حسن الأشرف: بوغالم: الزوايا الصوفية بالمغرب تضمن الولاء للإمامة أكد الدكتور عباس بوغالم المتخصص في الظواهر الإسلامية والباحث في مجالات التصوف أن الزوايا الصوفية بالمغرب لم تفقد قوتها وحضورها داخل الوعي الفردي والمجتمعي، بل ظلت دائما حاضرة على المستوى المذهبي والمعتقدي، ولعل ما يفسر هذا الحضور المتجدد هو عمقها وتجذرها الاجتماعي. وأبرز بوغالم في حوار مع موقع “الإسلاميون.نت” أن الممارسة الصوفية هي الشكل السائد للتدين في المجتمع المغربي، مضيفا أن بقاء واستمرارية هذه الزوايا وصمودها كان رهنا بعمقها الاجتماعي. وأوضح الباحث المغربي أن الزوايا الصوفية بالمغرب أضحت مركزا للتلقين والإشعاع الأيديولوجي، من خلال توظيف كل زاوية لإمكانياتها الخاصة في اجتذاب الطاقات الفكرية وإعادة تكوينها أيديولوجيا، مردفا أن الزوايا تقوم بدور سياسي بالغ الأهمية؛ حيث إنها تساهم بفعالية في ضمان الولاء للإمامة، وهذا هو المبدأ المشهود عليه تاريخيا، وهو الدور الذي ما زال قائما إلى الآن. ولم تفت بوغالم الإشارة إلى الانتقادات الكثيرة التي تُوجه إلى الزوايا والطرق الصوفية باعتبار أنها تحتضن انحرافات عقدية تتمثل عموما في انحراف بعض أو أغلب الزوايا عن مشرب التصوف الحقيقي، بالإضافة إلى كونها تكرس نوعا من الخيار العلماني على مستوى تمثل طبيعة الإسلام، كما تنتقد الزوايا لاستخدامها كأداة لمحاربة التيارات الإسلامية. وفي الحوار قضايا أخرى مرتبطة بموضوع الزوايا الصوفية بالمغرب.. لنتابع: أدوار الصوفية في المجتمع المغربي * لا شك أن للزوايا الصوفية أدوارا تقوم بها.. فما هي أبرز أدوار الصوفية في المجتمع المغربي حاليا؟ - أعتقد أن الإجماع حاصل على مستوى الاعتراف بالأدوار الطلائعية للصوفية في تاريخ المغرب، هذه الأدوار والوظائف امتدت لتشمل جميع المجالات والمستويات، مع بعض التباين حسب بعض المراحل التاريخية، تبعا لتباين الظروف السياسية والاجتماعية. والأكيد أن الزوايا، بالنظر إلى طبيعة بنيتها وقوتها التنظيمية، قامت في ظروف متنوعة ومختلفة بأدوار أساسية وهامة، سواء على المستوى الاجتماعي أو الأيديولوجي أو السياسي. ولا شك أن طبيعة الأدوار التي تنهض بها الصوفية في المجتمع المغربي حاليا عرفت بعض التغير بالنظر إلى التغير الذي لامس مختلف البنيات المجتمعية، لكن الأكيد أيضا أن هذه الوظائف في جزء كبير منها هي استمرار لطبيعة هذه الأدوار التاريخية، فالزوايا بالمغرب لم تفقد قوتها وحضورها داخل الوعي الفردي والمجتمعي، بل ظلت دائما حاضرة على المستوى المذهبي والمعتقدي، ولعل ما يفسر هذا الحضور المتجدد هو عمقها وتجذرها الاجتماعي، لذلك ما زالت الزوايا بالمغرب المعاصر تحتفظ بمجموعة من الأدوار والوظائف التي كانت تنهض بها تاريخيا، على المستوى الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي، كما أصبحت تقوم بأدوار جديدة اقتضتها ظروف المرحلة وطبيعة التغيرات المجتمعية التي أضحى يعرفها المغرب، ولا شك أن حيوية وتجدد نشاط الزوايا والطرق الصوفية يبدو واقعا ملموسا في المشهد الديني المغربي المعاصر. * لنتحدث عن هذه الأدوار بشكل مفصل لو سمحت أستاذ بوغالم.. ما هي المستويات التي تبرز من خلالها أدوار الزوايا الصوفية بالمغرب؟ - عموما يمكن رصد أبرز هده الأدوار حاليا عبر أربعة مستويات: الأول هو التأطير الديني؛ فأمام تزايد مظاهر الصحوة الإسلامية، وأمام غياب مؤسسات وتنظيمات حاضنة ومستوعبة لتزايد متطلبات التأطير الديني، وعجز أغلب تنظيمات الحركة الإسلامية عن الاستجابة الكاملة لحاجات التأطير الديني، لم تشكل الزوايا والطرق الصوفية محاضن للتربية فقط بل ملجأ يستجيب للحاجات الروحية للأفراد أيضا، ولعل هذا ما يفسر سبب تزايد الإقبال على نموذج التدين الصوفي، مع العلم أن الممارسة الصوفية هي الشكل السائد للتدين في المجتمع المغربي، وهذه الحقيقة لم تستحضرها أغلب الحركات الإسلامية عندما شرعت في ممارسة الدعوة، بل إن أغلب الحركات الإسلامية قطعت مع التدين الصوفي باعتباره الشكل السائد للتدين بالمغرب، ولا شك أن الإسلام الصوفي استفاد كثيرا من هذه الحقيقة الاجتماعية بالنسبة للمجتمع المغربي. أدوار اجتماعية وأيديولوجية إحدى حلقاة الذكر الصوفي بالمغرب * هذا عن مستوى التأطير الديني، فماذا عن الأدوار الاجتماعية التي تضطلع بها هذه الزوايا وتتميز عن غيرها بذلك؟ - تعتبر الأدوار الاجتماعية من بين أبرز الوظائف التي تنهض بها الزوايا، إن لم تكن أبرزها على الإطلاق؛ ذلك أن حجم قوة وتأثير الزوايا يكمن في قوة حضورها على المستوى الاجتماعي، فالبعد الاجتماعي يشكل القوة الضاربة للزوايا؛ فهو رأس مالها الأساسي وعليه تعتمد، وهو المجال الخصب الذي تستثمر فيه، وتاريخيا كان نفوذ الزوايا يقاس بقوة حضورها وتأثيرها في مسار الأحداث، انطلاقا من جميع الأدوار والوظائف التي كانت تقوم بها في إطار الوساطة بين المخزن المركزي والقوى المحلية عبر جميع المستويات. فالزوايا لم تكن كيانات خارج إطار الصراع الاجتماعي، بل إن بقاءها واستمراريتها وصمودها كان رهينا بعمقها الاجتماعي ومرجعيتها البشرية، وبمدى قدرتها على استغلال هذا الرصيد لفرض هيمنتها محليا بالعطاءات المادية والرمزية. * نعم.. وما هو المستوى الثالث في أدوار الزوايا الصوفية بالمغرب؟ - هو المستوى الأيديولوجي؛ إذ تعكس الزوايا خصوصية المجتمع المغربي، وتغذيه بمقومات أيديولوجية؛ وذلك من خلال طبيعة التنشئة السياسية التي تعتمدها والقائمة في عمومها على تكريس ثقافة سياسية مرتكزة على أساس إعادة إنتاج بنيات النسق السوسيوسياسي المغربي، فظاهرة الزوايا على الرغم من تحفظات وانتقادات بعض العلماء حول شرعيتها تشكل عناصر استمرارية للأسس الرمزية التي يقوم عليها النسق السياسي المغربي، بحيث ظلت الزوايا تعمل وعلى الدوام على ترسيخ تلك الأسس داخل المجتمع المغربي. ولا شك أن هذا الدور الوظيفي ما زالت تنهض به الزوايا في الوقت الراهن، بشكل جعل من الزوايا مركزا للتلقين الأيديولوجي، وأداة للإشعاع الأيديولوجي، من خلال توظيف كل زاوية لإمكانياتها الخاصة في اجتذاب الطاقات الفكرية وإعادة تكوينها أيديولوجيا، وتوظيفها في دعم وتكريس الأيديولوجية الرسمية. ضمان الولاء للإمامة * كل هذه الأدوار تفضي إلى دور سياسي تقوم به هذه الزوايا.. أين يتجلى هذا المستوى برأيك؟ - إنه المستوى الرابع من الأدوار التي تقوم بها الزوايا بالمغرب؛ فهي لم تعد فقط مؤسسة دينية تناضل من أجل تعميم أيديولوجيتها الدينية من خلال تقديم تعاليمها الصوفية، بل اقترحت نفسها كنواة لعضو سياسي بالغ التأثير على سير شئون الدولة، بحيث تحولت إلى قوى سياسية لعبت دورها حسب حركية البنى السوسيوسياسية المتواجدة. والدور السياسي لزاوية ما هو نتيجة لنفوذها الاجتماعي، لذلك لعبت بعض الزوايا أدوارا مهمة في التاريخي المغربي، من خلال الإسهام بأشكال متفاوتة، إما في مساندة الجماعة ضد السلطة محليا أو مركزيا، وإما في ترسيخ التوجهات الرسمية للسلطة في المجتمع. والواقع أن إحساس المخزن الدائم بخطورة أدوار الزوايا هو ما جعله دوما يحرص على شراء صمتها وعلى احتوائها بجميع الأساليب؛ لأنها تشكل معادلة حسابية أساسية في التدبير السياسي للحقل المجتمعي، وهو ما يفسر الحظوة التي تحوزها الزوايا، والهدايا والهبات الملكية المقدمة لها في مواسمها السنوية. ضمان الولاء للإمامة من أبرز الأداور السياسية للزوايا وتتمثل أبرز الأدوار السياسية للزوايا حاليا في ضمان الولاء للإمامة، وهذا هو المبدأ المشهود عليه تاريخيا، وهو الدور الذي ما زال قائما إلى الآن، بل إن درجة الرعاية والعناية اللتين تحظى بهما الزوايا من قبل السلطة يرجع في جزء كبير منه إلى طبيعة الرهان على مقوم التصوف عموما، على اعتبار أنه يمكن أن يؤمن الحاجيات الضرورية -القديمة منها والمستجدة- للمؤسسة الملكية على مستوى الشرعنة. وفي هذا السياق نشير إلى نموذج الزاوية البودشيشية؛ حيث يلحظ المتتبع أن هذه الزاوية وإن كانت تنأى بنفسها عن العمل السياسي، فإنها أضحت تسجل حضورا لافتا في السنوات الأخيرة على هذا المستوى، وهو ما تعكسه مجموعة من البيانات التي عملت الزاوية على إصدارها والتي تلخص بشكل جلي الدور الذي أصبح مطلوبا من الصوفية في الوقت الراهن. انحرافات عقدية وسياسية * لنتحدث الآن لو تفضلت عن مساوئ ونواقص الزوايا والطرق الصوفية الحالية بالمغرب؟ - بالنسبة لمساوئ ونواقص الطرق الصوفية بالمغرب، يمكن التمييز بين مستويين في هذا السياق: المستوى العقدي، والمستوى السياسي. فعلى المستوى العقدي، نقصد بذلك مجموع الانحرافات العقدية في هذا السياق، وتتمثل عموما في انحراف بعض أو أغلب الزوايا عن مشرب التصوف الحقيقي.. وهي انتقادات تقليدية غالبا ما ووجهت بها الزوايا والطرق الصوفية، وما فيها من طقوس وممارسات غير شرعية ومنزلقات نحو الشعوذة، وتقزيم للتصوف في الجانب الطقوسي والنسكي، وعدم انضباط التدين الصوفي عموما للأحكام والضوابط الشرعية؛ ذلك أن الزوايا باعتبارها تمثل الإسلام الشعبي وتتماهى معه فهي غير حريصة بالضرورة على تمثل الإسلام في أسمى معانيه، والذي قد يحيد أو ينحرف، من خلال بعض الممارسات وبعض الطقوس عن أحكام الشريعة. كما أن الإسلام الصوفي لا يهتم غالبا إلا بما هو روحي؛ الأمر الذي استحال معه الإسلام مجرد طقوس وشعائر تعبدية فردية، فضلا عن غياب العلماء عن محاضن الصوفية الذي من شأنه أن يسدد مسار هذه الزوايا ويعصمها من بعض الممارسات المنحرفة. * وماذا عن المستوى السياسي؟ - أهم الانتقادات الموجهة للصوفية في هذا السياق ترتبط بتكريس نوع من الخيار العلماني على مستوى تمثل طبيعة الإسلام؛ وذلك من خلال الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي، وتحييد الجانب السياسي، مع ما يترتب عن ذلك من غياب شبه مطلق على مستوى الاهتمام بقضايا وهموم الأمة؛ ذلك أن طبيعة التنشئة السياسية التي يتلقاها مريدو الزوايا والطرق الصوفية تكرس بشكل متزايد الثقافة السياسية القائمة على الانكفاء والانشغال بالدين بمفهومه الطقوسي والشعائري بعيدا عن الاهتمام والخوض في أمور الشأن العام، وبالتالي تكريس مزيد من السلبية السياسية. * لنبق في هذا الجانب السياسي.. هل صحيح القول إن الزوايا الصوفية بالمغرب شجعتها الدولة من أجل كبح جماح الحركات الإسلامية ومواجهتها؟ - نعم، هناك انتقاد آخر موجه للصوفية يرتبط بتوظيف هذه الأخيرة كأداة لمواجهة باقي التيارات الإسلامية سواء بشكل مباشر من خلال توظيف الزوايا كطرف في إطار عملية ضبط بعض التوازنات السياسية، أو بشكل غير مباشر من خلال طبيعة الثقافة السياسية التي تعمل الزوايا على تكريسها، وهي من جهة ثقافة قائمة على أساس الابتعاد عن الواقع ومشاكله السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى عزل الفرد المنضوي تحت لواء هذه الزاوية وإحداث قطيعة بينه وبين واقعه. ومن جهة أخرى، هذه الثقافة السياسية من شأنها أن تؤدي إلى تزايد عدد أعضاء التيار الديني الشعبي الموالي للسلطة السياسية، بالإضافة إلى أنها تشكل أحد الروافد الأساسية لجلب التأييد وإحياء الولاء الديني والروحي لها. ------------------------------------------------------------------------ كاتب وصحفي مغربي.