في المنحدر الجبلي، ما تزال الشابة الأمازيغية، هنا في قمم الأطلس، تسير بمحاذاة الطريق المائل، تتحايل على الارتفاع وعلى الحافة معا. الأتان المثقلة ب«بيدوهات» الماء، تعرف الطريق جيدا. الشابة تسير وسط هذا الصمت الذي لا يمزقه، بين الفينة والأخرى، إلا هدير سيارات الدفع الرباعي التي تمرق متجهة إلى أعلى القمم، حيث رؤوس الجبال تبدو ناصعة البياض بأكاليل الثلوج. الفتاة تسير بأمان، ربما تردد غناء جميلا في سرها أو تلهي نفسها، مسافة الطريق الطويلة، بتتبع تلك السيارات التي تعبر بسرعة، وتغيب بين المنعطفات. في الطريق من القصيبة باتجاه أعلى الجبل، تضيق الطريق، تصبح لا شيء، وتختفي بين الفينة والأخرى. ما يبدو في المنظر جليا هو غابات أشجار الصفصاف، والبيوت المعلقة على رؤوس الجبال، والفلاحات المشحونات في سيارات «بيك آب» في رحلة عودة من الحقول والفيرمات الكبيرة. الطريق ضيق، والانعراجات خطيرة، ودرجة الحرارة المتدنية تمنح إحساسا بالعزلة. المنتخبون لا يصلون إلى هنا، يظهرون فقط مرة كل خمس سنوات، ثم يختفون، إلى أن يحين الموعد من جديد. الطريق الذي خلفه المعمرون ما يزال هو هو. خطابات فك العزلة عن العالم القروي مجرد كلام يقال في التلفزيون وفي المناسبات الرسمية. على الطريق صادفنا مجموعة من الإسبان، في رحلة جماعية، هم على الأرجح مدرسون يقودون تلاميذ مدرسة إسبانية نحو الجبل. اختاروا أن يتوقفوا في هضبة مستوية، لتناول ساندويتشات الطريق، والتقاط بعض الصور، فالمغرب في هذا المكان ما يزال «بكرا»، كما تقول الأحجية الكولونيالية. يتقافز الأطفال الإسبان فوق أرض محروثة، بينما يعبر القرويون إلى شؤونهم، قبل أن يأتي الليل؛ ففي ساعات النهار المتبقية لا يتسع الوقت إلا لجلب مياه صالحة للشرب من «المطفية»، وحمل بعض جذوع الأشجار، إلى داخل البيت، فالليل بارد ودرجة الحرارة تنتحر سريعا على الطبق الساخن. أفكر، في هذا المغرب، المغرب العميق، وفي كل هذا الجمال المتروك، في السياسات المتعاقبة التي قسمت البلاد، قسرا، إلى نافعة وغير نافعة. وفي الأفق، يبدو جمال الغابة، وهندسة الطبيعة الخلاقة، والمدى المتكسر على رقاب الجبال.. جبال الشموخ والعزة. فمن هنا قاد أحمو الزياني ثورته، ومن هنا توحد الجميع تحت من كان يسمى «أسد الأطلس» موحا أحمو الزياني.. وحد الأمازيغ تحت برنسه، وخلق الرعب في صفوف المعمرين. النصب التذكاري يدل على أسماء المقاومين وشهداء الاستقلال، أسماؤهم هنا يغطيها ظل شجر الصفصاف. العيون هنا متيقظة، متنبهة وواعية. السحنات حادة مثل منجل، واللسان الأمازيغي يندلق مثل نهر أم الربيع. في السوق الأسبوعي، الأمازيغ يشوون اللحم ويأكلون بلذة مضاعفة؛ يشربون الشاي رفقة نسائهم.. المرأة لها سلطة عظيمة هنا، لا تحتاج إلى مطلب بالمناصفة لأنها هي كل شيء، في السوق وفي الحقل وفي الغابة ومع «الكسيبة». نرطن ببعض الكلمات الأمازيغية رفقة صحبي، نطلب من صاحبة «القيطون» أن تشوي لحمنا جيدا، ملحين على معاونتها، وأن «تعدل» لنا براد شاي بالشيبة. من سحناتنا، تعرف أننا غرباء عن البلدة، وأننا لسنا أمازيغ.. تعترف لنا، وهي ذات اللسان الأمازيغي، بأنها «عربية» وأن زوجها الراحل هو الأمازيغي، تقول لي: «أنا ماشي شلحة ميا فْ الميا، وماشي عربية ميا فْ الميا». يا لجمال هذه العبارة العفوية، التي تداعت من هذه المرأة ذات الوشم الجميل على غرتها.. إنها تقول إنها ليست عربية خالصة، وليست شلحة خالصة، فمن تكون إذن؟ يأتي الجواب جاهزا، إنها مغربية، وما أسعدها، لأنها تنتمي إلى لسانين، مما أوسع أفقها. أقول لها: «أنا، أيضا، ما شي عربي ميا فْ الميا، وما شي شلح ميا فْ الميا»، فلا أحد هنا «أصلي»، كلنا خليط من المغرب، المغرب العميق الذي ينتظر طريقا معبدة وماء شروبا وبعضا من كرامة.