سلام عليك وأنت تعدين نار الصباح ... بسيطة هي أحلامهن، بريئة هي وجوههن ، قاسية هي ظروفهن ، كثيرة هي حكايتهن ... كان ظرف حياة ، فجاءت الفكرة ، فنفذت ، فكان المشروع ، مقاولة جد هشة ، تنعدم فيها أبسط ظروف العمل الجيدة ،و في ظل ظغوط الحياة القاسية تصبح مورد مالي مهم لأجل سد رمق الجوع. قسوة ، قوة ، طموح ، ألم ، واقع يفرض نفسه ، يحمل عنوان : تحمل المسؤولية. الحديث هنا ، عن أولائك النسوة ، اللواتي يطرزن جوانب سوق الحناء ، وباب السكة الحديدية بالمرينة و بشوارع سوق الالة رقية ، ومناطق عديدة حيث تكثر حركة البيع والشراء ، وحيث يصبح لبيع الخبز والعجائن مكان ضمن قائمة متطلبات الحاجيات اليومية لسكان المدينة. بيع الخبز والمعجنات ، هذه الظاهرة اللتي تزداد كل يوم بمدينة القصر الكبير ، ابتداأ بسبعة نسوة يمتهن هذه المهنة الى العشرات ممن صارو يمتهنها لحد الساعة . حكايات حيكت لبوابة ومنتديات القصر الكبير ، من طرف بعض بائعات الخبز ، ليس بغرض السرد فقط ، وانما حتى نظهر لروادنا في أي بقعة داخل هذا العالم ، كم هن عظيمات نساء أوبيدوم نوفوم ، هؤلاء النسوة اللواتي يقتلعن الفرح من رحم الألم بقطعة خبز. غابت زهرة هي بائعة للخبر في ربيعها العشرين ، حظها من التعليم لم يتجاوز الثالثة إعدادي قبل أن تضطرها الظروف قبل سبوع سنوات لإمتهان بيع الخبر بباب سوق الحنة . تعيش مع أبويها ، حيث الأب العجوز يعمل بائعا لمسحوق طابا ، و أم مريضة ، و أخ قاصر ، في بيث يعود للورثة ، تتكدس فيه أسرة العم مع أبنائه ، و العمة و أسرتها . تتذكر ضيفتنا المنعرج الذي غير حياتها و حياة أسرتها ، عند إصابة والدها في حادث سير ، جعله يتخلى عن دور رب الأسرة اقتصاديا على الأقل ، ستجد هذا الطفلة نفسها مسؤولة عن الأب المصاب والأم المريضة والأخ الأصغر ، وأمام العشرات من الفواتير الواجب دفعها حتى تستمر الحياة. عن يومها ، تحكي لنا ز غ ، أنه يبتدأ عند الخامسة صباحا ، بطقوس عجن و طبخ الخبز ، حتى يكون جاهزا في الساعة العاشرة كل صباح ، حيث تقتعد الكرسي الخشبي المعتم حول مائدتها الهشة . محاطة بأصوات الباعة المتجولين وبائعي السمك ، هؤلاء اللذين لايكفون عن الصراخ بالكلام الساقط والفاحش . تقول ز.غ أنها كانت في أول الأمر تستحي من سماع تلك الكلمات النابية والتصرفات الغير الأخلاقية ، لكنها الآن بكثرة تكرر الأمر معها كل يوم ، أصبح الأمر عاديا. زبناؤها طوب و حجر ، هناك من يتعامل معها باحترام ويقدر عملها ، وهناك من يتعامل معها على أنها من بائعات الهوى ، حيث تقول باللفظ : كنغوت على شيحد يجي يشري رزيزة ، كيقولي أنا مباغيش رزيزة أنا باغي مرا.. . مواصلة لسردها ، تؤكد لنا ، على أن طرق جلب المال الغير أخلاقية كثيرة هي ، خاصة وأنها لازالت صغيرة في السن ، لكنها تفضل العمل الشريف ، ولاترضى أن تدخل على أسرتها مالا حرام . الحصول على زوج يريحها من هذا العذاب اليومي و يبعدها عن الشارع وعن العجين ، هو أقصى ما تطمح إليه صاحبتنا ، في بوح حميمي لأحلامها ، حيث لم تعد قادرة على العمل الذي يستنزف جهدها . في نهاية سردها الجميل و الشجي ، تجيب بوابة القصر الكبير ، عن ما تفعله عند نهاية عمل يبتدأ منذ الفجر إلى حدود الليل ، بالقول : أذهب مباشرة لأغط في نوم عميق ... أحلام ميتة في مياه الأزرق زوجة لمهاجر عائد من إسبانيا ، بكثير من سنوات الغربة ، و قليل من متاع الدنيا ، لها بنتين في الواحدة و العشرين و السابعة عشر من عمرهما ، ذات مستوى تعليمي ثانوي ، في منتصف الثلاثين من من العمر . عاشت حياة الترف مع زوجها ، التي كفلتها لها عملة الأورو ، هي و بناتها ، حيث لم تغب عن حياتها كل الملذات و الكماليات ، سيارة ، بيت ، و متع ، قبل أن يكون للأزمة العالمية وقع صادم على حياتها . حيث يعود الزوج خالي الوفاض ، مثله مثل الكثيرين من المهاجرين الذين تأزمت أوضاعهم المادية بسبب أزمة وقعت بعيدا بآلاف الكلمترات عن مكان لقائنا و نعيش بعض تجلياتها بباب سوق الحنة . . تقول " ف أ " أنها كثيرا مامرت بهذا المكان الذي تفترشه الآن لبيع الخبز ، لكنها لم يخطر ببالها أن تتغير ظروف الحياة ، ويصبح هذا المكان مصدرا لكسب لقمة عيش أسرتها ، وحتى لاتحس بناتها بالنقص وبتغيير ظروف الحياة ، امتهنت هذه المهنة : بيع الخبز ... واقعها يتشابه في تفاصيله المكانية مع ضيفتنا السابقة ، حتى و إن كان للسن عامل الفرق ، لكن تعامل الناس يظل تقريبا هو نفسه ، من حيث إطلاق أحكام قيمة على ممتهنات هذا النشاط ، من أمية ، إنعدام شروط النظافة لحالة مكان عرض البضاعة ، انعدام العفاف ... حكايتها تتكرر بهذا المكان منذ الإرهاصات الأولى للأزمة ، في إصرار عجيب على أن يكون قدر ضيفتنا مرهونا بأحداث عالمية ، فكانت البداية منذ ثلاث سنوات . السابعة موعد الاستقاظ الجماعي في البيت ، تساعدها ابنتاها على عجن المنتوج و خبزه ، حتى يتسنى لها التواجد في باب السوق قبل منتصف النهار ... حلمها البسيط يتجلى في يوم لا تضطر معه للخروج لبيع الخبز ، و تجلس في بيتها كما تود ، حسب ما صرحت به لبوابة القصر الكبير . خريف العمر الذابل تتقاسم نفس الحلم مع جميع من يمتهن هذا النشاط ، و ضيفاتنا السابقات ، و تتمنى أن تستقر في بيتها دون الحاجة لخروجها كل يوم لبيع الخبز ، خاصة بعدما بدأ المرض ينخر جسمها بشكل كبير . في خريف العمر ، و قد شارفت الستين ، لم يتبقى معها سوى ولد دون عمل قار ، بعدما توفي الزوج ، و تزوجت بناتها الثلاثة ، لم تجد أمامها عملا تقدر عليه سوى عجن الخبر كما فعلت طوال عقودها الستة ، مع إختلاف بسيط و جوهري هذه المرة ، و هو بيع خبزها عوض الاكتفاء بإطعامه لأسرتها . هذا القرار فرضته إجبارية توفير مورد مالي ، لأداء فواتير الإيجار والماء والكهرباء والمعيشة اليومية ؛ ومصاريف العلاج من مرض السكري الفتاك الذي اكتشفت أنه ينهش جسدها في صمت . يومها يبدأ بعد صلاة الفجر ، تفترش إحدى غرفف بيتها للعجن و طهي الخبز ، حتى يتسنى لها التواجد في هذا المكان عند منتصف النهار . بعكس زميلاتها في المكان ، فهي لا تعاني من التحرش و نظرات ليس بريئة بالضرورة لزبناء اعتادوا شراء الخبر و أشياء أخرى ، بل معاناتها تتمحور أساسا حول ما تقوم به من مجهود جبار من أجل عجن كمية وافرة من الخبز و الوقوف أمام الفرن لطهيه . لوعة النسيان "ك ك" تتقاسم نفس السن مع ضيفتنا الأولى ، و بحكم هذا الأخير ، تتقاسم أشياء أخرى ، توقفت مسيرتها التعليمية عند ي السادسة ابتدائي ، عندما هاجر الأب منذ ثلاث عشر سنة إلى إسبانيا ، دون أن ترد أي أخبار عنه ، تاركا بيتا فيه بالإضافة إلى الزوجة ، ستة أفواه تحتاج للإطعام . بعد طول غياب الأب ، وتراكم الديون ، ومستحقات لوازم الحياة اليومية . تجد ك. ك نفسها مظطرة لتحمل المسؤولية ، وبحكم صغر سنها ، وعدم اكتسابها لأي خبرة في العمل ، تمتهن هذه الطفلة ذات 13 ربيعا ساعتها ، بيع الخبز إلى يومنا هذا. بالإضافة إلى الخبز ، فهي تبيع معجنات أخرى ، مثل البغرير و الرزيزة ، حيث تكفلت جدتها بتلقينها أسرار إعداد هاته الأكلات التي تميز المطبخ القصري . تستقيظ رفقة أمها عند الساعة الخامسة صباحا ، حيث تقمن بإعداد العجين و تحضيره ، ليكون جاهزا في حدود الثانية عشر ، الموعد الذي تصر جميع البائعات على عدم الإخلال به ، حتى يتمكن من بيع خبز الغذاء . الشيئ الذي يحز في نفس ك.ك أنها لاتتوفر على ظروف في الحياة تجعلها تعيش مثل بنات جيلها من غير بائعات الخبز ، مثل الخروج مع صديقاتها للتنزه ، السفر ، ممارسة هواياتها ، وتقول باللفظ : أنا إلا بغيت نمشي غي للحمام كنبقى نفكر فنهار للى غنخويه ، وكنبقا نقول بلي أنا هاد النهار ضاعلي كو راني خدمت فيه ، أنا كنبقا دايما كنفكر فحاجة وحدة ، الضو الماء لكرا الحانوت ....الخ تقول أيضا، أن معاناتها هي نفس معانات باقي الفتيات من جيلها ممن يمتهن بيع الخبز ، لكنها لم تعد تهتم للأمر خاصة بعد قضائها لمدة طويلة في امتهان هذا العمل . و أيضا بعد أن تيسر لها حلم الكثيرات من رفيقاتها ، و هو العثور على زوج يحد من معاناتها . مكانها في السوق ، ستستلمه أمها لمواصلة مسيرة بيع الخبز و المعجنات ، بعد أن تذهب هي لبيت الزوجية قريبا . وتسمر قسوة الحياة في اقتلاع الفرحة من وجوه هؤلاء النسوة ، المتخبطين بين عجين الخبز وطهيه ، وبين نظرات المجتمع ، وغياب أبسط ظروف العمل الجيدة ، ومع غياب من يتحمل مسؤولية الرعية و قسوة الحصول على لقمة العيش ، في غياب بديل و مشاريع إقتصادية تمتص اليد العاملة ، يستمر في المجتمع القصري إنجاب بائعات الخبز...