يقينا أن طرح قضية تقنين زراعة القنب الهندي بالمغربي للنقاش العام سيساهم، بطريقة أو بأخرى، في إخراج موضوع كان مرتهنا بمقاربة أمنية صريحة، من دائرة المسكوت عنه، بل سيفضي إلى استفزاز الكثير من الفاعلين، من بينهم الدولة نفسها، بهدف البحث عن صيغة مرضية لملف زراعة الكيف. بيد أنه إذا ظل هذا النقاش داخل أروقة البرلمان وبين النخب السياسية، وأصبح موضع مزايدات سياسية فارغة، فإن الملف مرشح لمزيد من التعقيد، بمعنى أن أي محاولة لتقنين زراعة «النبتة الوطنية والعجيبة» دون التشاور مع السكان ومعرفة رؤيتهم للموضوع ستكون بمثابة الحرث في البحر. ملف الكيف طواه النسيان، طيلة عقود، ليس فقط لأن الدولة تعاطت معه بمقاربة أمنية محضة، بل لأن أطرافا متعددة بالمغرب اطمأنت إلى الأرباح الخيالية التي تجنيها «مافيات كبيرة» لديها امتدادات دولية، كما اعترف بذلك الشيخ بيد الله، صاحب رابع منصب بروتوكولي في الدولة. هذا الاطمئنان سرعان ما تحول إلى شبح مقلق للدولة المغربية في التسعينيات من القرن الماضي حينما أصدر الاتحاد الأوربي تقريره الشهير حول الاتجار بالمخدرات في المغرب. التقرير الذي نزل كالصاعقة على المغرب بسبب تضمنه اتهامات صريحة لشخصيات نافذة وعلاقاتها المتشعبة مع بعض الأمنيين، فرض على المغرب تعاملا جديدا مع القضية بالنطر إلى الدعم المالي الذي كان يتلقاه من الاتحاد الأوربي والتزاماته الدولية. مع ذلك، لم يثر الموضوع، بالكيفية المطلوبة، وسكت الفاعلون، الذين كان من المفروض أن يتكلموا، رغم أن وسائل الإعلام المغربية، وفي مقدمتها منابر الصحافة المكتوبة، احتضنت النقاش حول الكيف، خاصة مع بداية الألفية الثالثة، وأسهمت بشكل كبير في نزع طابع السرية حول الموضوع بملفات وتحقيقات، أثار بعضها نقاشا واسعا. في تقديرنا، يجب أن ينصب النقاش، اليوم، حول تقنين زراعة الكيف على ثلاثة محاور أساسية نراها ضرورية لحل الملف. في المحور الأول، ينبغي أن تنجز دراسات علمية دقيقة جدا للتحقق من إمكانية توظيف نبتة الكيف في زراعات بديلة مثل استخدامها في مجالات طبية وصناعية، والانفتاح على التجارب الدولية ذات العلاقة باستعمال الكيف في «أغراض سلمية». بالنسبة إلى هذا المحور، فهو يهدف إلى أمر أساسي يرتبط بوضع حد لبعض المزايدات السياسية، وتسويق أسطوانة «الزارعات البديلة» في محافل انتخابية معروفة المقاصد. صحيح أن ثمة دراسات عالمية أثبتت أن نبتة الكيف يمكن استخدامها في مستحضرات التجميل وفي صناعة الجلود، لكن ليس بمقدور أن أحد أن يسقط تلك الدراسات على المغرب. تقنين زراعة الكيف وتحديد مساحات زرعه، لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يحل الملف في شموليته، إذ هناك مجموعة من القضايا الأساسية المتصلة بالملف. ولذلك، فإن المحور الثاني يتعين أن ينكب على إيجاد مخارج لمشكلة ما أصبح يعرف بالمبحوثين عنهم في قضايا المخدرات، وهي مشكلة إنسانية واقتصادية عميقة تولد الكثير من الاحتقان في بعض مدن الشمال. من هنا يمكن أن نطرح السؤال: هل السعي نحو تقنين زراعة القنب الهندي يعني نهاية القصة المأساوية للمبحوثين عنهم؟ وهل تمتلك الدولة الشجاعة السياسية للعفو عنهم وفق شروط مدروسة؟ ثم هل لدى الدولة معطيات دقيقة حول عددهم ومآسيهم الاجتماعية؟ الأكيد أن الدولة تتعامل بنوع من المرونة مع ملف الكيف، خشية أن تؤدي المقاربة الأمنية الصارمة إلى نتائج عكسية. ومن الواضح كذلك أن هناك جهودا تبذل في هذا الميدان، وهي جهود موجهة بالأساس إلى محاربة الاتجار الدولي في المخدرات، الذي يتخذ من المغرب منطلقا أساسيا، بيد أن المبحوثين عنهم في قضايا زراعة القنب الهندي بالمغرب ليسوا إلا مزارعين بسطاء -غالبيتهم حتى لا نسقط في التعميم- وفلاحين وجدوا نفسهم فجأة في مواجهة «القدر المكتوب». الناجز أن الجميع مطالب باستثمار النقاش، الذي فتحه حزب الأصالة والمعاصرة حول تقنين زراعة الكيف، للاقتراب من ملفات حساسة من قبيل قضية المبحوثين عنهم، ولن يتأتى ذلك إلا بإشراك المجتمع المدني والسكان أنفسهم، لأن استمراره ينطوي على الكثير من المخاطر الإنسانية والاجتماعية. وفيما يتعلق بالمحور الثالث، لابد للدولة أن تفكر في خلق مشاريع تنموية كبيرة في المناطق المعروفة بزراعة الكيف، وإذا أراد الفاعل السياسي حقا تقنين زراعة الكيف، وتحديد استخداماتها، فعليه أن يكون واعيا بأن هؤلاء المزارعين لا يمكن إقناعهم بسهولة بالتخلي عن زرع وبيع القنب الهندي، بالنظر إلى المداخيل التي تدرها هذه التجارة. ولا شيء أدل بما تنضح به هذه الجملة التي أدرجتها «المساء» في أحد ملفاتها الأسبوعية: «شوف أولدي إيلا ماجابوليناش شي حاجة كتدخل فلوس قل من الكيف، يستحيل تماما أن نتخلى عن زراعة القنب الهندي، لأنه مصدر عيشنا الوحيد، وبه ندرس أبناءنا وبه نقضي حاجياتنا اليومية». بالواضح، المشكل أعقد مما قد يتصوره البعض، ولذلك قلنا إن رأي المزارعين وسكان المنطقة ضروري جدا لأن أي مقاربة سياسية أو اقتصادية للموضوع تقتضي أولا، وقبل كل شيء، القيام بتشخيص دقيق للوضعية الحالية، ووحدهم المزارعون والفلاحون الصغار لديهم الرواية الحقيقية. مهما يكن من أمر، فإن الأهم، حاليا، هو أن الفضاء مفتوح للنقاش على مختلف الأصعدة، وعلى باقي الفاعلين، الذين استكانوا إلى صمتهم فيما مضى، أن يقدموا رؤاهم وتصوراتهم حول الموضوع، وحتى الدولة مدعوة للانفتاح أكثر من أي وقت مضى على النقاش الدائر حاليا، باعتبارها فاعلا أساسيا، ولا شك أنها تمتلك تصورات ووجهات نظر. لقد كان الأديب الأمريكي الشهير بول بولز يقول إن الحشيش المغربي يحرض على الأدب، لكنه يقتل الملايين عبر العالم، وهذه هي بالذات مشكلة الدولة والفاعل السياسي مع قضية الكيف، فلا هي تقدر على التخلي عنه نهائيا مخافة نشوء توترات اجتماعية ولا هي تقدر على الإبقاء عنه بسبب الضغوطات الداخلية والخارجية..ويبقى المشكل معلقا إلى حين. هل المزارعون مستعدون للتخلي عن بيع الكيف لمافيات الاتجار بالمخدرات؟` مهما تكن التخمينات والتدافعات السياسية بين الأحزاب المغربية حول موضوع تقنين زراعة القنب الهندي، المعروف في التعبير المحلي ب«الكيف»، فإن اليوم الدراسي الذي نظمه فريق الأصالة والمعاصرة، مؤخرا، داخل قبة البرلمان يشكل سابقة في تاريخ المؤسسة التشريعية، فأن يناقش في إحدى أهم مؤسسات البلاد موضوع كان إلى وقت قريب يصنف ضمن الطابو، وكان محاطا بالعبارة الشهيرة «top secret» فهو أمر يجب أن يؤخذ على محمل الجد. في العنوان العريض للقاء، تقنين زراعة الكيف واستخدامه في أغراض طبية وصناعية، ما يبعث على التساؤل حول مختلف الأبعاد المرتبطة بالموضوع مثل: هل السكان موافقون على تعويض بيع»الكيف المخدر» ب»أدوية» أو مادة خام معدة للتصنيع؟ من سيقنع آلاف مزارعي القنب الهندي، أولا بجدوى الفكرة وثانيا بمردوديتها؟ وما رأي الفعاليات المدنية في الموضوع؟ كان كل من حكيم بنشماس، رئيس الفريق البرلماني بمجلس المستشارين، والشيخ محمد بيد الله، رئيس الغرفة الثانية، واعيين إلى حد ما بهذه الأسئلة المقلقة، التي تستحوذ على النقاش الدائر حاليا، وبيان ذلك أن كلا منهما، حاول تلمس الموضوع من منظور سياسي أمني بالحديث عن «حالة النفاق الجماعي» ثم «تحكم مافيات المخدرات في الاتجار الدولي في حقول الكيف». غير أن الحديث ظل محتشما، ولم ينفذ إلى عمق المعضلة في كل مستوياتها. سبق ل«المساء» أن أنجزت ثلاثة ملفات متتالية حول إشكالية زراعة القنب الهندي منطلقة من ثلاث قضايا أساسية هي: تشعب المافيات المتحكمة في تجارة المخدرات، وقضية المبحوث عنهم في قضايا متصلة بزراعة الحشيش ثم «حرب الماء والبنادق»، المشتعلة في المناطق المعروفة بزراعة الكيف، وهي في تقديرنا ثلاثة محددات رئيسية لفهم الموضوع في شموليته. من المعروف أن بعض الدول مثل كولومبيا والبرازيل وسويسرا، حاولت أن تجرب استخدام نبتة الكيف كزراعة بديلة من أجل محاربة ترويجها في مناحي سلبية، صحيح أن بعض البلدان استطاعت أن تنجح، على نحو ما، لكن دون أن تحقق مطالب المزارعين الذين كانوا يدرون مبالغ مالية أكبر من التي توفرها الزراعات البديلة. يكفي في هذا الصدد، أن ننقل شهادات لمزارعين من قلب جبال الريف حول النقاش الدائر حاليا حول تقنين زراعة الكيف. يقول الأول إن» مطلب تقنين زراعة الكيف هو مطلب قديم اقترحته بعض الأحزاب السياسية لأغراض انتخابية، لكن الذي يهمنا نحن في هذه المنطقة: هل بإمكان هذه الزراعات البديلة أن توفر لنا نفس المدخول الذي يوفره الكيف في السنة، وهل يمكن للدولة أن تشيد مشاريع تنموية كبيرة بإمكانها على الأقل أن تشغل مئات الشباب المعطلين، لقد سمعنا كثيرا عن مطلب التقنين لكن دون أن تكون هناك رؤية حول ماذا تريد الدولة بالضبط، نحن نريد أن نتخلى عن هذه الزراعة شريطة أن تمنح لنا ضمانات حقيقية من طرف المسؤولين». أما الشهادة الثانية، فهي أكثر وضوحا وتدقيقا من الأولى»سبق لنا أن سمعنا عن تقنين زراعة الكيف عبر استعمالها في أغراض طبية وصناعية، وبطبيعة الحال رحبنا بهذه الفكرة، بيد أن السؤال الذي يحاصرنا دائما هو كالتالي: هل يمكن للدولة أن تشتري المحاصيل بنصف الثمن الذي نبيع به في المرحلة الآنية أم أن الشركات هي من ستقوم بذلك، وإذا لم تتعهد بالتزاماتها، ما الذي يمكن أن يحدث، هل تستطيع الدولة أن تصرف مبلغ 4000 درهم أو 5000درهم للقنطار؟ هذه هي الأسئلة التي تؤرقنا، إذ لا يمكن أن نرفض أي حل بوسعه أن يخلصنا من وضعية المهانة التي نعيشها في هذه اللحظة». بالرغم من اختلاف الشهادتين في مضمونهما إلا أن ثمة خيطا رفيعا يربط بينهما يتمثل في المقام الأول في قدرة الدولة على توفير نفس الشروط المادية التي يستفيد منها الفلاحون والمزارعون الصغار ومدى قدرتها، إلى جانب ذلك، على بناء مشاريع تضمن التنمية المستدامة للمناطق المعروفة بزراعة الكيف. ولئن كان المزارعون مستعدين، ولو بحذر شديد، للتخلي عن بيع محصول الكيف لمافيات الاتجار في المخدرات، فإن المخاوف لاتزال تساورهم من أن تكون الزراعات البديلة لا تعوض، بأي حال من الأحوال، الأدوار التقليدية لنبتة الكيف. بالنسبة للسكان، فإن زراعة وتسويق القنب الهندي مصدر عيش مئات العائلات، وبالتالي يصعب عليهم أن يصدقوا أن ثمة زراعات بديلة بمقدورها أن تعوض الكيف كمادة مخدرة، بتعبير آخر، فإن السكان ليسوا مستعدين نفسيا، في هذه المرحلة على الأقل، للوثوق في جدوائية استعمال القنب الهندي في أغراض بديلة. إذن، على الدولة ومعها الفاعل السياسي والمدني أن يدركوا أن إقناع المزارعين بتقنين زراعة الكيف ليس أمرا سهلا، خاصة أنهم يحملون في أذهانهم تصورات سلبية حول تعامل السلطات معهم. لاشك أن المزارعين يجتمعون حول منطلق واحد مؤداه أن أي مبادرة تقوم على رد الاعتبار للسكان وتوفير شروط العيش الكريم قد تسهم بشكل فعال في القضاء على الاتجار في المخدرات، لكن، لن يحدث ذلك على المدى القريب، أي أن تغيير عقليات المزارعين يحتاج إلى وقت طويل..طويل جدا.