من منا يلوم إيران على اتباع مصلحتها القومية عليه أن يعلم بأن ما من دولة وما من أمة يجب أن تلام على ذلك يقال إن خسرو ملك ملوك فارس الذي حاول اجتياح اليونان بجيش جرار في القرن الخامس قبل الميلاد كان ينقل معه جيشا موازيا من البيروقراطيين، كتبة ومحاسبين وعمال بريد وأمناء سر ووزراء وغيرهم من الموظفين، والبيروقراطية الثقيلة هي أول ما يلمسه المرء عندما يزور طهران للمرة الأولى. فمن المطار وإلى الفندق كل تفصيل يمر من موظف إلى موظف في سلسلة طويلة ومملة ويأخذ وقتا يكاد يكون سرمديا في ما يشبه الفوضى المنظمة. و لكن البيروقراطية هذه ليست الموروث الوحيد الظاهر للعيان من مجد فارس. إيران بلد يعتز بقوميته ويظهرها للعيان، ففي المطار الذي يحمل اسم الإمام الخميني تتقاسم الرموز الإسلامية الجدران مع زخرفات فارسية زردشتية قديمة ويحتفل المارة في الشوارع بعيد النيروز ويرتدون الملابس التقليدية، وهذا تعبير عن أمة لا تعاني أي انفصام في شخصيتها، وهو أمر يثير غيرتي وحسرتي لما نلمسه نحن العرب كثيرا من صعوبة إقناع بعض إخواننا الإسلاميين بأن لا تناقض بين أن يكون المرء منتميا لدينه وأن يكون منتميا لقوميته ومعتزا بها. والفتى العربي في فارس كما قال أبو الطيب يوما «غريب الوجه واللسان». وقد تكون غربة الوجه أقل من غربة اللسان نظرا لاختلاط العرب بالفرس منذ ذلك الوقت، إلا أن الإيرانيين لا يتكلمون العربية إلا نادرا. كل شيء في طهران يحمل بصمات حضارة عريقة يشكل لها النظام الإسلامي القائم إطارا لحركيتها التاريخية فتقولبه بإبيستيمولوجيا إسلامية لكي تحافظ على أنطولوجيا فارسية أكثر عمقا وديمومة من الأيدولوجيا. «لم يحب العرب الفرس يوما ولا أحب الفرس العرب» قلت لأحد الطلاب الإيرانيين الذين فرزوا لمساعدة ضيوف مؤتمر دعم فلسطين الذي كنا نشارك فيه عندما سألني عما اذا كان العرب يحبون إيران. وما لبث أن اعترف بأنه يشعر بالإهانة لأن «العرب يسمون الفرس عجما». ولكن المسألة أعمق من ذلك بكثير. فقبل الإسلام قضت فارس على ممالك سامية في بابل وكنعان بالإمكان اعتبارها إرهاصات مبكرة للأمة العربية ثم ألحقت بها دويلات صغيرة في بلاد ما بين النهرين وتقاسمت النفوذ مع الروم في جزيرة العرب. وتمرد العرب يوم ذي قار وهزمت بعض قبائل بكر الفرس في معركة جانبية ربما لم تشعر بها الإمبراطورية بقدر ما اعتز بها العرب ومجدوها. ثم جاء الفتح العربي الإسلامي وكان حاملا لسطوة عنصر قومي عربي اكتسح الإمبراطورية من أقصاها لأقصاها واكتسح معها الفكر واللغة والدين. الكبرياء الفارسي لم يستوعب بعد معركة القادسية ولا الفتح الإسلامي وإن استوعبته الثقافة والعقيدة وحاولت أن تفرسنه قدر الإمكان. والقادسية كلمة من الصعب التلفظ بها في إيران. إنه أمر تشعر به بالفطرة. لكننا اليوم نشهد نهضة الأمة الفارسية وانطلاقها إلى آفاق جديدة، وهي في نهضتها تلك تجد نفسها في مواجهة استحقاقات عديدة، بعضها يتركز على الأرض العربية. وككل دولة كبيرة تحاول إيران أن تؤمن حدودها وتخومها وتتعامل مع الكيانات القريبة منها كساحات للنفوذ والتأثير. وفي ظل عداء الغرب لها تبرر لنفسها هذا الأمر من خلال واجب الدفاع عن حدودها والتأكد من عدم تعرضها للغزو. المثل الأبرز هي السياسة الإيرانية في العراق التي هي سياسة مصالح قومية إيرانية بامتياز ومبنية على هدف تقوية دائرة النفوذ من خلال دعم الأطراف الطائفية الشيعية المتعاملة مع الاحتلال والمسيطرة على مقومات البلد. وتضعف هذه السياسة الإيرانية المقاومة العراقية وتساهم في حالة الانقسام الطائفي، وهذا يغذي الحالة السلفية التكفيرية التي تتحمل بدورها مسؤولية كبيرة في الاقتتال المقيت الذي قطع أوصال المقاومة وأضعفها جاعلا من معظم فصائلها «صحوات» عميلة وتشكيلات طائفية. وقد نستطيع توصيف السياسة الإيرانية في العراق على أنها تتبع مبدأ « قيدوا أقدامهم وأنتم ساجدون» حيث إنها تماهت مع العملية السياسية التي أطلقها الاحتلال مساهمة في إضعاف حالة المقاومة الشعبية ومنها مقاومة التيار الصدري وإلحاقها بهذه العملية. ومن ثم استطاعت إيران أن تمنع تحول العراق إلى قاعدة أميركية لغزوها كأحد فكي كماشة مع أفغانستان وامتلكت ورقة التهديد بتفجير الوضع العراقي فيما إذا حاولت الولاياتالمتحدة مهاجمتها. من هنا بإمكاننا القول إن إيران نجحت في تعزيز أمنها القومي من خلال هذه السياسة وامتلاك ورقة ضغط على الولاياتالمتحدة الأميركية قد تذهب إلى حد اعتبار القوات الأميركية المتواجدة في العراق رهينة بيدها بعدما كانت هذه القوات خطرا محدقا يتهددها. وقد أدركت الولاياتالمتحدة أبعاد الإستراتيجية الإيرانية الناجحة وعمدت إلى محاولة نقل تحالفاتها إلى الساحة السنية عبر ما يسمى بمجالس الصحوة وذلك ليس من أجل محاربة تنظيم القاعدة، بل من أجل إضعاف النفوذ الإيراني في العراق. وساهمت السعودية وغيرها من دول ما يسمى محور الاعتدال في دعم هذه العملية، وهي الحريصة دوما على انتقاد الدور الإيراني في العراق، بينما لا تدخر فرصة لدعم الاحتلال ومساعدته في خنق المقاومة حتى السنية منها. ولكن زيارة أحمدي نجاد العام الماضي وزيارة رفسنجاني الأخيرة إلى العراق أثبتتا من جديد أن إيران لا تزال تمتلك أوراقا عديدة رابحة من وجهة نظرها في هذا البلد. من، منا، يلوم إيران على اتباع مصلحتها القومية عليه أن يعلم بأن ما من دولة وما من أمة يجب أن تلام على ذلك. بل إن الأمم تلام على عدم اتباع مصالحها القومية، ونحن العرب أفضل الأمثلة على ذلك. إيران ملأت الفراغ الذي تركه حكام العرب في العراق عندما ساهموا في اجتياحه وأمنوا الغطاء السياسي لهذا الاجتياح وفتحوا حدودهم للغزاة لينطلقوا منها لغزو بلد عربي آخر. كلا، لم ينطلق الغزاة من إيران ولا من تركيا، بل انطلقوا من الكويت والسعودية العربيتين، وهذه الواقعة نضعها برسم كل من يتباكى على عروبة العراق والخطر الفارسي عليه. نعم ،إن زيارة أحمدي نجاد للعراق العام الماضي وزيارة رفسنجاني الأخيرة استفزتاني جدا كقومي عربي، وعندما يعانق أي منهما المالكي ويتباهى بأنه يرفض أي حماية أميركية ويشترط حماية الجيش العراقي فمثله كمثل من زار دويلة العميل أنطوان لحد في جنوب لبنان إبان الاحتلال الصهيوني مصافحا لحد وداعيا إلى خروج الاحتلال ومصرا على أن تكون حمايته حصريا من جيش لحد العميل لا من قوات الاحتلال. لا يهمنا هنا اعتراف الأممالمتحدة ولا ما يسمى عملية سياسية ولا ملايين مملينة انتخبت، إن كل ما نشأ من لدن الاحتلال وبني عليه فهو باطل ومكمل لهذا الاحتلال، والممثل الشرعي الوحيد للشعب العراقي هو المقاومة العراقية بكل فصائلها ما عدا التنظيمات التكفيرية المجرمة. وسياسة إيران في العراق من وجهة نظرنا كانت وما تزال سياسة مصالح مضرة بوحدة العراق وعروبته والمشروع المقاوم فيه. فلو أن إيران حركت حلفاءها لمقاومة الاحتلال ودعمت الخط المقاوم الموجود بين شيعة العراق بدل دعم خط العملاء والخونة لكان العراق أكثر وحدة وأقل طائفية ولكان الأميركيون يواجهون اليوم مقاومة وطنية شاملة، ولكن إيران اختارت ما اختارته بناء على مصلحتها القومية وهذا أمر طبيعي للأسف في عالم الدول. و ترتكب إيران أخطاء أخرى تسيء إلى صداقتها مع الشعب العربي مثل إرسال بعض المسؤولين لإشارات ملتبسة حول عروبة البحرين واستمرار احتلال الجزر الإماراتية، إضافة إلى الجريمة المستمرة بحق الشعب العربي الأحوازي الذي يعاني القمع ومحاولات التذويب الثقافي واللغوي واستلاب الحقوق. ولذلك على أصدقاء إيران أن ينتقدوها على ذلك وأن يطرحوا القضية الأحوازية في كل منبر وهي قضية حقوق شعب وعدالة. في نفس الوقت، تبقى إيران صديقا للأمة العربية وأقرب لمصالح شعوب الأقطار العربية من معظم حكام هذه الأقطار. ولا ننسى الشعبية التي يتمتع بها الرئيس أحمدي نجاد في أوساط العرب، بالرغم من كل هذه الأخطاء الإيرانية. والأمر ببساطة هو أن إيران تتبنى الموقف الصحيح من القضية المركزية للأمة العربية وهي قضية فلسطين والصراع مع الكيان الصهيوني. العرب يدركون أن فلسطين هي الميزان وفلسطين هي عنوان المرحلة والكيان الصهيوني هو حليف حكامهم الموضوعي. وهم يكرهون هؤلاء الحكام لدرجة تجعل من كل هجوم يشنه النظام الرسمي العربي على إيران وعلى قوى المقاومة وساما على صدرها ومدعاة لمزيد من المودة معها. وكل دولة تقطع علاقاتها مع إيران ومع غيرها من الدول الداعمة لقضايا شعبنا، بينما توطد هذه العلاقات مع الغرب والصهاينة، تعري نفسها أمام شعبها. إن كل من يحاول أن يستفيد من أخطاء إيران للعب على الوتر الطائفي ولإحراج قوى المقاومة العربية الحليفة لها عليه أن يبحث عن لعبة أخرى ليلعبها. المقاومة العربية تدرك أن تحالفها مع إيران لا يعني تبعية لها ولا ثقة عمياء بها. كما أن تحالفها مع سوريا (التي تعترف أيضا بإرهاصات الاحتلال في العراق وتتعامل مع حكومة المالكي ولا تحرك ساكنا في الجولان ولا في ملف اسكندرونة المقتطعة من قبل تركيا والتي يذوب العرب فيها ويقمعون تماما مثل عرب الأحواز) لا يعني انسجاما كليا مع سياساتها. فكما لإيران أجندتها كذلك لا بد من أجندة عربية مستقلة للقوى الحية في هذه الأمة قد تتقاطع مع إيران في ساحة وتختلف معها في ساحة أخرى. ولكن علينا أن ندرك بأن إيران دولة أجنبية غير عربية، وبالتالي علينا أن نتفهم أن لها سياساتها الخاصة ومشاكلها الخاصة كما نتفهم ذلك من تركيا ومن اليونان وغيرها من الدول وألا ننتظر منها أن تخوض لنا معاركنا أو أن تكون لها نفس مقاربتنا. كل هذا لن يؤثر على الأرجح في موقف الكارهين للعرب من الايرانيين وللإيرانيين من العرب. ولن نتفق يوما على تسمية الخليج العربي بالعربي ولن يتوقف الإيرانيون عن ترديد أصداء عنصرية شعوبية من حين لآخر والعرب من التحامل العنصري على «العجم المجوس». بيننا وبين إيران علاقة حب وكراهية تاريخية وعلى الأرجح ستستمر هذه العلاقة كما كانت دوما على المستوى العاطفي. إن كل ما يسعنا السعي إليه هو أن نحدد أجندتنا القومية بعقلانية متجردة ونتعامل مع العقلانيين الإيرانيين الذين يفعلون ذلك في حدود مصلحتنا القومية. والتاريخ يعلمنا أن ما من قوة خارجية إلا وتسعى لمصالحها، والناجح هو الذي يدرك ذلك ويتعامل معه من نفس المنطلق. وعلينا التنبه إلى أن منطق الصراع مع الكيان الصهيوني الذي هو منطق وجودي لا مجال للمساومة فيه قد طبع فكرنا السياسي المعاصر ببصمة إقصائية للآخر لأننا نعكس موقفنا من الكيان الغاصب ،أولا على بعضنا البعض، وثانيا على خلافاتنا مع جيراننا من الأمم. نعم علينا إزالة الكيان الصهيوني من الوجود لأنه كيان استيطاني عنصري إلا أن إيران أمة جارة وصديقة علينا التعايش معها للأبد. ولذلك لا نستطيع أن ندير خلافاتنا مع إيران بما فيها قضية الأحواز بنفس المنهج الذي ندير به صراعنا مع الكيان الصهيوني. مع الجيران، الأولوية هي للحوار وللحلول السلمية ولا يتم اللجوء للتصادم إلا إذا أغلقت كل الأبواب. المقاومة العربية في لبنان وفلسطين والعراق تدرك بأن المعركة طويلة وبأنها تحتاج إلى الدعم من كل صديق ولو اختلفت معه على استراتيجيات وتكتيكات المعركة في هذه الساحة أو تلك وتدرك أيضا بأن المقاومين فقط هم من له الحق في انتقاد من يدعم المقاومة إذا أخطأ، أما الدول والتيارات السياسية التي تتعاون بشكل مباشر مع المحتل وتدعم مشروعه فهي لا تتمتع بأهلية النقد.