هل ما زالت مقولة: "إذا كان الشرق بلد الأنبياء والرسل، فإن المغرب بلد الأولياء والصلحاء" تحتفظ براهنيتها وصلاحيتها التفسيرية، في مغرب اليوم، أم إنها أصبحت مقولة تراثية لا أثر لها في واقع الحال؟ وماذا عن المبادرات الرسمية التي انطلقت مع مسار إصلاح الحقل الديني، منذ سنة 2004، لإعادة الاعتبار إلى الفاعل الصوفي لكي يقوم بالأدوار المنوطة به في إشاعة التدين السمح والوسطي والاعتدالي، وبشكل خاص في تقديم تدين "ناعم" وغير مسيس؟ وأخيرا، ما هي الآفاق المستقبلية التي يمكن أن يضطلع بها هذا الفاعل الديني في خضم التحولات السوسيوسياسية والسوسيولوجية التي تجتاح بلدنا؟ هذه بعض الأسئلة أو لنقل الإشكالات التي لا ندعي أننا قادرون على تجليتها في هذه المساهمة المحدودة، بقدر ما سنحاول أن نبسط أمام القراء بعضا من الجوانب التي تكتنفها. ربما لن نأتي بجديد إذا ما عدنا إلى تاريخ الزوايا والطرق الصوفية بالمغرب، والذي جسد مرحلة مهمة في ضمان تماسك النسيج المجتمعي والدولتي، وإذا شئنا حتى على صعيد الأمة المغربية، فالمتفحص والدارس للمسارات السوسيوتاريخية التي ميزت المغرب، على الأقل في مرحلة الدولة العلوية، لا يجد عناء في استخلاص الدور المحوري والخطير الذي اضطلعت به هذه التنظيمات الدينية والاجتماعية في الحفاظ على هوية المغاربة، وضمان استمرارية المخزن الديني. وللإشارة، فقد تعرض العديد من الباحثين لهذه المرحلة بالشرح والتفصيل، لا يسعنا المجال للحديث عن أهم أطروحاتهم، لكننا نحب أن نتوقف عند أحدهم وهو الأنثربولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز، 1993، الذي تحدث في كتابه الشهير "الإسلام ملاحظا" عن الدور الحيوي الذي قامت به الزوايا والطرق الصوفية بالمغرب، قائلا: "في الفترة العلوية، تأسست العديد من الزوايا، كالناصرية، وأخرى في فترة متأخرة كالكتانية، ويظهر أن خمس الذكور البالغين من المغاربة في سنة 1939 كانوا منضمين إلى واحدة من هذه الطرق الكبرى، التي بلغت حوالي ثلاث وعشرين طريقة، ست أو سبع منها طرق رئيسية ذات فروع عديدة". ورغم أن المؤشرات الرقمية التي رصدها هذا الباحث أو غيره (جورج اسبيلمان، 1951، والمعروف بجورج دراك)، تبقى غير دقيقة، فإن المؤكد هو أن حضور التصوف والطرق الدينية بالمغرب في هذه المرحلة قد شكل ثقافة دائبة في مخيال ووجدان المجتمع، إلى الحد الذي دفع بالباحث إرنست غيلنر (مجتمع مسلم، 2005) إلى الحديث عن التصوف "كنظرية ومصطلح وتقنية للقيادة، تستخدم بشكل عام في القبيلة أو القرية أو المدينة، سواء في ظل حكومة أو فوضى، لكنها نظرية لا تتجاوز عادة حدود الأرثوذكسية، خلافا للتشيع. والتصوف نوع من الإصلاح الديني المعكوس، فهو يبدع شبه كنسية". ربما لا يغيب عن القارئ المتفحص مدى التأثر المفاهيمي والخلفية النظرية (التأثر بالحقل الديني الغربي)، اللذان تحكما في هذا الباحث الكبير أثناء رصده ظاهرة التصوف في المجتمعات المسلمة، والمغرب واحد منها. لكن الذي يهمنا في هذا السياق هو أن التصوف، كطريقة في التدين، شكل عبر التاريخ مدخلا وآلية لإصلاح المجتمع من العلل النفسية والاجتماعية التي كانت تتمظهر عبر العديد من الظواهر. انطلاقا من هذه المقدمات السوسيوتاريخية -الأولية- يمكن أن نفهم كيف تشكلت الإيديولوجيا الرسمية للدولة المغربية، والتي تستند في مشروعيتها الدينية إلى المكون الصوفي السني (وإلى طريقة الجنيد السالك) كما يحكيها الراوي ابن عاشر. وقد حافظ المخزن/الديني على هذا الثابت بشكل مستميت في ظل التحولات والتقلبات التي اعترضت مسيرة التصوف في بلادنا، وهذا ما يتجلى في التوجهات والمبادرات التي كان يباشرها هذا الفاعل الرسمي في ضمان استمرارية هذا الطقس الديني، متحديا كل عوامل التعرية التي يمكنها أن تصيبه أو تلحق به. ولعل المناسبة شرط كما يقول المناطقة، فالحديث عن المبادرات التي اتخذها الفاعل الرسمي منذ انطلاق ما سمي في الأدبيات السوسيولوجية بإصلاح الحقل الديني، سنة 2004، يقودنا إلى الوقوف عند أهمها على الإطلاق، وهو ما تجلى في تجديد دماء الفاعل الصوفي، بتجميع الزوايا وتسهيل عملية إدماجها وإعادة إحياء الأدوار التربوية والروحية التي يمكن أن تقوم بها هذه الزوايا والطرق، خصوصا في ظرفية تتميز بمظاهر القلق النفسي والفراغ الروحي واختلال المعايير. ولهذا فقد جسد لقاء سيدي شيكر (2008) المحطة الرئيسة في هذه المبادرات. وقد أريد لهذا الملتقى ألا يكون محليا، بل إنه توسع ليضم كل متصوفي العالم. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد كان الرهان على الفاعل الصوفي يذهب في اتجاهين: الأول تقديم خدمة سياسية كبيرة للفاعل الرسمي، وذلك بإعادة ربط جسور التواصل مع العمق الإفريقي للمغرب؛ والثاني إشاعة نفَس من التزكية والروحانيات على تدين المغاربة، لئلا ينساق وراء كل الدعوات السلفية أو "الإخوانية". ويمكن أن نستدعي، في هذا السياق، الدروس الافتتاحية التي كان يلقيها منظِّر التصوف بالمغرب والفاعل الحكومي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، السيد أحمد التوفيق، في سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، والتي تذهب في اتجاه تثمين وتعزيز قيم التصوف باعتبارها المخرج من مأزق الحداثة وما بعد الحداثة. ولا غرابة أن يراهن حتى الفاعل الخارجي، ممثلا في الولاياتالمتحدةالأمريكية، على هذا النوع من التدين، القائم على فلسفة في التغيير، لا تتدخل في السياسة بمعناها الضيق، وتقدم رؤية تقترب كثيرا من النظرة العلمانية لفصل الدين عن الدولة (اُنظر عزمي بشارة، "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"، 2013). ولهذا نفهم لماذا ركزت العديد من التقارير والأبحاث وكذا توصياتهما، على دعم هذا النموذج التديني المتسم بطابعه الستاتيكي. اعتبارا لكل ما سبق، يمكننا أن نتساءل: ما هو واقع التصوف اليوم بالمغرب؟ وهل هو في تصاعد أم في تراجع؟ وهل استطاعت المبادرات -حتى لا نقول السياسة العمومية- في مجال إصلاح الحقل الديني أن تعيد إلى الفاعل الصوفي بعضا من وهجه؟ وما هي الآفاق المستقبلية التي يمكن التفكير فيها لتعزيز دوره الهام والحيوي في مجتمعنا المغربي؟ رغم عدم تسليمنا كلية بالدراسات والإحصائيات التي تباشرها بعض من المؤسسات البحثية -لأننا نعتقد أن الأمر يقتضي تطوير أدوات البحث الكيفي مع الكمي، وانتهاج مقاربات سوسيوأنثربولوجية أكثر عمقا- فإن النتائج التي نتوفر عليها حاليا تبين أن هناك انحسارا في التماهي مع التصوف كممارسة طقسية دينية، ففي آخر دراسة أنجزها معهد "بيو ريسيرش"، لسنة 2012 (العينة تتألف من 1400 مستجوب، وهي عينة علمية منتقاة بطريقة حسابية)، حول واقع التدين في المجتمع الإسلامي، تبين أن نسبة المغاربة الذين سبقت لهم زيارة أحد الأضرحة بلغ فقط 26 في المائة، وقد تأكد أن المغرب من بين الدول المستقصاة التي تقل فيها هذه العادة. وفي سؤال آخر، وجهه معدو الدراسة إلى المستجوبين المغاربة: هل تعتقد أن الصوفية مسلمون؟ أجاب 43 في المائة بأنهم كذلك، بينما 41 في المائة أجابوا بلا، في حين 16 في المائة لم يتعرفوا على معنى كلمة أو مفهوم "الصوفية". (اُنظر بيو ريسيرش، 2012،World's Muslims, unity and diversity). ولعل هذه النتيجة تعتبر مفاجئة لما هو متداول في الحس المشترك، من نظرة مثالية إلى التصوف وإلى المتصوفة. وحتى لا يتهمنا أحد بأننا نختلق "أوهاما إحصائية" أو تماهيا مطلقا مع نتائج هذه الدراسات، نحيله على دراسة "الإسلام اليومي" (2006)، أو البحث الوطني حول القيم (2005)، والتي توصلت إلى أن الارتباط بالزوايا والطرق الصوفية عند شريحة هامة من المغاربة بدأ في التراجع بالمقارنة مع ما كان في السابق. وبدورنا، توصلنا إلى نفس النتائج، والتي تتقاطع مع نتائج الأبحاث السابقة، في دراستنا الموسومة ب"الشباب تحول القيم والاتجاهات والممارسات: دراسة سوسيولوجية بمدينة سلا، جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 2013، غير منشور). وفي تفسيرنا لهذا التراجع، وقفنا عند بعض الخلاصات التي توصل إليها العديد من الباحثين، والتي تذكر بالدور المحوري الذي قامت به الحركة الوطنية السلفية في التصدي لكل النوازع الصوفية والطرقية بالمغرب، وبعدها جاءت الحركات الإسلامية والتي استكملت ما لم تستطع أن تقوم به الحركة الوطنية، حيث قادت حربا شعواء ضد كل أنواع التصوف، سواء "الأصيل" أو "الدخيل"، ويمكن أن نضيف الدور الذي انبرى له التيار الوهابي ممثلا في سلفياته المتعددة والمتنوعة، والذي لم يدخر جهدا في التصدي، بدوره، لكل ما يمت بصلة إلى التصوف وإلى التدين الطرقي. وبالإضافة إلى هذه العوامل، يمكننا أن نضيف معطيات موضوعية أخرى، أدت إلى انحسار التدين الصوفي، هي: ارتفاع الرأسمال الثقافي لشرائح واسعة من المجتمع، وبروز وسائط جديدة وحديثة عوضت هذه المؤسسات التقليدية التي كانت تضطلع بمهمات التنشئة الدينية، هذا دون أن نتغافل على عنصر هام وهو الاحتواء المخزني لمجموعة من الطرق والزوايا الصوفية وجعله إياها في كنفه وفي خدمة مشروعه الديني، وحيلولته دون توسعها في المجتمع وكسبها ثقته. وعلاوة على ذلك، يمكن أن نجازف بالقول إن الفاعل الصوفي، بدوره، لم يستطع أن يطور خطابه وأفكاره وطرق عمله بما يتوافق مع واقع الحال ومع لغة المجتمع اليوم، مما جعله يبقى حبيس طقوس روتينية، بل حتى مناسباتية، لا تظهر إلا في بعض الاحتفالات الدينية، كمناسبة عيد المولد النبوي. هذه عموما وإجمالا، بعض العوامل التي تفسر لنا سبب أو أسباب تراجع الارتباط بالفاعل الصوفي، خصوصا عند فئة الشباب المغربي. بيد أنه بالرغم من كل ما ذكرناه من نتائج وتفسيرات، والتي تبقى مجرد فرضيات قابلة للدحض أو الإثبات، فإن التحولات الجارية في مجتمعنا المغربي، والتي عنوانها العريض هو التوجه نحو فراغ روحي وفقدان للنماذج وحالة من اللامعيارية، تبقى الحاجة إلى الفاعل الصوفي أكيدة، إن هو جدد خطابه، وحافظ على استقلاليته وعلى حسن طويته ونبل مقاصده، قلت: إذا ما تملك هذا الفاعل هذه المقومات الأساسية فإنه، في اعتقادنا، سوف يؤثر-بمعية أطراف وفاعلين آخرين- في المعادلة الصعبة التي تشرط حال ومآل المغرب، وهي المزج بين القيم الأصيلة وقيم الحداثة والكونية، في قالب زهدي تراحمي تنموي وخلاق، نافع للأفراد وللمجتمع وللأمة جمعاء.