تداولت الصحف الإيطالية خبرا مفاده نيل مهاجر مغربي دبلوم الهندسة المدنية بامتياز. إلى هنا الأمر عادي وحققه العديد من المهاجرين المغاربة، الذين تحدوا نار الغربة واحتلوا مصاف متقدمة في دول المهجر، غير أن المثير في حكاية "عبد المولى الخديري"، المعروف باسم رشيد، أنه كان بائعا متجولا في طورينو، حيث يقطن وإخوته. إذ كان يتجول ببضاعة بسيطة ربحها قليل، هي "الكلينكس" و"البريكات"، التي امتهنها منذ أن وطئت قدماه إيطاليا رفقة إخوانه وعمره لا يتعدى الحادية عشرة. طالعت الخبر فوقفت مشدوهة أمام تجربة شاب لا تتجاوز سنه السادسة والعشرين سنة. شاب مرح، لا تفارق البسمة محياه تفارقه، ويخدم زبناءه، خاصة طلاب الجامعة حيث يدرس، بكل أدب وتواضع. أكيد أن زبناءه وزملاءه لم يتخيلوا يوما أن مزودهم ب"البريكات" لإشعال سيجارتهم، سيشعل الدهشة في عيونهم حينما تصدر اسمه لوائح النجاح النهائية. وبدوري وجدتني أقف تعظيما لشاب قهر سنوات الغربة واستطاع أن يطأ بقدمه سجاد الشهرة من خلال صبره وسيره على درب النجاح دون كلل ولا ملل، ودون تعال أيضا. لقد امتهن هذا الشاب مهنة بسيطة. لكنه استطاع أن يكون أول الناجحين. تجربة رشيد فريدة من نوعها، ولا يمكن لأي أو أب إلا أن يتمنى أن يكون ابنه أو ابنته، يمتهن مهنة بسيطة وشريفة يوظف مدخولها المادي القليل في تحصيل العلم، خاصة أن شباب بمثل طموح رشيد أصبح عددهم قليلا إن لم نقل نادرا، فالزمن لم يعد كسابقه، حين كانت الأسرة المغربية تجعل مثلا من العطلة السنوية فرصة لتوظيف وقتها فيما يعود على النفع على الأبناء، ذكورا وإناثا، فكانت البنت تتقن عجن خبز "الدار" ولما تبلغ سن السابعة من عمرها، فيحتفل الأهل ب"العباسية" التي هي أول خبزة من صنع يديها. بينما يشمر الولد على ساعديه ويذهب لتعلم حرفة عند أقرب نجار في الحي أو ميكانيكي، لتحصيل بعض الدراهم، تعلمه الكسب الحلال وتذيقه حلاوة الحصول على المال من عرق الجبين، وأيضا للاحتكاك بعالم الكبار حتى يشتد عوده وينضج. ثقافة مثل هاته باتت تختفي من مجتمعنا المغربي، فنحن الآباء نكد باستمرار لتوفير حاجيات أبنائنا، وبعد ذلك نستجديهم للتعلم والوصول إلى المراتب العليا التي نتمناها لهم. هذا واجبنا طبعا، لكن من واجبنا أيضا ألا نرتكب جرما في حق فلذات أكبادنا ونجعل منهم جيلا اتكاليا على غيره، ينتظر وصول الملعقة إلى فمه دون أدنى جهد. رسالتي إلى كل شاب وشابة كونوا كرشيد: "بالقليل وصْلو للْكتير".