في قمم سلسلة جبال الأطلس المتوسط، وعلى ارتفاع يصل إلى أكثر من 2000 متر عن سطح البحر، تعيش ساكنة الدواوير التابعة لقرية» تقجوين»،على غرار عدد من المناطق الجبلية، واقعا اجتماعيا مأساويا تتحالف فيه الطبيعة والحرمان لصناعة «إنسان الثلج» الذي يواجه عدوا يزور المنطقة كل سنة..إنه «أصميد». «لا يمكن أن أذهب إلى التقجوين، لأن الطريق قد تنقطع في أي لحظة». هكذا كان جواب سائق سيارة للنقل السري، الذي طلبنا منه أن يقلنا نحو منطقة تقجوين، ليكون رده الرفض نظرا للحالة الجوية السيئة، ووجود مخاوف من انقطاع الطريق بسبب إمكانية تساقط الثلوج، قبل أن يبادر زميله «موحا» ويطلب منا أن نركب سيارته. كانت الساعة تشير إلى حوالي الواحدة زوالا حين وصلنا إلى «أغبالو يسردان»، قرية تبعد عن خنيفرة بحوالي 20 كلم. صعوبة المنعرجات الرابطة بين خنيفرة وأغبالو كانت مجرد بداية لرحلة خطرة ستقودنا إلى قرية «تقجوين» ودواوير «آيت حنيني» و»أونزا» وقرى تقع تحت النفوذ الترابي لقيادة تونفيت. في «أغبالو يسردان» كان آخر عهدنا بوسائل النقل المنظمة، لنستقل سيارة للنقل السري لصاحبها موحا، الذي سيأخذنا في رحلة وسط جبال الأطلس المتوسط الشامخة، وسط انخفاض شديد لدرجة الحرارة، فيما تزيد صعوبة المسالك غير المعبدة من مشاق الرحلة نحو تقجوين أو «الطائر الأسود». «إنغوياخ أصميد» (قتلنا البرد)، يقول موحا وهو يتأهب للتوقف عند نقطة لبيع الحطب، الذي يشكل مادة أساسية للعيش في هذه النقطة الجبلية. يترجل سائق السيارة نحو بائع الحطب متحدثا إليه لبضع دقائق، قبل أن يعود إلى السيارة، ويبادر في الحديث قائلا: «الحطب بالنسبة إلينا شرط أساسي للعيش في هذه القرى، فإذا أضفنا انعدام التدفئة إلى غياب الطريق والمستشفى وغير ذلك من المستلزمات الأساسية فإنه لن يبقى أمامنا إلا الرحيل». تسير السيارة نحو تقجوين، لتبدأ الجبال المكسوة بالثلوج في احتضان الوافدين وكأنها تنطق بالمثل القائل: «الداخل مفقود والخارج مولود»، فكلما ازدادت السماء تلبدا بالغيوم إلا ووضع السكان أياديهم فوق قلوبهم خوفا من انقطاع السبل بسبب تساقط الثلوج. واقع يعلق عليه موحا بأسى شديد: «قد نبقى محاصرين بالثلوج لأيام دون أن يتحرك المسؤولون لإرسال آليات إزاحة الثلوج لفك عزلة السكان». الحطب قوتنا الأول وصلنا تقجوين بعد رحلة قاربت ال45 دقيقة، رغم أن القرية لا تبعد عن جماعة «أغبالو يسردان» بأكثر من 20 كلم. المكان عبارة عن تجمع سكاني أغلب دوره مبنية بالطين، بلا طرقات ولا مسالك معبدة ولا حتى قنوات الصرف الصحي. في مدخل القرية كان مجموعة من التلاميذ بدوار آيت يحنيني يتجهون نحو مدرسة القرية وهم يحملون قطعا خشبية لتدفئة حجرات الدراسة، أما نساء الدوار فلا هم لهم في الصباح إلا الصعود نحو الغابة لجلب حطب التدفئة على دواب، أو حتى فوق ظهور تنوء بثقل حجم الحطب الذي يتم استقدامه من الغابة كل يوم. «أصعد كل يوم إلى الغابة لجلب حطب التدفئة، لأن درجات الحرارة جد منخفضة ولا يمكن لنا أن نعيش بشكل عادي بدون تدفئة»، تقول عيشة، وهي تكاد تختفي تحت الحطب الذي استقدمته من الغابة. ترددت هذه السيدة في الحديث إلينا في البداية، لتواصلها بالأمازيغية فقط، قبل أن نخاطبها بلغتها الأم، فتزيد في حكي المعاناة موضحة: «الحياة هنا صعبة جدا، وقد نحاصر لأيام أو أسابيع وسط الثلوج، وبالتالي نقوم بتخزين الحطب قبل تساقط الثلوج». ملامح السكان رسمت عليها الطبيعة القاسية للمنطقة تجاعيد وتضاريس وعرة، أخذ منها البرد والصقيع بريقها في عمر الزهور، لكنها لم تستسلم لواقع مرير تتحالف فيه الطبيعة والإنسان لصنع أسباب البؤس والحاجة، أما من كان قدره أن يقطن في مناطق أعمق فسيكون مصيره العيش في الظلام، ومواجهة أوضاع قاسية في قلب جبال الأطلس المتوسط. منسيون في الظلام كلما اقترب مساء تقجوين، إلا وازداد المكان قتامة وظلمة، وانصرف السكان نحو دورهم ليتحلقوا حول مدفئة حديدية، وكؤوس شاي تدفئ أجسادهم الهزيلة. «حياتنا روتينية جدا، تنطلق في الصباح الباكر وتنتهي عند أولى خيوط الظلام»، يوضح محمد، مواطن بتقجوين، في حديث ل»المساء». تركنا دوار آيت حنيني يقبع في صمت رهيب، وحياة جامدة رمى بها التهميش والنسيان من وراء الجبال، بدون أدنى متطلبات العيش الكريم، ورحلنا نحو دوار «أومزا» البعيد بحوالي ثماني كيلومترات عن مركز تقجوين. الرحلة نحو دوار «أومزا» ليس أقل قساوة من سابقتها، فالمسلك الوحيد المؤدي إلى ساكنة هذه المنطقة ليس إلا من صنع السكان، بعدما اضطروا إلى التشمير عن سواعدهم لإيجاد مسلك نحو أقرب نقطة قروية للدوار. وصلنا منزل أولحاج بعد حوالي نصف ساعة، وهناك ستكون المفاجأة. ساكنة هذا الدوار الذي يتعدى عدد منازله الطينية الأربعين تعيش عزلة تامة عن العالم الخارجي من دون كهرباء، ومعتمدة فقط على الشموع أو القناديل أو البطاريات الكهربائية لمن استطاع إلى ذلك سبيلا. يقول أولحاج بنبرة تحمل الكثير من الغضب على واقعه المرير: «عندما أذهب إلى المدينة أجد عمودا كهربائيا بأربعة مصابيح، وطريقا معبدا تستطيع أن تسير فيه أربع سيارات بشكل عادي، أما هنا فلا نتوفر حتى على خط للربط الكهربائي، أو طريق معبد تمكن السكان من الانتقال بشكل عادي لقضاء أغراضهم، أو نقل المرضى إلى المستشفى». داخل الغرفة الخاصة للضيوف، تحلق أبناء أولحاج حول شاشة التلفاز الذي يتم تشغيله باستعمال البطارية، وأي محاولة لتشغيل معدات أخرى من قبيل شاحن الهاتف ستنتهي بتماس كهربائي يجلب على المتسبب فيه غضب جمهور المتفرجين، ليثور كبيرهم قائلا: «سير أتقيمت جلماخ أنتفرج» (اذهب لتجلس واتركنا نتفرج). خلال زيارتنا لبيت العائلة، كان التلفزيون العمومي ينقل جلسة التصويت على مشروع قانون المالية في إطار قراءة ثانية داخل مجلس النواب، فعلق رب الأسرة أولحاج على خطاب أحد البرلمانيين قائلا: «غير لكذوب هادشي». وكلما سألناه عن رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران إلا ورد قائلا: «في البداية كنت أثق فيه، لكننا سمعنا لخطابات كثيرة ولم نلمس أي تغيير في حياتنا بهذا الدوار». «أبريد» والبرد في طريقنا إلى منطقة تقجوين صادفنا مجموعة من اللوحات تدل على وجود أشغال لتهيئة الطريق الرابط بين القرية وجماعة «أغبالو يسردان» في إطار البرنامج الوطني للطرق القروية، لكن واقع الأمر لا يوحي بذلك، فكلما اقتربنا نحو القرية إلا وتضيق الطريق حد الاختناق، قبل أن يجد موحا نفسه يقود السيارة في مسلك ترابي. حسب بعض الفاعلين في المجتمع المدني المحلي فقد سبق لعدد من الجمعيات أن وجهت رسائل وشكايات تطالب فيها بضرورة التدخل لرفع العزلة عن السكان، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، حتى أصبح حلم تعبيد الطريق هدفا بعيد المنال، لسكان ضاقوا ذرعا من سياسة التهميش والحرمان. «في الماضي لم نكن نعرف حقوقنا، لأن غالبية السكان كانوا أميين، لكننا اليوم نطالب بأبسط متطلبات العيش الكريم»، يقول محمد في حديثه ل»المساء» بصوت ملؤه القهر والضيم، قبل أن يسترسل متسائلا: «أليس سكان الجبال مواطنين أيضا؟ وكم ستكلف طريق من 20 كلم للدولة؟ ألن يرفع المسؤولون حيفا كبيرا عن هؤلاء السكان إذا استثمروا في الطريق التي ستمكننا من نقل النساء الحوامل، وقضاء أغراضنا؟». يقول أحد الظرفاء الذي صادفناه في مدخل القرية إن هذه المنطقة يتحالف فيها «أبريد» أي الطريق والبرد لمضاعفة مأساة السكان الإنسانية، الذين لم يعودوا في حاجة إلى الإعانات الغذائية أو الألبسة، بقدر ما هم في أمس الحاجة إلى الطريق والمستشفى. حوامل على الدواب كثيرة هي مآسي النساء الحوامل في الدواوير التابعة لمنطقة تقجوين، وعدد من القرى الواقع في سلسلة جبال الأطلس. فانعدام الطرق والمواصلات، وعدم توفر سيارات الإسعاف يجعل حياة الحوامل وأجنتهن في خطر حقيقي، يوقع بعضهن في خطر الإجهاض، فيما تضطر أخريات إلى وضع مواليدهن في الطريق نحو المستشفى. يحكي أولحاج أن المخاض داهم إحدى السيدات بدوار «أومزا»، فاضطر السكان إلى نقلها على متن الجرار إلى حين الوصول إلى الطريق المعبد، فيما اضطر بعض المواطنين إلى نقل أخريات على متن الدواب. تصريحات سيتدخل أحد أصدقاء أولحاج ليزيد في توضيحها عندما سيؤكد أن تساقط الثلوج قد يكون سببا في وقوع الكارثة لسيدة حامل أو مريض في وضع حرج، بعدما تنقطع الطرق ويصبح الوصول إلى أقرب نقطة مؤدية إلى المستشفى صعبا للغاية. إشكالية الاستشفاء في هذه الدواوير الجبلية، على غرار عدد من المناطق في الأطلس المتوسط والكبير، ترتبط بضعف الخدمات الصحية. فقرية تقجوين تتوفر على مركز صحي وحيد يشرف عليه ممرض يقدم بعض العلاجات الأولية، بسبب ضعف الإمكانيات وغياب طبيب يمكن السكان من خدمات صحية في المستوى، حسب تصريحات أدلى بها السكان. واقع يضطر معه قاطنو هذه الدواوير إلى الانتقال نحو المستشفى الإقليمي بميدلت للاستشفاء، أما النساء الحوامل فقد يتمكن من الولادة بشكل طبيعي بمستوصف تونفيت، أو يتم نقلهن إلى المستشفى الإقليمي في حالة وجود عسر في الولادة، «لكن في غالب الأحيان، نتفادى التوجه إلى تونفيت لأنه سيتم إرسالنا إلى ميدلت»، يضيف محمد، قاطن بالدوار. هنا تختلط حكايات الطبيعة وقساوة واقع التهميش والحرمان، الذي يسائل من رمى بمئات السكان من وراء الجبال، دون أن يلتفت إلى الوراء لتقديم يد العون لتحقيق التنمية، وجعل الإنسان منتجا للثروة، عوض أن يكون مستهلكا لإعانات الدولة وجمعيات المجتمع المدني... ف»الطرق والمستشفى والمدرسة»... هي مطالب المهمشين في قرى تقجوين. تلاميذ يركبون البغال طلبا للعلم كانت الساعة تشير إلى حوالي السابعة الصباح في اليوم الثاني من زيارتنا لدوار «أومزا» التابع لجماعة تقجوين، وفي الوقت الذي انهمكت فيه زوجة رب البيت في إعداد الفطور، كانت بنات أولحاج قد استعددن للانطلاق في رحلة جديدة نحو المدرسة على متن البغال. «الجو جد بارد، لكن لابد أن نذهب إلى المدرسة لنتعلم إلى جانب باقي تلاميذ القرية»، تقول إحداهن وقد احمرت وجنتاها من شدة انخفاض درجة الحرارة. في هذا الصباح سيتكلف الابن الصغير لأولحاج، الذي خرج مبكرا من المدرسة، باصطحاب أخواته إلى حجرات الدراسة، قبل أن يعود لنقلهن من جديد نحو البيت بعد نهاية الدرس. التزام أولحاج بتدريس بناته يبدو جليا في سعيه الحثيث لضمان مواصلتهن الدراسة، حيث يقول: «لا يمكن أن أقبل بانقطاع بناتي عن الدراسة، رغم أن المدرسة بعيدة، وتوجد حجرة واحدة يدرس فيها تلاميذ مختلف المستويات الابتدائية». ثم يضيف متحدثا عن المدرسات: «حتى المعلمتين المكلفتين بتدريس أطفالنا تعانيان من هذا الوضع الصعب، خاصة وأنهما ليستا من هذه المنطقة، وقد شعرتا بالقلق والخوف من العيش في هذا الدوار الذي تحيط به الجبال والغابات». مشهد آخر ينفرد به تلاميذ «أومزا» والدواوير التابعة لتقجوين، في كفاحهم ضد البرد، يتمثل في وجود الحطب ضمن لائحة المستلزمات الدراسية. فالتلاميذ في هذه المنطقة الجبلية ملزمون بحمل قطعة خشب لكل واحد منهم لضمان تدفئة حجرات الدراسة، فيما يتكلف الآباء في مناطق أخرى بحمل أطنان من الحطب إلى المدرسة، حتى يدرس أبناؤهم في درجة حرارة ملائمة.