أخيرا ينظم المغرب كأس العالم. صحيح أنه ليس كأسا كامل المواصفات، بل مجرد كأس صغير للأندية، لكنه في كل الأحوال كأس عالمي يشبه المونديال، وكل ما حدث له هو أنْ تم تصغيره لكي يتحول من «المونديال» إلى «الموندياليتو». في الماضي، حلم المغاربة كثيرا بتنظيم مباريات كأس العالم، وكان الملك الراحل الحسن الثاني يعشق إطلاق تلك القفشات التي يتلهى بها الناس لشهور وسنوات طويلة، لذلك طلب لشعبه الكثير من الكؤوس، لكن كل الكؤوس كانت فارغة، لأن كل ما كان يقدمه المغرب إلى اللجان التي تأتي لمعاينة الملاعب والفنادق هو أوراق كثيرة ملونة موضوعة على لوحات خشبية مزركشة، مع كثير من العصير و»كعب الغزال»، لذلك كل ما ظفرنا به في النهاية هو «زغب الحمار» وليس كأس العالم. اليوم، يتوفر المغرب على عدد من الملاعب الكبيرة والجميلة، لكن مشكلتها أنها تظل فارغة أغلب الوقت، ففي الماضي كان هناك جمهور كبير يعشق الكرة، لكنه كان يتجمع في ملاعب تشبه زرائب الحلوف؛ واليوم، هناك ملاعب جيدة لكن الجمهور غيّر هوايته وأصبح يهتم أكثر بمباريات البارصا وريال مدريد وصفحات الفيسبوك. لكن المشكلة أكبر من هذا بقليل، فالملاعب لا تبقى فارغة بلا سبب، بل لأن هذه الملاعب تم تسليمها إلى شركات خاصة تديرها وفق هواها؛ ومن بين الموبقات التي ترتكبها في الناس أسعارُ التذاكر المرتفعة، وفوق هذا وذاك تتصرف وكأن تلك الملاعب الجديدة ملاعبها، مع أنها بُنيت من جيوب وعرق المغاربة. المشكلة الأخرى هي أن المغاربة الذين احتضنوا هذا «الموندياليتو» في بلادهم لا يستطيعون مشاهدته بالمجان، لذلك كان عليهم أن يتوجهوا نحو مراكش وأكادير أو يتزاحموا في المقاهي، أو يشتروا بطاقات خاصة بالقنوات التي تبث المباريات، يعني أن احتضان بلادهم لهذه التظاهرة لم يقدم ولم يؤخر شيئا. المهم في هذا «الموندياليتو» ليس كل هذا، بل أشياء أخرى كثيرة؛ فتنظيمه جاء بعد مرور أسابيع قليلة على تلك الفضيحة التي عرفها الجمع العام لانتخاب رئيس جديد لجامعة الكرة، وهو الجمع العام الذي تحول إلى ما يشبه تجمع «مقرقبين» في «راس الدرب» وعرف ما لا تعرفه الخمارات من شجار وتبادل للشتائم بين السكارى عند انبلاج الصبح، وهو جمع اعترفت «الفيفا» بكونه يساوي صفرا على الشمال. «الموندياليتو» جاء، أيضا، بعد بضعة أشهر على «طيران» المنتخب المغربي من نهائيات كأس العالم في البرازيل، إلى درجة أن المغاربة نسوا آخر مرة تأهل فيها منتخبهم للمونديال، ويبدو أن سنوات عجافا أخرى قادمة لا محالة، لن نشم فيها رائحة المونديال مادامت الكرة في هذه البلاد قد صارت مثل برميل قمامة نتن. العزاء الوحيد لخيبات المغاربة كان، إذن، هو هذا الموندياليتو؛ والفيفا أعطتنا إياه لأننا «بْقينا فيها بالمعقول» بعد كل ما عانيناه من خسائر بسبب محاولاتنا اليائسة والغبية لاحتضان المونديال، وحدث لنا ما يحدث لأولئك الجوعى الذين كانوا يُمنّون النفس بوليمة «كسكس»، وفي النهاية قنعوا بقصعة «صيكُوك». لكن هذا الموندياليتو، على الرغم من صغر شأنه وهوان مرتبته بين المنافسات، فإنه فضحنا وفضح غرورنا وأشياءنا الظاهرة والباطنة، وكان أسوأ ما عشناه هو حفل الافتتاح الرهيب، لأننا لم نكن نتصور بالمرة أن المغرب سيظهر بين الأمم وكأنه بلد يعيش في كهف، معزولا عن العالم، حتى إن الناس الذين تتبعوه اعتقدوا أنهم يعيشون كابوسا مرعبا خلال نومهم، لكن الكابوس الحقيقي كان هو أن الأمر حقيقة واقعة ولا علاقة لها بالنوم. أكثر المغاربة تشاؤما، وأيضا أكثرهم جرأة على التخيل، لم يكونوا يتصورون أن حفل افتتاح تظاهرة عالمية سيكون صادما إلى هذا الحد، ولم يكونوا يتصورون أن صورة واسم وسمعة المغرب ستنهار مثل حجر ثقيل نحو خندق سحيق، لسبب بسيط وهو أن المسؤوليات في هذه البلاد تُعطى دائما للأغبياء واللصوص والناهبين. اليوم، وبعد أن ينسى الناس قليلا حلاوة المشاركة الجميلة لفريق الرجاء، لا بد أن يقف منظمو ذلك الحفل الكارثي أمام المغاربة لتقديم الحساب، لأن ما جرى ليس مجرد هفوة، بل جريمة.