تعتبر الأحزاب السياسية مؤسسات للتأطير والتكوين السياسي، أوجدتها سائر دول العالم من أجل مواكبة الانشغالات اليومية للمواطنين، ومن ثمة التعبير عنها من خلال برامج حزبية تكون بمثابة الفيصل في ما يتعلق بمسألة إعداد وبرمجة سياسات عمومية تتجاوب والأهداف التنموية للألفية، وخاصة في ما يرتبط بالصحة والتعليم والتشغيل والسكن اللائق. لقد أبانت التجارب الحزبية عن حنكة وتجربة عميقتين في تدبير الشأن العام، وهو ما يمكن تفسيره باستيعابها لأعداد لا يستهان بها من المواطنات والمواطنين عبر تأطيرهم، ومن ثمة ضمان مشاركتهم الفعلية والفعالة في التعاطي مع قضايا الشأن العام، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، لا لشيء إلا لأن كل واحدة منها مرتبطة بالنسق العام للخريطة التنموية المتوازنة. لقد استطاعت منظومة الأحزاب السياسية الرقي بمستويات مجموعة من الأنظمة الدولية إلى أحسن الأحوال، مما مكن هذه الأخيرة من تبوؤ مراتب متقدمة جدا ضمن منظومة الدول المتقدمة، ويمكن إرجاع هذا الأمر بالأساس إلى تنامي مسألة الوعي الوطني لدى رعاياها بأن كل تغيير لبلوغ صرح الديمقراطية الحقة لا يمكن أن يتم في معزل عن الانخراط الفردي ضمن سرب المجموعة الحزبية السياسية، الأمر الذي نتج عنه ميلاد أحزاب قوية بحمولاتها التاريخية، قادرة بوسائلها التدبيرية والتواصلية على اختراق ميولات الناخب، ومن ثمة كسب ثقته في برامجها وإشراكه إلى جانبها في تنزيل برامجها التي تعد، أولا وقبل كل شيء، تجسيدا لاختياراته وطموحاته. لقد استطاعت دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدةالأمريكية وكندا واليابان، وغيرها من الدول المصنفة ضمن قافلة الدول المتقدمة، شحذ همم مواطنيها للانخراط المباشر في تدبير شؤونهم بأنفسهم إلى جانب المؤسسات الحزبية التي توكل إليها مهام تدبير الشأن العام الوطني والترابي، مما أفرز لديها نخبا وأطرا سياسية ذات كفاءات سياسية عالية، لها من المعارف والمدارك العلمية العملية والتطبيقية ما يؤهلها لبناء أرضية خصبة تتقاطع فيها ميولات الأغلبية والمعارضة وتتوحد فيها خدمة الصالح العام للبلاد والعباد، إنها منظومات حزبية أبانت بالفعل عن نباهتها من خلال فتحها نقاشات وطنية دائمة ومستمرة تجمع المؤيدين بالمعارضين، لمناقشة مكامن القوة والضعف المرتبطة بمسألة التنمية في شقيها الوطني والدولي، في ارتباط وثيق بالمستجدات الدولية التي أصبحت لا تعترف بالأقوال وإنما بالمنجزات، فلا أحد يستطيع أن يشكك، مثلا، في أحزاب الفيدرالية الألمانية التي، بالرغم من صراعاتها الإيديولوجية العميقة، كانت ولاتزال تجلس إلى طاولة الحوار السياسي المتمدن والمنفتح على الآخر بشكل يتم فيه التوافق والالتفاف حول القضايا الوطنية الأولى والطامحة أساسا إلى جعل ألمانيا سيدة الاتحاد الأوربي اقتصاديا وسياسيا. لقد قلت في مقالاتي السابقة إن التطرق إلى مثل هذه التجارب لا يتم من باب الانبهار أو جلد تجاربنا الحزبية الوطنية، وإنما من أجل تنوير القارئ بأن التغيير السياسي التنموي مقترن بمسألتين أساسيتين، ألا وهما النقد الذاتي الواقعي المعتدل، من جهة، والمشاركة المواطناتية وغير المشروطة في تدبير الشأن العام، من جهة أخرى. لعل المتأمل للواقع الحزبي السياسي المغربي تستوقفه منذ أول وهلة مجموعة من المفارقات التي لازالت تنقص من فعالية برامج ومن ثمة من مردودية هاته المؤسسات التأطيرية بامتياز، ومن هاته المعيقات نذكر على سبيل المثال لا الحصر: - سيادة المنطق البيروقراطي في تدبير الشأن العام الحزبي في بلادنا، وهو ما يمكننا تفسيره بتجميع "قيادات حزبية" لعدة صلاحيات تجعل الحزب السياسي بمثابة ضيعة في أياديهم، وكأن الأحزاب السياسية وجدت للاسترزاق وليس للتكوين والتأطير، ومن ثمة التدبير؛ - سيادة منطق "أنا ومن بعدي الطوفان"، وخير مثال نسوقه في هذا الباب هو السجال فارغ المحتوى الذي لازال يسود داخل ساحتنا السياسية، فلا أحد ينصت للآخر، لا أغلبية ولا معارضة، وكأننا داخل حلبة للمصارعة المبنية على النزعة الشخصية وتحقيق المآرب الفردية؛ - شباب غير مكترث للمردودية الحزبية بقدرما هو مهتم بما ستجود به جيوب أسياده من قبيل الظفر بمنصب داخل ديوان من دواوين الوزراء أو أية أعطية أخرى تستجيب لرغبة جامحة لديه في بلوغ أهداف نفعية؛ - غياب قنوات للتواصل السياسي بين-حزبية، إذ كيف لأحزاب لا تتواصل في ما بينها أن تتواصل مع من وجدت أصلا من أجل تأطيره، أي الناخب المواطن؛ - سيادة حالة من الصمم والخرس لدى فئة الأكاديميين، وكأن التحليل السياسي والمواكب مقتصر على أشخاص دون غيرهم، لأن دور هاته الفئة مهم جدا بالنظر إلى ما لها من إمكانات علمية تجعلها جديرة بتبوؤ موقع المراقب والمتتبع للمشهد السياسي، ومن ثمة إصدار آراء والتعبير في مقالات، ولمَ لا مرافعات أو عرائض من خلال منظمات المجتمع المدني التي أصبح من اللازم عليها التدخل ولو بشكل غير مباشر أو حتى استشاري من أجل تنبيه ومن ثمة تصحيح رؤى ساستنا... إلخ. لقد جاء الربيع الديمقراطي ليعري مجموعة من الوقائع الحزبية التي كنا نجملها في ظاهرة العزوف السياسي، ربيع أبان عن مواطن الخلل التي لازالت تعترض مشهدنا السياسي. والتطرق لبعض هذه المعيقات لا يجب أن يستشعر منه تشاؤم لدى الكاتب، بل على العكس من ذلك، لأن عنوان مقالي يتجه إلى السلم من خلال المصالحة، هذه الأخيرة التي يجب على مختلف أطيافنا السياسية، التي أبانت غيرما مرة عن توحدها بخصوص القضايا الوطنية، أن تقوم من أجل تحقيقها بعملية سهلة ومجانية تتمثل في النقد الذاتي الذي نادى به مفكرون وزعماء سياسيون، كالزعيم علال الفاسي، رحمه الله، الذي أفاض -في كتاباته- في شرح نقط انطلاق ووصول ومن ثمة أهداف هذه الإمكانية التي أصبحنا محتاجين إليها في ظل الصخب السياسي، ذلك أن النقد الذاتي يؤدي لا محالة إلى تطبيق منطق "أهل مكة أدرى بشعابها" على أرض الواقع السياسي، وبالتالي وضع اليد على مكامن القوة والضعف لدى كل حزب على حدة لكي يتم بعد ذلك رسم المعالم الأولية لمصالحة داخلية بين مناضلي هذه الأخيرة وتاريخ مؤسساتهم، تقضي على التشويش الهدام بما يضمن مساهمتها في جمع شتات هياكلها، لا لشيء إلا لأن سياسة فرق تسد قد أبانت عن فشلها الذريع أيام الاتحاد السوفياتي سابقا، ولأن نشر غسيل الحزب لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الاندحار ومن ثمة الاندثار، فكفانا من العتاب السياسي فارغ المحتوى ولنمض قدما إلى التواصل الحزبي المباشر مع المناضل، أولا، ومحاولة امتصاص غضب الغاضبين والتواصل الحزبي غير المباشر أو الخارجي الذي يجب أن يطال الصفوف العريضة من العازفين عن الممارسة السياسية، ليتم في وقت لاحق عقد لقاءات دورية بين جميع الأحزاب، لاستعراض تجاربها وتصوراتها لمسألة تدبير الشأن العام، كل منها حسب خلفيته، ليتم في أعقاب ذلك التدشين لتنظيم مناظرة وطنية عنوانها المصالحة الحزبية، الواقع والآفاق، الأمر الذي إن تم القيام به سيساهم لا محالة في رسم المعالم الأولى لخريطة إصلاح سياسي وطني، يجمع بين المعتدل واليساري. أما حان الوقت، يا ساسة، للتوقف عن الخصام السياسي غير المجدي، والانخراط المباشر في استكمال البناء المؤسساتي، أما آن الأوان للقطع مع واقع السب والشتم ومعانقة منطق النقاش البناء والانفتاح على الآخر، لا لشيء إلا لأننا نعيش في وطن واحد، وطن نعتز ونفتخر بالانتماء إليه، مغرب الانفتاح والتقدم والازدهار، مغرب قد أصبح نموذجا يحتذى به من قبل مجموعة من الدول الطامحة إلى التغيير وإعادة البناء الإيجابي. إن قيم المواطنة الحقة لا تعني النقد من أجل المعاكسة السلبية، ولكن الأساسي هو أن هذه المعارضة يجب أن توظف لخدمة الإصلاح في إطار نسق المصالحة، وحتى الأغلبية لا يجب عليها التعنت في مواقفها، بل من اللازم عليها هي أيضا الإنصات للآخر من أجل ضمان التطبيق السليم لمضامين الدستور الجديد المبني على التدبير التشاركي. إن انتمائي السياسي، الذي أعتز به، لم يمنعني من إزالة قبعة السياسي واستبدالها بقبعة الأكاديمي، والقيام بهذه العملية النقدية المتواضعة التي أرجو أن تستنهض هممنا من أجل القول بصوت واحد إن الصلح خير وإننا جسم واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وبالتالي فلنعمل جاهدين على محاولة استئصال داء اللغط السياسي الدخيل على تقاليدنا ومبادئنا، ولنسع ما وسعنا السعي إلى احتواء مواطن أزمتنا الحزبية الحالية التي لو استمرت فلن تخدمنا في شيء بل ستساهم يوما بعد يوم في تمييع العمل السياسي وتبخيسه، ومن ثمة في تزايد طوابير العازفين عنه، وخاصة في صفوف الشباب الذي يشكل أعلى نسبة في الهرم السكاني لبلادنا. إن الاختلاف لا يمكننا أن نستمر في فهمه على أنه معاكسة، بل هو على النقيض من ذلك إثراء وإغناء، خصوصا وأن التجربة الدولية قد أبانت أن المعارض عنصر أساسي من عناصر اللعبة السياسية، لا لشيء إلا أنه يشكل جزءا منها اعتبارا لدوره التنبيهي، وبالتالي فالمصالحة لا تعني الخنوع أو الانهزام أو حتى مسايرة أهواء الآخر، وإنما الإنصات والتريث والحكمة في دراسة واقع الحال، ومن ثمة تقديم تصورات بخصوصه في شكل تحترم معه الهوية الحزبية، وبالتالي المصلحة الوطنية. إن مغرب الأوراش التنموية الكبرى لا يمكنه الاستمرار في تحقيق أهدافه التنموية إلا من خلال الانخراط المباشر واللامشروط لكل الفاعلين السياسيين، والتأسيس لميلاد حلقة جديدة من حلقات الوصل السياسي قوامها التفاعل والجرأة والصراحة وهدفها الإصلاح الحزبي المواطن.