياش» ما هو مصير الملف، بغض النظر عن الشخص؟ نقطة أخرى تجدر الإشارة إليها وهي أنه لا يعقل أن رئيس مؤسسة بنكية أو أي مؤسسة عمومية يمكنه أن يختلس لوحده، يجب أن يرضي رئيسه، ويرضي التابع له في سلم المسؤولية. لا يمكن لسارق أن يسرق لوحده، ومن تم محاكمته بشكل انتقائي، مثل هذه الانتقائية لا يمكنها أن تحارب الفساد وتقضي عليه، يقدم شخص للمحكمة لأنه لم يعد مطيعا ضمن مجموعة لصوص ومفسدين آخرين، هؤلاء يشتغلون على شكل مافيات. لذلك فقضايا الفساد المالي والاختلاس دائما ما يكون متورطا فيها مجموعة من الأشخاص والشخصيات على قدر مسؤولياتهم، وإذا أرادت الحكومة الحفاظ على السلم الاجتماعي يجب أن تطبق شعاراتها على أرض الواقع، فالمغرب بدون شفافية لا يمكن له أن يخطو اتجاه التنمية حتى لو اكتشفنا البترول. * رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام