شبح خطير وقاتل يهدد هذه الأيام أزيد من 25 ألف نسمة من سكان مدينة تحناوت بإقليم الحوز. انقطاع الماء عن المنطقة بالكامل لمدة فاقت الأسبوع جعل حياتهم مهددة بالموت بفعل العطش، مما يعني أنه سيتم الإعلان عن أن مدينة تحناوت منطقة منكوبة إذا استمر الوضع أسابيع أخرى، مما يتطلب إعلان «حالة طوارئ». كل شيئ في مدينة تحناوت تنبئ بكارثة مرتقبة. هدوء حذر تعرفه المدينة هذه الأيام، ورائحة كريهة تنبعث من كل جنبات ومرافق المنطقة، ملامح عدد من الأطفال والنساء والشيوخ تنذر بأن انعدام الماء سيتبعه لا محالة عزاء وفناء. الساعة تشير إلى العاشرة والنصف من صباح يوم السبت 30 نونبر الماضي، توقفت الحركة بمدينة تحناوت القريبة من مراكش الحمراء، إلا حركة الشاحنات المحملة بصهاريج المياه، كتب عليها «عمالة إقليم الحوز». الشاحنات تسير في اتجاهات مختلفة، لعلها تغطي احتياجات السكان من الماء الصالح للشرب، لكن «هيهات هيهات» يقول عبد المقصود، أحد شعراء المدينة في حديث مع «المساء». تنطلق الشاحنات منذ الصباح الباكر من منطقة «تدارت»، التي تنعم على طول السنة بالماء الشروب، والتي تبعد عن وسط المدينة بكيلومترات قليلة، في اتجاه تحناوت من أجل إنقاذ المدينة وسكانها من «شبح» الموت عطشا. شاحنة تدور حول المدار الموجود بمدخل المدينة، وتصعد في اتجاه مقر العمالة، حيث ينتظر العشرات من الأطفال والنساء قدومها بترقب كبير، نظرا لحاجتهم القصوى للماء، وعيائهم بسبب طول الانتظار. عربة الأطفال (لابوسيت) لنقل المياه بمجرد أن وصلت الشاحنة المحملة بالماء، توجه صوبها عدد من الأطفال، الذين كانوا يحملون قنينات كبيرة، دون أن يدعوها تنزل الصهريج أرضا. الكل يتسابق من أجل ملء القنينات بالماء. كانت ضمن المنتظرين امرأة لم يتجاوز عمرها 22 سنة، تضع طفلتها على ظهرها، فيما كانت تمسك بعربة صغيرتها (لابوسيت)، لاستغلالها في نقل المياه. اقتربنا منها، وسألناها أن تحكي لنا عن طبيعة المشاكل التي تواجهها في المنزل بسبب انقطاع الماء، فلم تتردد في وصف الوضع ب«الجحيم»، قبل أن تضيف بأن «الماء صار شبه منعدم إلا من هذه القنينات، والحاجيات لم تعد تلبى، وابنتي صارت مريضة». سألناها: كيف ذلك؟ فأخبرتنا بإصابة رضيعتها بالتهاب وتعفن جلدي، جراء عدم تنظيفها من فضلاتها بسبب انقطاع الماء، وهو «أمر جعل الوضع الصحي لطفلتي صعب جدا»، تضيف الأم، التي انقطعت عن الدراسة بعد مضي خمس سنوات من التمدرس. التسممات المعوية تركنا السكان متجمهرين حول صهريج المياه، واتجهنا صوب أحد الصيادلة لسؤاله عن تأثير أزمة المياه على الوضع الصحي للأطفال والسكان، وعما إن كان استقبل حالات مماثلة لحالة تلك الرضيعة، فلم يفاجأ بسؤالنا مطلقا نظرا لمعرفته بالوضع الذي صارت عليه المدينة، وكذا استقباله حالات عدة لبالغين وأطفال لم يعد مرضهم جلديا فقط. وبعد حديثه عن انعدام الماء الصالح للشرب وتلوث المياه، قبل أزيد من شهر، بسبب طفو الأوحال (الغيس) على الفرشة المائية، كشف الصيدلاني، الذي فضل عدم ذكر اسمه، عن إصابة العشرات من السكان، خصوصا الأطفال والنساء الحوامل، بتسممات معوية بشكل ملفت للنظر، مضيفا أنه صار يستقبل حوالي 6 حالات يوميا من المصابين بتسممات معوية، تتطلب تناول أدوية مضادة لهذه التسممات، «التي لا أعرف ما إن كان سببها المياه الملوثة أم شيئا آخر». بعد ذلك اتجهنا صوب المجزرة، التي تذبح فيها المواشي والأكباش، والتي لا يفصلها عن مقر نيابة الحوز، التابعة لوزارة التربية الوطنية، سوى ممر ضيق بعرض ثلاثة أمتار. وهناك عاينا فضلات المواشي والأكباش المذبوحة متناثرة في جنبات المجزرة الصغيرة، تحيط بها حفر كبيرة مليئة بالمياه العادمة الملوثة بالميكروبات. فيما كانت الروائح الكريهة تملأ المكان وتجعل المرور بالقرب من المجزرة أمرا صعبا بالنسبة إلى المارة. أطر تهرب من «الجيحة الكحلة»
الوضع بالمنطقة صار لا يطاق، لدرجة أن عددا من الأطر والكفاءات بدأت تغادر تحناوت صوب مراكش وبقية المدن التي تقطن فيها أسرها وعائلاتها. نجيب، وهو شاب لم يتجاوز عقده الثالث وإطار بإحدى المؤسسات المعروفة بالمنطقة، لم يعد يجد لذة في العيش في هذه المدينة، التي «صارت تذكرني بأفلام الرعب، التي تصور لحظات الجيحة الكحلة». صارت الحياة في مدينة تحناوت بالنسبة إلى نجيب، الذي يتحدر من مدينة الصويرة، «مستحيلة»، بسبب المياه الملوثة التي تغير لونها ورائحتها، واختلطت بها مياه الواد الحار. كما لم يعد يقضي إلا سبع ساعات في المدينة، ليتوجه بعد ذلك إلى مدينة مراكش من أجل الاستحمام هناك، وتناول وجباته، والنوم بشكل مريح، إضافة إلى استنشاق هواء نقي، قبل أن يعود في الصباح الباكر قاطعا حوالي 30 كيلومترا على متن سيارته الصغيرة. يقول نجيب: «لم أعد أطيق المكوث في المدينة الجميلة ولو دقيقة واحدة، فالكل يوحي ب «كارثة حقيقية»، حتى أن مردوديتي داخل المؤسسة تراجعت بشكل ملحوظ، ولم أعد أنعم بالراحة، التي كانت توفرها لي المدينة وطبيعتها الخلابة». مهندس آخر، فضل عدم ذكر اسمه، صار يقضي نهاية الأسبوع خارج المدينة، وتحديدا بمدينة الدارالبيضاء. يقول هذا المهندس: «تعرفون أهمية الماء في قضاء حياة الإنسان، سواء في الاستحمام أو الأكل أو غسل الأواني، لذلك قررت مغادرة المكان لانعدام ذلك». قبل أن يضيف: «لم أحد أتحمل العيش في ظل هذا الوضع، الذي تنعدم فيه نعمة الماء، الذي قال عنه الله تعالى وجعلنا منه كل شيء حي». المئات يستغيثون بالداخلية بعد أن ضاق سكان مدينة تحناوت ذرعا بالوضع المأساوي والخطير، الذي صارت تعيش تحت وطأته المدينة، المحاطة بمناطق غنية بالماء كمنطقة أوريكا، وإمليل ومولاي ابراهيم!، خرج المئات منهم إلى الشوارع للاحتجاج، بعد أن ملوا من وعود المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، وعجزه عن وضع حد لمأساة 25 ألف نسمة تقطن بالمدينة. يقول إبراهيم النفراوي، أحد المحتجين، إنه مضطر إلى الخروج للاحتجاج أمام مقر عمالة الحوز من أجل إنقاذه من كارثة «ستحل بأسرتي وجيراني وأقاربي»، مشيرا إلى أنه خرج رفقة زوجته وابنته «وفاء» وابنه الصغير «الراضي» من أجل الاحتجاج، وطلب «تدخل عامل صاحب الجلالة من أجل إنقاذي رفقة أسرتي التي تحتضر يوما بعد يوم». «هذا عيب هذا عار..تحناوت في خطر»، كان هذا أبرز شعار صدحت به حناجر أزيد من 200 مواطن خرجوا يوم الجمعة الماضي للاحتجاج أمام مقر عمالة الحوز. خرجوا بعفوية ودون تأطير من قبل أحزاب أو هيئات نقابية، اللهم بعض الجمعيات، التي وقفت إلى جانب المحتجين، وحاولت ضبط سير الوقفة وسلميتها. بعد صلاة الجمعة انطلقت أول الشعارات وحج المئات من الغاضبين، منتظرين خروج يونس البطحاوي، عالم إقليم الحوز. لكن تأخره عن النزول لامتصاص غضبهم أجج نار الاحتجاج أكثر لدى السكان، الذين اعتبروا أن الداخلية غير «آبهة بحالنا». فيما أوضح مصدر من العمالة ل«المساء» أن عامل الإقليم كان في لقاء مغلق مع بعض المسؤولين عن المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، في الوقت الذي كلف باشا المدينة بعقد لقاء مع ممثلي السكان المتضررين، بحضور ممثل الحوض المائي، والمكتب الوطني للماء الصالح للشرب، وعدد من المصالح الخارجية. احتجاجات على المكتب الوطني للماء وفي الوقت الذي لحق عامل إقليم الحوز يونس البطحاوي هو الآخر «أذى» المكتب الوطني للماء، على اعتبار أن المياه الملوثة اخترقت قنوات مياه إقامته الخاصة، حسب معلومات حصلت عليها «المساء» من مصادر عليمة، استعرض ممثل المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، خلال لقاء جمعه بممثلي الجمعيات المدنية والسكان المتضررين، استراتيجية المؤسسة للنهوض بقطاع الماء الشروب، وتزويد المنطقة بهذه النعمة، من خلال جلب المياه من منطقة «تدارت»، في أفق حفر آبار جديدة، واعتماد فرشات مائية أخرى. لكن هذا العرض لم يرق لممثلي الجمعيات والسكان. إذ وجه عدد من ممثلي المحتجين سهامهم صوب المسؤول عن قطاع الماء الشروب، معتبرين عرضه وسيلة من أجل «تهوين المشكل ليس إلا». وأوضح مصطفى البزار، رئيس جمعية القيروان للتنمية والبيئة، خلال اللقاء ذاته، الذي احتضنه مقر العمالة، أن كلام ممثل المكتب الوطني للماء الصالح للشرب مجرد «ذر للرماد في العيون»، معتبرا أن المشكل الأساسي يكمن في أن المؤسسة المفوض لها تدبير هذا القطاع الحيوي «لا تملك رؤية استراتيجية للنهوض بقطاع الماء الشروب بالمنطقة». وأشار البزار، الذي لم يتوقع ممثل المؤسسة، التي يرأسها الفاسي الفهري أن يوجه ممثل ساكنة تجزئة «القيروان» التابعة لمدينة تحناوت سهام نقده لما عرضه من مقترحات، إلى أن المؤسسة المذكورة لم تقم بإنجاز أي مشروع تنموي للنهوض بقطاع الماء الصالح للشرب منذ دخولها إلى المنطقة سنة 1992، مبرزا الإمكانيات الهزيلة للمكتب الوطني للماء الصالح للشرب، «التي أبان عنها منذ تسلمه مسؤولية تدبير القطاع». وفي هذا الصدد كشف ممثل جمعية القيروان للتنمية والبيئة أن المؤسسة المذكورة لم تضف أي آبار جديدة أو قنوات مياه إلى تلك التي تركها الاستعمار، مضيفا أن ذلك من شأنه أن يزرع في نفوس «الضعاف» أن الاستعمار أرحم من المكتب الوطني للماء الصالح للشرب. إبراهيم أوشراع، فاعل جمعوي، ورئيس جمعية ودادية الثقافة والتنمية الاجتماعية بمدينة تحناوت، قال في لقائه ب«المساء» إن القائمين على الشأن المائي بالمنطقة «لا يملكون أي مخطط استراتيجي»، على اعتبار أن تزايد عدد سكان تحناوت يجب أن تواكبه استثمارات ومشاريع في مجال الماء الصالح للشرب، مشيرا إلى أن خروج المواطنين للاحتجاج أمام عمالة الحوز كان فقط للمطالبة بالضغط على إدارة المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، التي «تصم آذانها عن أنين المساكين». وأوضح أوشرع أن الغاضبين «ليس لهم أي مشكل مع وزارة الداخلية في شخص عامل إقليم الحوز»، وإنما حضورهم أمام المقر للاحتجاج هو فقط «لجوء إلى هذا المسؤول من أجل التدخل لإيجاد حل ووضع حد لمعاناة الساكنة التي يعرفها جيدا». مواطنون ينشئون آبارا في ظل هذا الوضع لم يعد سكان مدينة تحناوت يفكرون إلا في الاقتداء بسكان بعض الدواوير المجاورة. فقد قام سكان دوار المكاسم، حي تارزينت، منطقة الزمومة، درب الشمس، وبلعزيب بإنشاء جمعية تعمل في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتزود السكان بالماء الصالح للشرب، من خلال حفر بئر لكل منطقة، مقابل دفع اشتراك قدره ألف درهم. هذا الخيار صار بالنسبة إلى المحتجين هو الحل الوحيد والأوحد، تاركين المكتب الوطني للماء الصالح للشرب يزود «الأشباح»، يقول محمد، أحد المتقاعدين، الذي صار يؤدي 1000 درهم لمدة ثلاثة أشهر، وهو الأمر «الذي يجعلنا نصعد إلى الشطرين الثاني والثالث، في الوقت الذي من المفترض أن يؤدي السكان فاتورة الشهر، الذي هو مطلب جموع التحناوتيين». وبالرغم من رفض أحد المسؤولين بالمكتب الوطني للماء الصالح للشرب بمدينة تحناوت الرد على أسئلة «المساء» إلى حين توجيه مراسلة كتابية إلى الإدارة في الموضوع، فإن الرد الوحيد، الذي تلقته الجريدة عن سؤال: كيف يعقل أن تعيش المنطقة أزمة في الماء وهي محيطة بمنطقة سيدي ابراهيم وإمليل وأسني وأوريكا الغنية بالمياه العذبة؟، كان هو أن المنطقة توجد في منطقة عالية يصعب معها جلب المياه من الأرض بسهولة، لتظل صعوبة جلب المياه، وتأخر تهاطل الأمطار الجواب الوحيد، الذي تقدمه المؤسسة المذكورة، بدل وضع مخطط مستقبلي يرسم خارطة طريق السنوات المائية المقبلة، والاستثمار في مشاريع تزيل الصعب، وتنجز قنوات، وتبحث عن فرشات، لتقرب الماء من المواطنين، وتجعلهم في منأى عن الهلاك.