البينالي الدولي ما هو إلا واجهة، وما خلفه يطرح سؤال البناية المسرحية كمقياس لتمثيل إنساني حضاري، يستدعي من التخطيط الثقافي استراتيجية تعيد النظر في فضاءات لا توفر شروط الفرجة. عبد الرحمان بن زيدان، المسكيني الصغير، سعيد الناجي يطرحون آراءهم في مقاربة هذا الموضوع انطلاقة مهرجان البينالي الأول للمسرح، كثافة العروض المسرحية، التي تجوب مدننا هذه الأيام بعد توصل الفرق الاحترافية بالدعم، إضافة إلى إعلان نتائج دعم الترويج ... كلها مؤشرات قد توحي بأن المسرح المغربي بعافية وأنه يساهم في استمرار الحياة الثقافية ويقوي من ديناميتها، وبالتالي إسهامها في استقطاب الجمهور، لكن هل يمكن الحديث عن المسرح المغربي دون البناية المسرحية؟ وإذا ما توفرت، هل تستجيب لشروط العرض؟ فكيف هو واقع الحال إذن؟ وكم بناية تم تشييدها بعد الاستقلال، إن لم نقل كم بناية تم هدمها؟ الدكتور عبد الرحمان بن زيدان يرصد ل«لمساء» تاريخ البناية المسرحية وشكل حضورها في التهيئة العمرانية بالمغرب منذ ما قبل الاستقلال إلى الآن. من جهته، يقف محمد المسكيني الصغير على الاختلالات الهندسية التي تطبع بناياتنا المسرحية وواقع الموارد البشرية الموجودة على صعيد مدينة الدارالبيضاء، فيما يذهب سعيد الناجي إلى استحضار مفهوم البناية المسرحية كاستثمار وفعل حضاري. يكشف عبد الرحمان بن زيدان في حديثه ل«المساء» أن المدينة القديمة تشكل عمرانا خاصا يستجيب للحاجيات الضرورية التي كانت تمليها العلاقات الاجتماعية والسياسية والعقدية والفرجوية وهيئة المدينة وشكلها العمراني الدال على شكل التنظيم وشكل التجاور بين كثير من هذه المؤسسات. وتاريخيا، لم يتم استحداث مؤسسة ثقافية وسياسية بالشكل الغربي في المدينة المغربية إلا بعد الحماية، حيث عمل الاستعماران الإسباني والفرنسي على إعطاء عمران جديد للمدينة المغربية يساير متطلبات وحاجيات الحماية الفرنسية، فانقسمت المدن العتيقة بالمغرب إلى مدينتين، الأولى تسمى المدينة العتيقة أو القديمة أو الأصيلة مقابل المدينة الفرنسية أو الإسبانية التي صارت تسمى المدينةالجديدة. وقد اهتم الاستعمار ببناء العديد من المؤسسات الثقافية تتمثل في المعاهد الموسيقية والمسارح، من بينها معهد سيرفانتيس الذي أسس سنة 1911 كأقدم مؤسسة مسرحية في المغرب، وفي المنطقة التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي أسس المسرح البلدي بمدينة الدارالبيضاء والمسرح البلدي بمدينة الجديدة والمسرح البلدي بمدينة مكناس سنة 1992، الذي صار يسمى بمسرح لاكانا لا أو سينما ريجان، وهناك تحديث للمدينة الجديدة وبعض الفضاءات القديمة إبان تأسيس قاعات السينما. واعتبر بن زيدان أن هذا الموروث الكولونيالي كان يحتضن الكثير من العروض المسرحية، ويتوفر على التجهيزات الضرورية لإنجاز العرض المسرحي، ومن الاستقلال إلى الآن نجد أن أغلب التراث الكولونيالي تم هدمه كالمسرح البلدي بالدارالبيضاء و ريجان بمكناس والعديد من قاعات السينما التي تحولت إلى عمارات، ولم يتم الاهتمام ببناء المسارح كمنظومة سياسية وثقافية بالمغرب إلا مع بداية الستينيات من القرن الماضي عندما تم تأسيس أول مؤسسة من طرف وزارة الأوقاف تسمى مسرح محمد الخامس. واستطرد الكاتب والناقد بن زيدان أنه على الرغم من الدفق المسرحي والفورة التي عرفها مسرح الهواة والتجارب المسرحية بدءا بالمعمورة إلى تجارب أخرى، لم يتم تأسيس مسرح بالمفهوم المعماري والشكلي الذي تتطلبه البناية المسرحية، وحتى إذا ما تم بناء قاعة مسرحية، فإنها تبنى لتغلق كما وقع في مدينة جرادة. ويضيف بن زيدان قائلا: «الآن عندما نقوم بتفحص ومعاينة الفضاءات الموجودة نجد أنها لا تستجيب لمتطلبات العرض المسرحي بكل مقوماته التقنية والفضائية والجغرافية ولنا في ذلك أكبر مثال على مسرح مدينة مراكش وبعض الفضاءات الأخرى التي تسمى مسرح الهواء الطلق، معنى هذا أن البنايات الموجودة هي بنايات لا تصلح للطفرة النوعية والتكنولوجية التي يتطلبها إنجاز العرض المسرحي. وعلى الرغم من بذخ بعض القاعات وجماليتها، فإنها تبقى جماليا مرتبطة بالعروض المحدودة، ففي مدينة مكناس هناك قاعة الفقيه المنوني كقاعة جميلة، لكن ركحها لا يستجيب لكل متطلبات العرض وبناء الديكور، حيث كان المخرج الوحيد للإفلات من إشكالية قاعة العرض المسرحي هو اللجوء إلى قاعات السينما التي تم إغلاق الكثير منها». وأوضح بن زيدان أن المسرح هو فعل وإبداع يتطلب عملا وحضورا جماعيا، ويتطلب تخصصات فنية كثيرة جدا وحضور الدراما تورج والسينوغراف، مما يتطلب تكييف الفضاءات لكي تصبح صالحة للعرض المسرحي، كما يحدث في كثير من المواقع الأثرية بتونس والقاهرة ولبنان وحتى في بعض الدول الغربية كما يحدث في مهرجان أفنيون. وخلص بن زيدان إلى أن التخطيط الثقافي يتطلب إستراتيجية لإعادة النظر في كل الفضاءات الموجودة وتجهيزها بكل المتطلبات حتى لا يبقى المسرح لملء وقت الفراغ، لأن المسرح فعل حضاري وثقافي يتطلب الانخراط في تنمية الوعي ومدارك المتلقي، وفي غياب المسرح المثقف لا يمكن أن نتكلم عن فعالية حقيقية لثقافة وطنية حقيقية. الناقد والمؤلف المسكيني الصغير بدوره يرى بأن المركبات والمؤسسات الثقافية الموجودة في الدارالبيضاء لا تصلح للعروض، فهي لا تتوفر على العناصر الضرورية لشروط العرض المسرحي: الإنارة ، الصوتيات، المداخل والمخارج وغيرها من العناصر. ويرجع المسكيني سبب ذلك إلى كون الذين صمموها لم يستعينوا بخبرات مسرحيين أو تصاميم عالمية أو الاستعانة ببعض المسارح الموجودة بالمغرب، مسجلا على مستوى التسيير أن أغلب المسيرين موظفون لا علاقة لهم بإدارة المسرح ، حيث يتم اختيارهم من طرف الجماعة دون أن تتوفر لديهم خبرة فنية أو تكوين في تدبير الشأن الثقافي والمسرحي. وأبرز المسكيني أن هذه المركبات لا تتوفر على ميزانيات خاصة، منطلقا من تجربته كمدير سابق للمركب الثقافي بالحي المحمدي. ويجد أن هذه الفضاءات لا تصلح إلا للخطب السياسية، مشيرا إلى أن غالبيتها مهملة: عين السبع، الحي المحمدي...، فهي عديمة الفائدة ولا تؤثر على المحيط الذي وجدت فيه ، كما أن أوضاع هذه المركبات غير لائقة، فهي بعيدة وتقع في نقط متطرفة وتحتاج إلى وسائل للنقل، وتصاميمها غير جيدة، فهي لا تتوفرلا على حديقة ولا موقف للسيارات حتى يستفيد منها الإنسان، وبالتالي فجميع العروض الفنية تكون معدومة لأن أغلب هذه المركبات لا تشتغل لانعدام إدارة فنية تعمل وفق دفتر تحملات لشراء عروض نظرا لغياب أي ميزانية، لتبقى العروض خاضعة للصدفة. وكشف المسكيني أن «الصيانة معدومة بالعديد من المسارح كسيدي بليوط، إضافة إلى تبذير أموال كثيرة في هذا الوطن، أما بالنسبة للأرياف فحدث ولا حرج، فدور الشباب لازالت تخضع لمفهوم الخشبة الإسمنتي». ويضيف الكاتب والناقد المسرحي محمد المسكيني الصغير أن «كل هذه المسائل التي ذكرت تؤثر سلبا على استمرار الحركة المسرحية وأن بعض التظاهرات الجارية لا يمكنها أن تغطي على واقع فقر الحال»، إذ اعتبر أن البينالي الدولي مجرد تظاهرة موسمية للدعاية والإشهار. في حين اعتبر الدكتور سعيد الناجي أن البناية المسرحية لا تدل على تقدم الحركة المسرحية فقط، بل تدل على قوة الثقافة بمجملها وعلى وجود تصور فني راق للعمران الحضري. فالبناية المسرحية معيار للتقدم الحضاري، ولهذا وعبر تاريخ الشعوب، كان لا يقبل ببناء مسارح صغيرة أو مسارح لا تملك مواصفات جمالية خاصة مندمجة في التهيئة العمرانية للمدن. واعتبر سعيد الناجي البناية المسرحية مقياسا لتمثل إنساني للعمران بعيدا عن المقاربات الربحية والتجارية للعمران المدني، والتي لا تلقي بالا لجمال المدن. ومن جهة أخرى، يؤكد سعيد الناجي أن البناية المسرحية لبنة لبناء سوق للتبادل الثقافي، ولترويج صناعة الفنون، إضافة إلى أنها جسر للانتقال من اعتبار الثقافة أنشطة وفعاليات موسمية إلى اعتبارها صناعة تستقطب الاستثمارات وتخلق فرصا للشغل وتروج سيولة مالية مهمة. ومن ثمة، فالبناية المسرحية هي ركيزة لقطاع اقتصادي أصبح يمتلك قوة في الاقتصادات المعاصرة، بل أصبح رهانا للخروج من الأزمة المالية العالمية التي خلقتها المقاربات الربحية والمضاربات المالية الهوجاء.