محمد الساسي كانت حلقة 8 يناير 2014 من برنامج «مباشرة معكم»، الذي تقدمه القناة الثانية، مناسبة لقياس المسافة الفاصلة بين الخطاب السلفي، في المغرب، وبين الخطابات الأخرى، ولتقدير حجم الهوة القائمة بين منطق السلفيين ومنطق الحداثيين والصعوبات الكبرى التي تنتصب أمام إمكان إيجاد قاسم مشترك لمعالجة سلمية توافقية للقضايا التي يطرحها التأسيس للانتقال الديمقراطي. دار موضوع الحلقة حول مواجهة خطابات التطرف، في أعقاب بث أشرطة فيديو لشخص يُدعى عبد الحميد أبو النعيم، باشر فيها تكفير عدد من رجال السياسة والفكر ونعتهم بالزنادقة والملحدين وقذف نساء بالبغاء. خلال المعركة التي اتقدت حول مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية، تولى حزب العدالة والتنمية، وذراعه الدعوي، دور الناطق شبه الرسمي باسم تحالف مكون من الحزب وحركة التوحيد والإصلاح والسلفيين والعلماء المحافظين وتيارات وشخصيات إسلامية وجمعيات ومؤسسات دينية عامة وخاصة، وحاول الحزب جمع أكبر عدد من الفصائل السلفية واستقطابها إلى صفه، واستخدام نفوذها لصالحه، والظهور بمظهر الأداة الداعمة للمشروع السلفي والتي توفر له سبل النفاذ عبر المسالك المؤسسية. أما اليوم، فإن السلفيين يخوضون معاركهم الجديدة في استقلال عن حزب بنكيران وبالاعتماد على أنفسهم، وبشكل مباشر، وبدون واسطة؛ ويظهر أن الحزب يرفض الانخراط الفعلي والحاسم في هذه المعارك ويتجنب الانجرار إلى فتح جبهة جديدة قد تسبب له المزيد من المتاعب وهو الموجود، حاليا، في وضع تطوقه فيه المشاكل من كل جهة. خلال البرنامج المشار إليه، أفاض السيد الفيزازي، الذي قُدِّمَ كداعية إسلامي، في عرض عناصر المشروع السلفي ومكننا، بالتالي، من تبين حدة الإشكالات التي تحيط، ربما، بإمكان لعب السلفيين دور طرف إيجابي في عملية بناء توافق إسلامي علماني حول أسس الانتقال المغربي. ويستند جوهر المشروع السلفي، كما قدمه السيد الفيزازي، إلى العناصر التالية : - رفض (تكفير العين) لكن مع تخويل القضاء الشرعي سلطة العقاب على (الكفر) عند الاقتضاء: أبدى الفيزازي عدم تزكيته لموقف أبو النعيم، لأن هذا الأخير عمد إلى تحديد أشخاص بعينهم ونعتهم بالكفر، وكان الأفضل أن يكتفي بالتحدث في الموضوع بدون إثارة أسماء أشخاص. ولكن الفيزازي أكد، في الوقت ذاته، أن التكفير حكم شرعي له ضوابط، وهو يتفرع إلى نوعين: تكفير النوع وتكفير العين، ولا يجوز، شرعا، لأحد، كائنا من كان، أن يصف شخصا معينا بالكفر، لكن يجوز للعالم أن يناقش ما يراه لدى الغير كفرا، وتُخَوَّلُ للقضاء الشرعي سلطة بحث مدى توفر الشروط وإقامة الحجة وتقدير ضرورة إيقاع العقوبة من عدمها. وهذا يعني أن احتمال المعاقبة على «الكفر» وارد، في المنطق السلفي، بينما قضية الكفر والإيمان هي قضية شخصية، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وقد قَيَّضَ الله لهما أن يتساكنا على امتداد الحياة البشرية، ولا يمكن لأحدهما أن يطرد الآخر عنوة وقسرا، وحرية المعتقد يتعين أن تُصان، ما لم يعمد، من يُنسب إليه الكفر، إلى الاعتداء على حقوق أو حريات الآخرين المكرسة كونيا؛ - التطرف الديني نتاج التطرف العلماني: يعتبر الفيزازي أن التكفير، كوجه من أوجه التطرف الديني، إنما هو صناعة تتم في المعمل العلماني، بالدرجة الأولى. العلمانيون هم المسؤولون، أساسا، عن التطرف الديني من خلال ما يعتبره الفيزازي طعنا في الآيات التي أجمعت الأمة على معناها ودلالتها. هذا التطور يُظْهِرُ العلمانيين كمجرمين، فما هو الذنب الذي ارتكبوه، وهل من العدل أن يُطلب منهم عدم طرح أية مشكلة من المشاكل التي يعيشها المجتمع للنقاش والخلود إلى الصمت حتى وإن بدت مظاهر الظلم، أمامهم، سافرة؟ هل قام العلمانيون، أولا، بتكفير أبو النعيم ورد هو بالمثل؟ هل اعتدوا على سلامته أو مسوا بحقوقه؟ هل عمدوا إلى محاولة فرض تنفيذ وجهة نظرهم دون المرور عبر البرلمان ومؤسسات التقرير القانونية؟ إنهم طالبوا بفتح النقاش، والنقاش سنة الحياة. إن حظر النقاش، باسم الدين، إجحاف في حق الإنسان ومس بكرامته واستصغار لقيمة عقله. وما أقسى أن نعتبر الشخص، الذي وقع عليه ظلم التكفير، مسؤولا عن ذلك، فنوقع عليه ظلما آخر؛ - لا حرية للتفكير في موضوع (النصوص الشرعية): يرى الفيزازي أن هناك تصورا غربيا لحرية التعبير، وهو لا يتماشى مع التصور الإسلامي. النص الشرعي المحكم القطعي ليس رأيا، بل هو حكم شرعي واجب النفاذ ولا يمكن أن تناله مراجعة أو يلحقه تغيير، وهذا هو ما تفرضه الفصول 3 و7 و64 و175 من دستور 2011، والتي يترتب عنها، بالضرورة، اعتبار شرع الله أسمى من شرع الناس، ولا يمكن أن نقارن بين شرع الناس، الذين هم مجرد ناس، وشريعة الرحمان عزَّ وجل، وما كان لمؤمن أو مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم خيرة من أمرهم. النصوص القطعية -يقول الفيزازي دائما- لا يجوز أن تُطرح للنقاش بين المسلمين، يمكن أن تُطرح بين ملاحدة يبحثون عن الحكمة، وهذا شأنهم؛ أما المسلمون، فلا يمكن أن يقوموا بطرح قضايا محسومة ومنصوص عليها في الكتاب والسنة. وتوجه الفيزازي إلى المشاركين معه في النقاش، والمختلفين معه في الرأي، بالسؤال التالي: أأنتم أعلم أم الله؟ وبذلك أراد أن يقدم رأيهم في صورة اعتداء على حقوق الله وتطاول على الذات الإلهية ومس بها، وأن يقدم معركتهم ضد القوى المحافظة على أنها معركة ضد الله وأنهم يحاربون الله. إن الاتهام الضمني الوارد في السؤال قد تكون له، في مجتمعنا، آثار شديدة الوطأة على من وُجِّهَ إليه، ولذلك فإن طرح السؤال ليس منصفا بالمرة. إن النصوص التي حُسم في معناها ودلالتها، قبل 12 قرنا، لا يمكن، بعد تغيير الأحوال والأوضاع، أن تحافظ، بالضرورة، على قطعيتها، فقد تصبح مشرعة على عدة قراءات، وكل منها قد تقدر أنها الأكثر ترجمة لحكم الله؛ فأحكام الله، في النهاية، هي قول البشر في ماهية أحكام الله، وبسبب كون الأئمة والعلماء السابقين لم يواجهوا ذات القضايا المطروحة علينا اليوم ولم يكن بإمكانهم تصورها، فإن إعادة قراءة النصوص فرضت نفسها، ومن ثمة ظهر فقه المقاصد الحديث وظهر علماء مقاصديون مجددون يقترحون قراءة تتعدى مستوى القراءة الحرفية الظاهرية. ولو حافظنا على هذه القراءة الأخيرة، مثلا، لأجزنا، اليوم، الجهادَ ضد الكفار، وملك اليمين، والرق، ولمنعنا النظام البنكي الحديث والنظام الجنائي الحديث... إلخ. الحكم الشرعي يأتي لحل مشكلة معينة ويأتي للوصول إلى غاية نبيلة معينة، فإذا لم يعد للمشكلة المقصودة وجود، فلا تعود هناك ضرورة إلى إعمال هذا الحكم. وإذا أصبح الحكم غير قادر على إدراك الغاية المنشودة أو أفضى إلى عكسها، بفعل ظروف طارئة، فإن الهدف يُقَدَّم دائما على الوسيلة. ومهمة الشرع أن يجد الحلول لما يُستجد من مشاكل وقضايا. لا يمكن أن نتغاضى عن حل مشاكل واقعية قائمة بدعوى أن النصوص، التي اعتبرناها في مرحلة ما قطعية، لا تقبل التغيير، كأن هناك من المشاكل ما لا حاجة إلى حله. إن النص الذي يظهر، في مرحلة ما، أنه يتحمل معنى واحدا، قد يصير في ما بعد، ذا معانٍ عدة. ولماذا لم يدل الفيزازي برأيه حين طرح الأستاذ عصيد قضية ملك اليمين؟ ولماذا تُستخرج مقولة (لا اجتهاد في مورد النص) في الكثير من الأحيان، عندما نكون بصدد محاولة لضمان حق من حقوق المرأة؟ إن أكثر الذين يدافعون عن القراءة الحرفية للنصوص لا يستطيعون تعميم هذه القراءة على كافة النصوص، فهم عندما يلجؤون إلى الانتقائية، فمعنى ذلك أنهم يراعون مصالحهم في عملية اختيار النصوص التي يخضعونها للقراءة الحرفية، وخاصة مصلحتهم في استمرار حالة عدم المساواة بين الرجل والمرأة؛ - القضايا المثارة هي شأن خاص بأهل الاختصاص: لم يخف السيد الفيزازي امتعاضه من وجوده في مجلس يتحدث فيه أناس ليسوا من ذوي الاختصاص، ويعتبر هذا افتئاتا على حق أهل الاختصاص، وردد، أكثر من مرة، أن الأمور الشرعية أصبح يتناولها «كل من هب ودب» ! إن قضية الاختصاص قد تُستعمل ذريعة لتمكين العلماء من سلطة التقرير مكان المنتخبين أو لاشتراط توفر المنتخبين على تأهيل شرعي. وقواعد الإرث، مثلا، تصدر بقانون، ولهذا فهي، أيضا، شأن من شؤون رجال القانون وهؤلاء، في المغرب، يتلقون قدرا وافرا من المعارف الشرعية، كما هو معلوم. وقضية الاختصاص قد تُستعمل ذريعة، أيضا، للتملص من واجب الانفتاح على الاختصاصات الأخرى، إن عهد العلماء الموسوعيين قد ولَّى. هل يستطيع أهل الاختصاص أداء واجبهم على الوجه الأكمل، بمعزل عن التواصل والتعاون مع أهل الاختصاصات الأخرى؟ لا بد للعالم الشرعي، إذن، من مصادر علمية لتزويده بمعطيات عن التطور السوسيولوجي للمجتمعات وعن آخر الاكتشافات العلمية والاختراعات الطبية والتكنولوجية وآخر التنظيمات الإدارية والمالية والقانونية والدبلوماسية... إلخ. تكفي الإشارة، هنا، إلى المواقف الساخرة التي قاد إليها جهل العلماء الشرعيين بأبجديات العلوم الأخرى، فهذا عالم يخلط في فتواه بين الهستيريا والصرع، وهذا عالم يقبل الإفتاء المبدئي المسبق في مدى جواز ارتياد مقاهي الأنترنيت مع اعترافه، صراحة، بجهل وجودها، وهذا عالم يفتي في الالتزامات الشرعية للمحامي بطريقة تتناقض مع مقتضيات قانون مهنة المحاماة ومع الوظيفة الدقيقة للمحامي. إن أهل الاختصاصات الأخرى يشتغلون، أيضا، على أداء العلماء ويراقبونه من زواياهم العلمية الخاصة. لقد ذكر الفيزازي أن لنا، في المغرب، مجلسا علميا أعلى وهيئة عليا للإفتاء ومجالس علمية محلية، وكلها أجمعت -كما يقول- على أن النصوص القطعية لا تُمس ولا يجوز لأحد أن يمسها، لكننا ندرك، كذلك، أنه لم يكن بإمكانه، وهو في «بلاتو» قناة عمومية، دعوة هذه المؤسسات الرسمية التي ذكرها، بنفس الحمية التي أظهرها خلال البرنامج، إلى التحرك العاجل لوضع حد للخرق اليومي للنصوص القطعية المتعلقة بالحدود، في الدولة المغربية. في مثل هذا المقام، يفضل الفيزازي ألا يزعج أهل «الاختصاص السياسي»، وهذه واحدة من الحالات الكثيرة التي تحضر فيها السياسة أكثر مما يحضر الدين...