عندما تطل عين الشمس من وراء قمم الجبال تسقط أشعتها على أكثر من موقع في مساحات هذه المنطقة، الصغيرة حجما المثيرة موقعا . الأرض هي الأصل وفى أديمها انغرست الجذور التي نمت لتنبثق منها أشجار الحياة تحكي تاريخ الإنسان. في كل مرة أزور تلك القرية تكشف لي عن وجه جديد من وجوهها، وهي الخاصية التي لا تملكها قرى كثيرة، فهذا الغنى في التنوع ما بين تضاريس سهلة وجبال ممتنعة قد أعطاها مذاقا فريدا، وجعل تجربة أهلها تجربة مليئة بالغنى والتنوع، كأنها بشكل أو بآخر اختصار لتراث الخبرات البشرية تجمع في مكان واحد، هناك الفلاحون الذين زرعوا الوديان وحفروا الفجاج العميقة في جوف الصخر، والرعاة الذين حفظوا تضاريس الجبال ككف اليد وتحملوا شظفها، والذين سكنوا وعورة الجبال، وهل سلكت البشرية طوال تاريخها غير هذه السبل؟ ولكن أليس لهذا السبب تلفت كل السياسات وأصبحنا نبكي على أطلال كل السياسات السابقة؟، أليس من المهم أن يكون للمثقفين دور أكثر تأثيرا في صنع هذه السياسة بدلا من أن نتركها للمحترفين الذين أتلفوها طويلا؟ على أي حال حملت أسئلتي وبدأنا السفر، لم أكن أدري أن أمامنا رحلة طويلة، لقد وقعت ضحية الخرائط التي تبسط التضاريس وتقرب المسافات، فقد كنت أحسب أن الوصول إلى البرك لا يستلزم أكثر من إطلاله على الجبل من منطقة ستي فاضمة، ولكن على أرض الواقع تبين أن الطرق التي تؤدي إلى هذه البرك عليها أن تخترق مسافات وعرة فجاج و الأراضي المنبسطة والشديدة الغور في آن واحد، فهذه المنطقة تزج بين بيئات ثلاث، جبال الأطلس الممتدة التي لم تكتشف إمكاناتها الحقيقية بعد، والتي تعد البيئة الطبيعية لتنمية ثروة الرعي، وثانية هذه البيئات هي الأراضي شبه المنبسطة. أما ثالثة هذه البيئات فهي الغابة المتميزة بأشجارها القزمية. وهكذا تمتد هذه المنطقة في تفاعل بين الجغرافيا والتاريخ. سار بنا الدرب على مسافة نصف يوم كامل حتى نقضي الليل في إحدى "الأوبرجات" التي تعتبر البوابة للعديد من الدواوير، وكان من الممتع أن نتجول على أقدامنا في هذه البيئة الهادئة بعيدا عن سيارات مدينة مراكش الصاخبة، وسواق أوريكة و أحد جوانبه المختص لكل أنواع الأغنام في المنطقة المجاورة ورائحتها لا تغادره ليلا أو نهارا، وهي تهيمن على كل ما يحيط بها من جوانب السوق، والكثير من الصناعات يحافظ عليها شيوخ من كبار السن ما زالوا يحملون في أعماقهم سر الصنعة ويجدون متعتهم في ممارستها، أحد الشيوخ قال لنا لماذا لا تذهبون لزيارة بيت "عقا" المسن داخل الدوار سوف يرحب بكم وتجدون فيه آثارا من كل تلك الصناعات التقليدية، في البداية حسبت أنه يعني متحفا حكوميا صغيرا ولكن الأمر كان مبادرة أهلية من واحد بن عشاق هذا الفن التراثي استطاع أن يحول بيته الصغير إلى مركز المأثورات، وقام بجمعها من مختلف أجزاء الجبال والغابة الكثيفة. عندما توجهنا إليه لم يكن موجودا ولكن أهله أصروا على دخولنا وقدموا لنا الشاي قبل أن يعرض أخوه أمامنا مقتنياته بطريقة لا تخلو من الاعتزاز أجزاء من أنسجة الصوف وصناديق أثرية مصنوعة من جذور الأشجار وأسرجة من الجلد المدبوغ وقرب للماء ومصابيح صدئة وخناجر مطوسة من الفضة. كانوا قد جمعوا ،بدأب شديد، كل الأدوات المهددة بالانقراض أمام زحف التقدم، تحدث إلينا أخوه عمر، بحب وهوس عن تاريخ كل قطعة في المنزل، وكيف كانت تستعمل وكيف تم العثور عليها، لم أكن أفهم الكثير من لهجته الأمازيغية السريعة الإيقاع ولكنها أخذتني معه رغما عني إلى ذلك الإحساس بقوة ما تمثلة البراءة في نفوسهم. إن هيبتي من الجبال تكون دائما شديدة الوطأة، إنها اللانهاية التي تذكرك بالمصير البشري، ذلك لأنني أعد مسافاتها بالأمتار، وقد قدر لي أن أجتاز في إقليمالحوز العديد من هذه المفازات، في جادة " سيدي فارس" على أطراف الربع الخالي، وفي المنطقة الجبلية. في البداية كانت الجبال العالية تبعث في النفس بعضا من المؤانسة، كما لو أنك طوال الوقت في رفقة من يقوم بحراستك، ولكن عندما تكون الأرض مستوية وممتدة أمامك فإن الرعب الذي تثيره يكون كبيراً، كانت الجبال تواصل تغيرها على مدى عيوننا، ولا نعدام أحيانا رؤية بعض القرى المتناثرة. وبرغم قسوة المنطقة فمن الصعب على ساكنيها الحياة خارجها، وهي ليست خالية من المزروعات كما يتبدى لنا للوهلة الأولى، ففي كل مسافة كانت تبرز أمامنا مجموعة من الأشجار التي تنبت ورقا أخضر رغم لونها الرمادي، عرفت فيما بعد أنها شجرة الصفصاف وهي واحدة من أهم الأشجار بالنسبة للساكنة، وهي شجرة فريدة ونبيلة أيضا، تنمو على ضفاف الأنهار والسواقي على شدة طولها فهي تمثل القدرة على مقاومة الدهر وقسوة الطبيعة. وهي لا تجود بظلها فقط ولكنها تقدم الخشب اللازم للصناعة المحلية والحطب لوقود الإنسان، وحتى عندما تحاصرها البرودة المفرطة من كل جانب فهي تقاوم ذلك، ويقال إن الذي يحافظ على حياة هذه الشجرة هو جذورها البالغة ، أي أنها يمكن أن تستمد ماءها من الطبقات العميقة وهو الأمر الذي يساعدها على مقاومة أشد الفترات قساوة. تاخذنا العودة إلى مدينة " مراكش" إلى نفس المسار، نعبر قرى و دواوير، وتبدو الجبال الشامخة المحيطة بنا شديدة الوعورة، على الطريق البري إلى مدخل المدينة توجد بوابة قديمة " باب الرب". كانت تتحكم قديما في الداخلين إلى المدينة والخارجين منها ... لقد قدر لي أن أعيش تجربة السياحة الجبلية ، وقد علمتني الجبال الشامخة تجربة لن أنساها ما حييت، وقد سألت نفسي لحظتها، كيف استطاع سكان هذه المنطقة أن يتغلبوا على هذه الأهوال بأفكارهم البدائية القديمة وقد ظل هذا السؤال معلقا حتى عاشرتهم ورأيت طريقتهم في العيش وعرفت سر هذه الخبرة العميقة التي اكتسبوها في صراعهم مع القسوة بأشكالها المتنوعة.