تجد الشعوب العربية في النكتة السياسية فرصة للانعتاق من الحصار الفكري المضروب عليها، ففي كل بلد شخصيات سياسية نافذة تخترقها السخرية وتحولها إلى كائنات تنتج النكت. المصريون هم أول الشعوب العربية استخداما للسياسيين في صناعة النكتة، بعد أن ظل الصعيدي لسنوات موضوعا لها، بينما نال جعفر النميري من السودانيين ما تيسر من تنكيت بعد الإطاحة به. لكن الربيع العربي جعل الشعوب العربية تعفي البدويين والبسطاء من السخرية التي التصقت بهم، وأصبح الزعماء العرب مصدر إلهام صناع النكتة، بل إن حسني مبارك ومعمر القذافي وزين العابدين بن علي وعلي عبد الله صالح وبشار الأسد وغيرهم من الزعامات السياسية ظلت لسنوات ملقحة ضد الاختراقات الساخرة. تعكس هذه النكت هروب المحكومين نحو شط النكتة كلما عجزوا عن مواجهة الحكام، بل هي في نظر الباحثين في علم النفس «تنفيسا» للاحتقان، أو كما وصفها سيغموند فرويد «محاولة لقمع القمع»، سيما وأنها لا تروى إلا لمن هم مصدر ثقة، خوفا من خياشيم المخبرين التي تعتبر هذا النوع من الحكي جناية تتجاوز حدود القذف والتشهير إلى التحريض على قلب الأنظمة. في المغرب ظلت كثير من الشخصيات السياسية والنقابية وحتى الرياضية مصدر إلهام لمنتجي النكت، لكن رجلا إسمه خطري ولد سيدي سعيد الجماني كان له نصيب الأسد من النكت التي رسمت له في المخيال الشعبي المغربي صورة الرجل السادج الذي وجد نفسه فجأة بعيدا عن حياة الترحال البسيطة في الصحراء، منخرطا في بروتوكولات صارمة لحياة جديدة في محيط القصر، دون أن يدرك جيدا أن هذا التحول له ضريبته، وأن الدسائس لا بد أن تسوق له صورة أخرى، تتعارض وصورة الشيخ الورع زعيم واحدة من أكبر وأشرف قبائل الصحراء. لم يسلم خطري من التنكيت الذي لازمه منذ منتصف السبعينيات إلى أن توارى عن الأضواء بسبب المرض الذي داهمه، لكنه على امتداد هذه الحقبة الزمنية لم ينتفض ضد «منتجي» النكت، بل على العكس من ذلك تماما كان يجد متعة في سماعها، لإيمانه بأن مهامه السياسية انتهت باسترجاع المغرب لصحرائه وبالبيعة الكبرى التي لم تسلم مراسيمها من سخرية لاذعة. في هذا الملف الأسبوعي، ترصد «المساء» وجهي العملة في حياة هذا الرجل الوطني، وجه سياسي جعله يجالس فرانكو الزعيم الإسباني الشرس ويقول لا في حضرته، ويوشح بأكبر الأوسمة والنياشين، ووجه ثان يلغي الصورة الأولى أو يشوش عليها بمنحه دور البطولة في مسلسل تنكيت أنهت مواقع التواصل الاجتماعي صلاحيته، حين ظهرت كائنات ساخرة أخرى. خطري الجماني: ابن الركيبات الذي ولد في باب الصحراء وتسلم مفاتيحها ولد خطري ولد سيدي سعيد الجماني سنة 1915 خارج باب الصحراء كلميم، وتحديدا في منطقة «لخصاص»، التي توجد بين بويزكارن وتيزنيت على مشارف الصحراء، في أسرة تعيش حياة الترحال وتقتات منه. نشأ الفتى نشأة محافظة بعد أن درس القرآن والفقه وهام على وجهه في أرض الصحراء الواسعة، إلى أن وصل إلى الحدود الموريتانية. ولأنه ينتمي لقبيلة الركيبات، كبرى قبائل الصحراء وسليل شجرة عرفت بالورع والتقوى، فقد ارتبطت حياة عائلة خطري بالتعليم الديني والتصوف، استنادا إلى سلالة ترتبط بعبد السلام بن مشيش، الجد الأعلى، دفين شمال المملكة، رغم أن جد العائلة الشيخ سيدي أحمد الركيبي يرقد في زاوية «مول الحبشي» بعيدا عن إقليم السمارة بحوالي 120 كلم، مرورا بوادي الساقية الحمراء. ظل الفتى يتردد رفقة أفراد عائلته على ضريح سيدي أحمد الركيبي، الذي كان محل احترام من طرف القبائل المجاورة، ومع كل زيارة تقدم الذبائح والهبات للأب الروحي للقبيلة، ومانح الإشعاع الديني لعائلة خطري، بل إن الزاوية أصبحت مقصدا للطلبة وحفظة القرآن الكريم، قبل أن تلعب دورا سياسيا يتجلى في حماية الثغور الصحراوية من غارات المستعمر، وحصنا منيعا للإسلام في الجنوب. هذا الانتماء إلى الزاوية جعل عائلة خطري تستكمل كل مقومات الحسب والنسب التي انضافت إلى الجاه والحظوة المكتسبين. في ظل هذا المناخ القبلي المحافظ، نشأ الفتى ولد سيدي سعيد، وقبل أن يشتد عوده توفي والده وهو على مشارف العقد الثاني من عمره، حينها أصبح في مواجهة صريحة لعوادي الزمن وصيا على العائلة، بل إن أفراد القبيلة «بايعوه» شيخا عليها في فترة زمنية كانت المشيخة لا تمنح إلا لمن اشتعل رأسه شيبا، وهي المهمة التي قبلها على مضض، لأنها ستجعله يجمع بين مهمتين أحلاهما مر، «تدبير شأن الأسرة والقبيلة» بأقل زاد من الخبرة. حين عرض عليه شيوخ البيهات «الأمانة» رفضها جملة وتفصيلا، لكنه أمام إلحاحهم استجاب على مضض وقبل التعيين القبلي الذي لا يقبل الاعتراض، علما أن ولد خطري لم يطأ المدرسة، ولكنه من حفظة القرآن الكريم والعارفين بأصول الفقه والحديث. المريد الذي اعتلى درجة الشيخ ولأنه شيخ القبيلة وحاكمها، فقد قرر مضاعفة الجهد واللجوء لبرنامج «استعجالي» يحول حياته من مرتبة المريد إلى مكانة الشيخ، مع ما ترتب عن هذا التحول الوظيفي من متغيرات مست حياته الخاصة والعامة، إذ أنه تزوج تسع مرات، وكان في بداية علاقته بالمشيخة صاحب أربع زوجات، قبل أن يقوم بتجديد «غرفة نومه» كلما اقتضت الضرورة القبلية، إذ طلق بعض زوجاته وتزوج بنساء من قبائل مجاورة في إطار «التلاقح» القبلي الذي يقلص في مجتمع صحراوي من حدة الخلافات والنعرات القبلية. وعلى امتداد فتوحات الرجل تمكن من إنجاب 26 ابنا وبنتا، حرص شخصيا على أن يعيشوا في «الدار الكبيرة»، كي لا يحصل تفكك لأواصر أسرة خطري، ويظل الجميع ينهل من التربية المحافظة نفسها. سيما وأنه كان يرفض القفز على النمط البدوي التقليدي حتى بعد أن ارتفع سقف مهامه. يقول ابنه سيدي غيثي الجماني ل»المساء» إن والده رحمه الله «لم يكن يميز قط في علاقاته مع أبنائه، فقد كان يعاملنا المعاملة نفسها، والقول نفسه ينطبق على زوجاته المطلقات، إذ كن يحضرن إلى البيت لزيارتنا، وكنا نعاملهن كأمهات لنا، ولم يسبق له أن اعترض أبدا على دخولهن إلى البيت، لأنه كان مصرا على جمع شمل العائلة. كان الجميع يثق في والدي، وبالتالي كنا نثق في قراراته حتى وإن لم يتشاور مع أحد منا، وكذلك الأمر بالنسبة لزوجاته». ساهم هذا الزواج المنفتح على قبائل أخرى، في خلق تماسك قبلي بالمنطقة وتكريس دور الركيبات في حفظ السلم الاجتماعي، في مجتمع يعيش حالة اللاستقرار من شدة الترحال والتحولات التي كانت تعرفها المنطقة. في تلك الحقبة الزمنية كانت الحكمة والتدين والوجاهة من معايير بلوغ مرتبة شيخ القبيلة، فحين توفي سعيد الجماني استقر رأي كبار القبيلة على ابنه خطري، ليس من أجل ضمان مشيخة وراثية بل لما ميز شخصية الشاب، علما أنه لم يتلق تعليما نظاميا، إلا أن مكانته فاقت سنه وحرصه على حل مشاكل البسطاء رفع «كوطته» وجعله يحظى باحترام الكبير والصغير، ونال بالتالي الإجماع القبلي للركيبات. حين تنكر خطري في لباس امرأة شعر الصحراويون بوجود قوة استعمارية تحتل أراضيهم، فانضموا إلى قوات جيش التحرير، التي كانت تسعى إلى «كنس» الجنوب المغربي من الإسبان الذين تقاسموا مع الفرنسيين كعكة المغرب مناصفة. لعب خطري وغيره من الصحراويين دورا كبيرا في تأسيس جيش التحرير بعد لقاء تاريخي مع قيادات الحركة الوطنية بالشمال. وفي مدينة كلميم تم وضع اللبنة الأولى لهذا التنظيم الذي اختار المقاومة المسلحة لطرد القوات الاستعمارية، وأبان أبناء المنطقة عن بسالة وإقدام في كثير من المواجهات التي وضعتهم في رحى المعارك، أبرزها موقعة الدشيرة سنة 1956 والتي دامت أسبوعا كاملا تكبد فيها الإسبان خسائر مادية وبشرية جسيمة. يحسب لخطري نضاله في صفوف جيش التحرير، ويسجل التاريخ أنه بعد استقلال المغرب سنة 1956، تم توقيف نشاط جيش التحرير، إلا أن الرجل كان يطالب على غرار كثير من الصحراويين بالاستمرار في الكفاح، قبل الانصهار في الجيش المغربي النظامي، «لأن الاستقلال الشامل لم يحصل، وأنه لا بد من استمرار الكفاح ومقاومة الاستعمار»، وهو المطلب الرئيسي لتجمع أقيم في جنوب طانطان غير بعيد عن أخفنير في منطقة تدعى واد شبيكة، وأصبح للكفاح ضد المستعمر تتمة في الجنوب من خلال مواجهات دامية ضد الإسبان الذين مددوا مقامهم في المغرب رغم انسحاب حليفهم الفرنسي. يروي محمد باهي في كتابه عن خطري ولد سعيد الجماني، مجموعة من الحقائق التي لامست شخصية وصفها بالأسد الجريح الذي أنقذ الصحراء مرتين، ويقول إن شيخ الركيبات «كان عضوا في جيش التحرير سنة 1957، وحدث أن وقعت خلافات داخل قيادة الجيش المذكور، وكان الجماني مهددا حينها بالاغتيال والاختطاف من طرف قيادة جيش التحرير كإدريس بن بوبكر وبنحمو وآيت يدر وغيرهم، حدثت بعض المتغيرات داخل جيش التحرير لم يستطع الصحراويون فهمها، لذا لم يتعاطفوا مع بعض الأفكار التي دعا إليها أولئك القادة، ولذا فقد تعرض العديد من الصحراويين للاختطاف، وحينما وصلت الأخبار لخطري ولد سعيد الجماني بأنه معرض للاختطاف والاغتيال، ارتدى لباس النساء وركب ناقته وخرج من بين الجنود الذين كانوا مكلفين بحراسته، ثم دخل إلى المنطقة التي كانت تحت سيطرة الجيش الإسباني، وطلب اللجوء السياسي من الحكومة الإسبانية، فكان أن تبنته هذه الأخيرة ووفرت له الحماية، وبذلك أنقذ نفسه من موت محقق في كَلميم، كما وفر للمغرب أفضل شخص صحراوي يمكنه أن يدافع عن قضية الصحراء أمام الإسبانيين». عاد خطري إلى مواقعه الصحراوية سالما، في وقت نجحت فيه القوات الاستعمارية الإسبانية في بسط سيطرتها على الصحراء، مما أجج الوضع وحول المنطقة إلى بؤرة للتوتر، في وقت كان فيه شمال المغرب يعيش أول أيامه كبلد «مستقل». بيعة خطري للسلطان.. النسخة الأولى عرفت عائلة الجماني بولائها المتين لسلاطين المغرب وللأسرة العلوية خصوصا، نظرا لتقاسم الانتماء لإدريس الأول مؤسس الدولة المغربية وسليل النسب النبوي. التقى خطري بالملك محمد الخامس سنة 1956 مع مجموعة من الصحراويين، وكانت المناسبة تقديم البيعة له بعد عودته من المنفى. بدأت الحكاية من سوق للإبل في كلميم حين علم الصحراويون بعودة الملك حاملا تباشير الاستقلال، تم الاتفاق على أن يتوجه ممثلون عن كل قبيلة إلى الرباط لتهنئة السلطان، وشرعت كتائب المهنئين تتشكل من كل مكونات البناء القبلي للصحراء، على أن تكون للتجمعات الكبرى نسبة حضور أكبر في الموكب. كان سوق كلميم الأسبوعي الذي يعتبر ملتقى للقبائل الصحراوية بمثابة نقطة تجمع كبرى، وضع خلالها خطري باعتباره شيخا من علية القوم لوجستيك التحرك صوب العاصمة، كما تم توزيع الأدوار بين المنظمين لضمان نجاح ما يشبه البيعة الأولى. لقيت المبادرة ترحيبا كبيرا من طرف القصر ووقف محمد الخامس لتحية ممثلي الصحراء، بل إنه استضافهم في الرباط لمدة خمسة أيام، قبل أن يعود موكب ممثلي القبائل الصحراوية إلى منطلقه، وسط مراقبة دقيقة للمستعمر الإسباني، الذي كان يعلم علم اليقين أن الزيارة سترفع مؤشر الحماس لدى الصحراويين وتجعلهم أكثر تعبئة لمحاربة الاستعمار الأجنبي، خاصة بوجود تقارير استخباراتية تؤكد أن هناك اتصالات مباشرة في شمال الصحراء بين محمد بنحمو القيادي بجيش التحرير وكثير من الصحراويين، بغية استقطابهم في «حملة الجهاد التي كان يقودها ضد الفرنسيين في الجنوب»، بغية الإجهاز على بعض القواعد العسكرية التي احتمت بالصحراء، ومع مرور الأيام استقطبت الحركة النضالية عددا كبيرا من شباب القبائل، وأصبح لجيش التحرير امتدادات في كل قبائل الصحراء من محاميد الغزلان إلى أقصى تخوم الصحراء بالجنوب. خطري.. من الحزب المسلم إلى الجماعة الصحراوية لاحتواء الوضع تم تشكيل ما كان يعرف ب «الحزب المسلم» سنة 1966، لكنه لم ينجح في استقطاب الصحراويين بسبب المرجعية الدينية، فتم التفكير في تكوين «جبهة» ترأسها سنة 1967 محمدي بن سالك، لتكون «واجهة لإقرار مطالب المغرب أمام هيئة الأمم المتحدة في ارتباطه بالصحراء»، وردت إسبانيا بتشكيل تجمع «ممثلي السكان» وهو من صنيع رئيس المخابرات الإسبانية في المنطقة آنذاك. كان الحزب المسلم يسعى إلى التعبير عن مطامح أبناء الصحراء بعد الحماس الذي أعقب تحرر شمال المغرب، واستند في بدايته على أفكار خطري ولد سيدي سعيد الجماني المعادية للوجود الاستعماري، وكان خطري ينادي بتحرير الصحراء من الوجود الإسباني والانضمام إلى الجزء المحرر من المغرب، بل إن خطري نظم اكتتابا وسعى إلى دعم الحزب ومواجهة الإدارة الاستعمارية التي كانت تجمع السكان وتؤثث بهم حفلاتها، في الوقت الذي كان أتباع خطري ينصبون الخيام في ربوة مقابلة لمكان الحفل، واضعين أتباع الأطروحة الاستعمارية في حرج. وكان من نتائج هذه الحرب الباردة نزاعات ومناوشات أبرزها حادثة مقتل أحد السكان في 17 يونيو 1970 بمسدس شرطي إسباني نتج عنها تصادم دام، وإعلان أول حظر للتجول في العيون إثر مقتل عشرات الصحراويين. كانت الواقعة بمثابة الشرارة الأولى للحراك الصحراوي، حينها كتبت جريدة «الرأي» لسان حزب الاستقلال الناطقة بالفرنسية كلمة للزعيم علال الفاسي، قال فيها « اندلعت مظاهرات عارمة في 18 يونيو 1970 بمدينة العيون، تنديدا بالوجود الإسباني فوق التراب الوطني، وكرد فعل شعبي على الممارسات الاستعمارية للاحتلال الإسباني، المتمثلة في الضغط على السكان والتنكيل بهم وترحيلهم، وغيرها من أساليب قوى الاستعمار. وهي المظاهرات التي لم يتردد الحرس المدني الإسباني والفيلق الأجنبي في إطلاق الرصاص الحي لقمعها. لقد نزل مواطنونا إلى الشارع، هاتفين بشعارات تطالب بتحررهم، وتعلقهم ببلدهم المغرب، وكان رد فعل السلطات الإسبانية هو إطلاق النار على المتظاهرين، الذين لم يكونوا مسلحين إلا بإيمانهم وبتضحياتهم وبإرادتهم القوية للدفاع عن وجودهم وانتمائهم للمغرب. لقد اعتقلت السلطات الإسبانية أزيد من 2000 من المواطنين المغاربة، وضمنهم الزعيمين خطري ولد سعيد الجماني، وبا الشيخ بن محمد مولود». لكن المستعمر غير سياسته في محاولة لاحتواء الوضع، وتأديب المتسببين فيه من رجال الشرطة بتنقيلهم، بل إنه تمكن من فتح قناة لتصريف غضب الحزب المسلم الذي يقوده خطري، بضمه إلى ما عرف ببرلمان الصحراء، هناك نادى بمغربة الصحراء مع «حماية مؤقتة زمنيا» لتكوين أطر قادرة على مسك زمام الأمور سياسيا وإداريا. كان خطري على رأس الممثلين الصحراويين السبعة المنتدبين في البرلمان الإسباني المدعو الكورتيس. وهو جهاز اصطلح عليه ب»برلمان الصحراء» مكون من 40 عضوا، ينتدب من بينهم7 أعضاء إلى الكورتيس الإسباني. مع مرور الأيام انسحب الحزب المسلم لتعود للقبيلة ريادتها السياسية، من خلال الجماعة الصحراوية بزعامة خطري. هل عجل خطري بوفاة الجنرال فرانكو؟ كشفت «المساء» عن وثيقة سياسية، تعود إلى السبعينيات قبل وفاة الجنرال فرانكو، تشير إلى أن الصحراويين «أعطوا رأيهم بشكل نهائي في تقرير المصير باختيارهم الاندماج في المغرب عندما كانت الصحراء واقعة تحت الاحتلال الإسباني». وتؤكد الوثيقة، أن شيوخ الجماعة الصحراوية في عام 1975 أجمعوا على الارتباط بالمغرب، بسبب روابط الأخوة والدين، في لقاء رسمي عقد بمدريد مع الجنرال فرانسيسكو فرانكو وكبار المسؤولين في الحكومة الإسبانية آنذاك. في 11 مارس 1975 عقد اللقاء التاريخي بقصر «البرادور» وحضره، إلى جانب فرانكو وخطري ولد سيدي سعيد الجماني، رئيس الجماعة الصحراوية وزعيم قبيلة الركيبات، كل من كارو مارتينيز، الوزير المكلف بالشؤون الصحراوية في الحكومة الإسبانية، الذي قابل الملك الحسن الثاني في أكادير، عندما طار على عجل من مدريد بعد علم هذه الأخيرة بأن المغرب يحضر للمسيرة الخضراء، والجنرال إدواردو بلانكو، المدير العام للأمن الوطني، وشخص ثالث يدعى ميرا، كان يعمل مترجما من اللغة العربية لدى الحكومة الإسبانية، والمسؤول العسكري خوصي كريسبو، المدير المساعد في المخابرات الإسبانية الذي كان يعمل بالعيون. وعن الجانب الصحراوي، حضر اللقاء، إلى جانب الجماني، كل من سويلم ولد أحمد إبراهيم، عمدة مدينة الداخلة وممثل قبيلة أولاد ادليم في الجماعة الصحراوية فخذة تاغادي، وجولي ولد النان، المكلف ببرنامج الشباب ممثلا عن قبيلة الركيبات فخذة السواعد، الذي يعيش حاليا في موريتانيا، وأحمد البشير النائب الثالث للجماعة ممثلا عن قبيلة ازركيين فخذة شتوكا، وصايلة ولد اعبيدي ممثلا عن قبيلة الركيبات فخذة أولاد الشيخ، وبابا ولد حسنة، النائب الثاني للجماعة ممثلا عن قبيلة أولاد ادليم فخذة أولاد باعامر، الذي كان المولى الحسن الأول قد عين والده رئيسا لقبيلة أولاد ادليم بظهير شريف، ثم إبراهيم ولد الحسين اموسى، الذي كان مسؤولا عن الصحة بإقليم وادي الذهب والساقية الحمراء تحت الاحتلال الإسباني، والذي يشغل مناصب دبلوماسية. عقد الاجتماع بطلب من الجنرال فرانكو الذي كان يعيش أيامه الأخيرة، بسبب المرض الذي داهمه منذ أن فقد إحدى خصيتيه في معركة بالريف، وكان يريد ضمان بقاء الصحراء تحت سيطرة إسبانيا بعد اكتشاف توفرها على ثروات طبيعية، واستغل الاجتماع لإقناع الجماعة، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الصحراوي، بأن تكون إلى جانب بلاده. وحسب ما ورد في الوثيقة، فإن الجنرال فرانكو سأل الجماني قائلا: -»سعادة الرئيس، يهم مسؤولي الجيش الإسباني في الصحراء، في حال ما قام المغرب بدخول الصحراء عنوة، أن يعرفوا ما إن كان يمكنهم الاعتماد عليكم في دعم قواتنا لدفع الهجوم المغربي». رد عليه الحاج خطري ولد سعيد الجماني قائلا: -»لا يا سيدي الجنرال، نحن الصحراويون غير متعودين على محاربة إخوتنا، والمغاربة كما تعرف سيادتكم إخوتنا». رد فرانكو بلهجة غاضبة منهيا الاجتماع: -»إذن، هذا يعني أننا لا يمكن أن نعول عليكم إلى هذا الحد» -»بالضبط سيدي الجنرال». انتهى الاجتماع قبل أن يحتسي الحاضرون كؤوس القهوة التي كان نادل يهم بترتيبها على مائدة الحوار، وفشل فرانكو في تحقيق هدفه، بضمان وقوف الصحراويين إلى جانب إسبانيا ضد المغرب. على الفور قرر الجنرال إرسال موفد عنه على عجل إلى المغرب، وحل وزيره في الشؤون الصحراوية كارو مارتينيز إلى مدينة أكادير، وطلب لقاء مع الملك الراحل الحسن الثاني للتحدث معه في موضوع المسيرة الخضراء، التي كان الملك الراحل عازما على المضي فيها، إذ كان الجنرال فرانكو يريد فقط المحافظة على ماء وجه إسبانيا في المخطط الذي رسمه الملك الراحل. ويقول مقربون من الملف إن إسبانيا تسعى إلى التعتيم على تلك الواقعة المهمة في تاريخ البلاد، ومعها الصحافة الإسبانية، وإخفاء تلك الوثيقة على الرأي العام الإسباني من أجل ترويج أن سكان الصحراء لم تتم استشارتهم مطلقا في موضوع الارتباط بالمغرب من عدمه، لأن من شأن الكشف عن تلك المعطيات فضح الأكاذيب التي يروجها أعداء الوحدة الترابية للمغرب والانفصاليون في الداخل والخارج. بل إن الإدارة الإسبانية قدمت مشروعا للحكم الذاتي لمدة عشر سنوات تحت السيادة الإسبانية، يعقبه اِستفتاء لتقرير المصير، ولاقى هذا المقترح رفضا قاطعا من الصحراويين الذين اعتبروه فرصة لنهب ثروات المنطقة واستنزافها في عقد من الزمن.. في السنة نفسها تم حل «الجماعة الصحراوية « التي كان يرأسها خطري ولد سعيد الجماني، في وثيقة حملت توقيع نصف أعضائها «لاستيفاء دورها»، ليرحل خطري إلى إسبانيا قاطعا علاقته بالحزب، مفضلا ممارسة السياسة عن بعد. خطري يوقع عهد البيعة في بيت الدرهم بلاس بالماس لعب محمد فيضول الدرهم، دورا كبيرا في اللقاء التاريخي الذي جمع خطري ولد سيدي سعيد الجماني بالملك الحسن الثاني أياما قليلة على انطلاق المسيرة الخضراء، كان فيضول من المغضوب عليهم من طرف المستعمر، بل إنه منع من دخول الصحراء، قبل أن يتمكن من الاستقرار في لاس بالماس، هناك مارس التجارة خاصة استيراد الشاي من الصين، وحسب الكاتب والصحافي لحسن لعسيبي فإن الرجل لعب دورا حاسما، لم يعرف قط، في استعادة المغرب لصحرائه، وبالتحديد ابتداء من سنة 1974، بل إنه ساهم في تنظيم لقاء هام جمع مستشار الملك الحسن الثاني بخطري، في بيت عائلة الدرهم، قاطعا الطريق أمام «المخابرات الجزائرية، وأساسا المخابرات العسكرية التي كانت تخطط لاستدراج رئيس الجماعة الصحراوية المرحوم الحاج خطري ولد سيدي سعيد الجماني، هو الذي كان يتوفر على وثائق جد هامة ترتبط بواقع الصحراء المغربية، وبتفاصيل قبائلها، خاصة بعد إعلان المغرب رسميا قراره باسترجاع صحرائه، عبر المسيرة السلمية، المعلن عنها في خطاب 16 أكتوبر بمراكش الذي ألقاه المغفور له الحسن الثاني رحمه الله»، وحسب رواية سابقة لزوجة فيضول أدلت بها للاتحاد الاشتراكي، فإن «بيت محمد فيضول الدرهم بلاس بالماس، كان محج الكثير من الشخصيات الصحراوية، بل وكان صديقا لأهم وزيرين في الحكومة الموريتانية آنذاك، هما وزير الداخلية أحمد ولد محمد صالح، ووزير الخارجية حمدي ولد مكناس. فقد كان مكان نزول الحاج خطري دائما. كان المنزل من ثلاثة طوابق، وحدث أن احتضنت مدريد في أواخر أكتوبر مؤتمرا حول الصحراء، حضره الحاج خطري ومحمد فيضول الدرهم وشقيقه أحمد الدرهم، ثم عادوا إلى لاس بالماس، فعمل محمد الدرهم وشقيقه على إقناع رئيس الجماعة الصحراوية بالبقاء معهم لأيام قبل العودة إلى العيون. كان شهر نونبر قد أطل، أقنعوه بالبقاء في البيت عوضا عن الفندق، وحرصوا على أن لا يتصل به أحد، مهما كان، وبقوا معه أيام الأربعاء حتى الأحد من الأسبوع الأول من شهر نونبر 1975، وحين جاء خوان كارلوس إلى العيون، كان خطري غائبا». يضيف المصدر ذاته أن محمد فيضول الدرهم غادر الجزيرة إلى مدريد، وبقي شقيقه أحمد رفقة خطري متخفيين في البيت، وكانت الزوجة تقول لكل زائر إنهم غادروا إلى السينغال لأعمال تجارية طارئة، بل وكانت صلة وصل، عبر الهاتف، مع متحدث من القصر الملكي بمراكش. وبعد أن أدى الثلاثة القسم على القرآن للوفاء للمغرب ولتاريخ الكفاح الوطني ضمن جيش التحرير بالصحراء المغربية، «حدث في صبيحة يوم السبت، أن وصل مبعوث ملكي خاص، بشكل متخف هو السيد أحمد بنسودة موفدا عن الملك الحسن الثاني، رفقة العربي الفحصي، حيث جرى نقاش لم تعرف الزوجة تفاصيله قط، وقبل بزوغ الفجر غادر المبعوث الملكي ومعه خطة الجواب والاتفاق، بعد أداء القسم مجددا على القرآن». بعد مغادرة بنسودة للبيت، غادر مباشرة أحمد فيضول وخطري الجماني في لباس متخف إلى مطار لاس بالماس، ومنه إلى مدريد بجوازات سفرهم العادية، و»كانت المسيرة قد انطلقت بيوم أو يومين» والإسبان منشغلون بما يحدث في الحدود. استقبل عبد اللطيف الفيلالي الذي كان سفيرا للمغرب بمدريد، خطري والدرهم وسلمهما جوازي سفر مغربيين بأسماء مستعارة، وانتقلوا جوا إلى مراكش في رحلة تاريخية ومنها انتقلا إلى أكادير، حيث حظيا باستقبال الملك الحسن الثاني، «ذلك الاستقبال المشهور بالسلهام، حيث أهدى الملك الراحل سلهامه إلى رئيس الجماعة الصحراوية ووراءه مباشرة كان يقف الوطني المرحوم محمد فيضول الدرهم وشقيقه أحمد، ثم أحمد بوعيدة. كلفت هذه المهمة الوطنية المرحوم محمد فيضول الدرهم تهديدات من طرف جبهة البوليساريو «التي أحرقت محلاته التجارية بالعيون أياما قليلة بعد نجاح المسيرة الخضراء وبقي الرجل عفيفا، بضمير مرتاح، لم يتاجر قط بمبادئه ولا زايد برصيده الوطني النضالي حتى لقي ربه»، كما جاء في شهادة لعسيبي. الحسن الثاني للجماني: لم يسبق أن استقبلت مغربيا كما استقبلتك طلب الملك الحسن الثاني من أحمد بنسودة التوجه على وجه السرعة إلى لاس بالماس، ومسابقة الزمن من أجل انتزاع موقف مساند من خطري ولد سيدي سعيد الجماني، خصصت لبنسودة طائرة خاصة، وقيل إن ربان الطائرة طلب من برج المراقبة بمطار الجزيرة السماح له بالهبوط الاضطراري على مدرج مطارها لعطب مفاجئ في الطائرة. «بلع القائمون على الأمور بجزر كاناريا الطعم، إذ أقام حاكم جزيرة لاس بالماس حفل عشاء على شرف مستشار الملك، الضيف دون ترتيب. وبعد العشاء تظاهر أحمد بنسودة بالتعب والقلق، وطلب المبيت على أن يستأنف رحلته الجوية يوم غد». وبعيدا عن عيون الاستخبارات الإسبانية التي كانت تراقب الوضع في الصحراء أكثر من انتباهها لعملية الاختراق التي تتم في الجزيرة الصغيرة، حيث توجه الموفد الملكي إلى بوصلته «عائلة الدرهم» ليتم وضع خطة الانتقال إلى سفارة المغرب في مدريد لتسلم جوازات السفر المغربية والانتقال إلى أكادير لملاقاة مخطط المسيرة الخضراء. قبل المغادرة طلب خطري ولد سعيد الجماني من أحمد بنسودة أن يحمل رسالة إلى الملك، حيث قال له: «الموت والحياة بيد الله، فإن وافتني المنية لا أريد أن يقال عني إنني تخليت عن وطني وغدرت ملكي، لذا عليك أن تسلم هذا الكتاب إلى جلالة الملك». كان بين بنسودة وخطري سابقة كادت أن تجهز على اللقاء لولا حكمة الدرهم، إذ سبق لبنسودة أن أرسل رسالة شديدة اللهجة من طرفاية لخطري، ذكره فيها بنسبه وأصله ومواقفه الوطنية السابقة، ومما جاء فيها: «يا خطري أتدري من أنت؟ إنك ركيبي وشريف النسب وتتحدر من صلب مولاي عبد السلام بن مشيش.. وتلتقيان أنت والملك الحسن الثاني في مولاي إدريس، ولا يمكن أن تستمر في الوقوف في صف أعدائه.. فأنت خرجت في سنة 1953 على رأس مظاهرة للتنديد بنفي محمد الخامس.. وقدمت له البيعة سنة 1956 بالرباط». لم ينس خطري ولد سعيد الجماني فحوى هذا الكتاب الذي أقر أنه جرح قلبه بعد الإطلاع عليه، فامتثل للخطة المسطرة وقبل السفر إلى مدريد ومنها إلى أكادير عبر باريس ومراكش، وعاد إلى الوطن في 3 نونبر 1975، ثلاثة أيام فقط قبل اختراق متطوعي المسيرة الخضراء الحدود الوهمية. آنذاك استقبله الملك الراحل الحسن الثاني، وحضر هذا الاستقبال جمع غفير من المسؤولين الكبار والدبلوماسيين والصحفيين، تجاوز عددهم 500 جاؤوا من مختلف أنحاء العالم، وقدم البيعة للملك والولاء للوطن. في ذلك اليوم أشاد الملك الراحل الحسن الثاني بوطنية خطري ولد سعيد الجماني وألبسه سلهامه، وقال له العبارة الشهيرة: «لم يسبق لي أن استقبلت مغربيا كما استقبلتك». خطري الجماني.. الرجل الذي خلدت النكت ذكراه في أحد برامج الأطفال، طلب المنشط من طفلة في عقدها الأول، تقديم نكتة للجمهور الناشئ، بعد لحظة تفكير قصيرة، شرعت الطفلة في سرد نكتة وسط تصفيقات الحاضرين التي فاجأت المنشط باستهلال لم يكن متوقعا، حين قالت: «هذا الجماني..»، تدخل المنشط ونزع الميكروفون من يد الطفلة وطلب منها العودة إلى مدرجات «البلاطو»، وسط ذهول الجميع، لكنها لم تجد مبررا لغضبة القائمين على البرنامج الطفولي. كادت النكتة أن تجلب على الجميع محنة حقيقية، رغم عدم توفر «النية الإجرامية لدى الصغيرة، فذكر الجماني كان يعتبر في زمن غير بعيد تهمة سياسية قد تقود إلى المساءلة. بعد البيعة النكت تخلد اسم الجماني كيف تغيرت صورة خطري من شيخ ورع إلى مصدر للنكت؟. ولماذا لا يتم ترويج السخرية السياسية إلا بعد تلفيفها في تلابيب هذا القائد الصحراوي؟. ما هو السر في ارتباط شخصية خطري ولد سعيد الجماني بالنكات؟. وكيف يتعايش هذا الرجل مع نكت أسندها المجتمع له، ويحرص على الاستماع إليها دون رد فعل غاضب؟. من له مصلحة في جعل اسم الجماني مرادفا للغباء، وهو الذي غير موازين القوى في ملف الصحراء؟. ولماذا اقتصرت هذه الحملة على فترة زمنية محددة، لتغيب وتعيد النكتة إلى ثنائية المتناقضات (البدوي والحضري، القوي والضعيف، الغني والفقير). وهل أصبح للنكتة وجود في ظل إنتاج غزير ومتنوع للمواقف الساخرة عبر وسائل التواصل الاجتماع التي جعلت «بوزبال وكليميني» يتسيدان السخرية ويقبران حكاية الجماني ومن معه؟ أسئلة عديدة تتناسل كلما تعلق الأمر بمسار رجل كان له دور في سل الشعرة من عجين الصحراء بدون إراقة دماء، ومغادرة المستعمر الإسباني المنطقة دون أن يلتفت إلى الوراء. إلا أنها ترسخ في الذاكرة الشعبية الرغبة في التعامل مع المضامين الساخرة ذات الحمولة السياسية بحذر. يرى كثير من الباحثين في مجال السخرية خاصة في شقها السياسي، أن المتلقي يتقبل النكتة حين تسند لشخصية عمومية، ويقول الباحث محمد باهي في كتابة «خطري ولد سيدي سعيد الجماني الأسد الجريح الذي أنقذ الصحراء مرتين 1957 و 1975». إن «خمسين بالمائة من النكت المروية في ذلك الوقت كانت عن أرسلان الجديدي والنصف الآخر كان عن خطري ولد سعيد الجماني»، علما أن الزعيم النقابي وصديقه الصحراوي عرفا بارتفاع منسوب النباهة لديهما، فشخصيتهما لا تعكس ما يروى عنهما من مواقف ساخرة. يجمع المتتبعون لشأن السخرية التي يتم تداولها عامة الناس عبر الروايات الشفاهية، على أن شخصية الجماني وبساطته وتمرده على الضوابط البروتوكولية، جعلاه هدفا لصناع ومصدري النكت، سيما إذا وضعناها في سياقها التاريخي، إذ كان الوقوف أمام ملك من قيمة الحسن الثاني يقتضي الالتزام بضوابط معينة، فيما كان رجال الصحراء يتصرفون بتلقائية وهي ميزة خطري ولد سعيد الجماني، فالمقربون من هذا الرجل يجمعون على أنه لا علاقة بين ما يروى عنه وسلوكه الهادئ والحكيم. حقائب وزارية لا جدوى لها منذ أن ظهر خطري على شاشة التلفزيون في أول لقاء له بالملك الراحل الحسن الثاني في مدينة أكادير، ذات يوم خريفي من سنة 1975، ليقدم البيعة، نيابة عن الصحراويين، تناسلت النكت التي رسمت لهذا الزعيم الصحراوي صورة أخرى في أذهان المغاربة، وحين خلع الملك «سلهامه» تقديرا لموقف خطري النبيل، وسلمه له أمام عدسات المصورين وكاميرات مئات الصحافيين، تفتقت عبقرية صناع النكتة، وقدموا الرجل في صورة ساذجة، بل إن الشارع المغربي تداول همسا تارة وجهرا تارة أخرى نكتة تقول إنه بمجرد توصله ب»السلهام» من العاهل المغربي حتى شكر الحسن الثاني على حسن صنيعه موجها ملتمسا آخر «إلا كاين شي دفينة أمولاي لمولاة الدار». لم يتحر المتلقي في «الغباء» الذي يقطر من هذه النكتة السياسية، بل إنها لاقت إقبالا واسعا في مجتمع وجد في الرجل فرصة للتخلص من جدلية سخرية ركزت على صراع الفاسي والعروبي. وهذا المعطى يستمد شرعيته في محاولة بعض المقربين من محيط الملك الراحل «خدش» صورة الصحراوي وجعله مرادفا للسذاجة، كي يقطعوا الطريق على انصهاره في المجتمع، وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك حين سجل التهمة ضد معلوم اسمه أحمد الدليمي ذو الأصول الدليمية، ونحن نعرف طبيعة الصراع القبلي بين الركيبات وأولاد ادليم، ومخاوف البعض وتوجسهم من نسج الرجل علاقات قوية مع الملك، بعد استقرار خطري في العاصمة، فما نسب إليه من مواقف ساخرة، لم يسند لمحمد عبد العزيز ابن المغرب العاق وزعيم جبهة البوليساريو. لم يكن منتجو ومروجو هذه النكت يظنون أن بعضها يصور الرجل في منتهى النباهة، عكس ما يراد به في مثل هذه المواقف، فالمغاربة يذكرون النكتة التي تم تداولها بشكل واسع، والتي تقول إن خطري اقتحكم فجأة خلوة الملك الحسن الثاني، فوجده منشغلا في وضع التشكيلة الحكومية ومراجعة أسماء حملة الحقائب الوزارية، وجد الجماني الفرصة ملائمة لالتماس منصب وزاري يعفيه من العطالة التي يعيشها منذ انتهاء مهمته، سأله الملك بنبرة صارمة عن سر تردده، فأفصح عن رغبته في نيل حقيبة وزارية، بل ألح على التماس منصب وزير للبترول في حكومة معدلة، ابتسم الملك وتبين له أن الرجل في حالة شرود وقال له موضحا: «اسمع ياخطري ليس لدى المملكة بترول لتعين وزيرا له»، لكن الرجل رد بسرعة متسائلا: «هل لدينا عدل يا جلالة الملك، ورغم ذلك نجد في كل الحكومات وزيرا للعدل». أليس هذا الرد هو منتهى الحكم والتعقل. وهناك «ريبيرطوار» غني بالنكت السياسية التي تداولها المغاربة، وأقبلوا عليها بنهم كما كانوا يقبلون على نكت أخرى تتعلق بكبار رجالات الدولة بمن فيهم إدريس البصري، الرجل القوي في نظام الملك الراحل الحسن الثاني، فالبوح الساخر يمنح للراوي والمتلقي فرصة الاستمتاع بمواقف خرجت عن طوع المخزن وتمردت على جبروته. يقول الأستاذ محمد شقير في كتابه: «السخرية والسلطة بالمغرب من المأسسة إلى التجريم»، إن السخرية السياسية بالمغرب «مازالت مكبوتة، وغير مسموح بها بشكل رسمي وشفاف»، وأضاف أن تناول بعض الشخصيات السياسية بالسخرية والتندر من النظام المخزني بالمغرب، «لم يكرس بعد لثقافة سياسية ترسخ روح الدعابة والفكاهة وحرية التندر والهزل من مختلف مكونات المنظومة المخزنية بالمغرب». وخلص إلى أن حضور السخرية السياسية يظل مشاعا من خلال الروايات الشفاهية بين الناس، بينما «حضورها مستتر في وسائل الاتصال التي لا تخصص حيزا كبيرا للعروض السياسية الساخرة». خطري من وجهة نظر محمد أيت إيدر لكن بقدر ما ظل خطري هادئا أمام إعصار النكت الذي اجتاحه، بعد لقائه بالملك في أكادير، بقدر ما استفزت عائلته كتابات محمد بنسعيد أيت إيدر، وحتى لو أن خطري كان على قيد الحياة أثناء صدور كتاب أيت إيدر تحت عنوان: «وثائق جيش التحرير في الجنوب 1956- 1959» فإنه، وعلى عكس كثير من المقاومين الصحراويين، سيبتلع لا محالة ريق الغيظ ولا يفتح جبهة الاحتجاج. لكن أبناء عمومة الجماني أصدروا بيانا أكدوا فيه وجود مغالطات في سرد وقائع تاريخية، واتهموا الكاتب بتزييف الحقائق «والمس بنزاهة وشرف وإخلاص قادة جيش التحرير الصحراويين، وبصفة خاصة المقاوم والقائد الوطني أبا الشيخ ولد أبا علي ورفاقه وأبناء عمومته المرحوم خطري ولد سعيد ولد الجماني والقائد المرحوم حبوها ولد العبيد». بل إن الكتاب استنهض همم زعماء قبيلة الشرفاء الركيبات، واعتبر ضربا لمسارها الجهادي، سيما حين تحدث المؤلف عن مؤامرات ضد مصالح المغرب، وما ورد في فقرة عنوانها «المؤامرة الأولى لبعض جنود الركيبات بسيدي أحمد لعروصي في يناير 1959» وأخرى بعنوان: «التمرد الثاني لبعض جنود الركيبات بطانطان». ولأن هذه الاتهامات صادرة عن مقاوم مشهود له بالإخلاص فإن الصحراويين شككوا في مصداقية الكاتب، وذهب بعضهم إلى حد النيل منه خاصة حين تحدث أيت إيدير عن تواطؤ النظام المغربي مع المستعمر في قضية الصحراء. وأسال هذا الجدل حبرا غزيرا جلب متاعب كثيرة للمقاوم اليساري ولأفراد قبيلة الركيبات، التي لم يتم على مدى التاريخ التشكيك في حبها وعشقها للوطن. قال البيان، الذي يحمل توقيع المقاوم محمد أبا علي، إن مؤلف الكتاب وأتباعه حاولوا تحويل جيش التحرير في الصحراء إلى «مليشيات مسلحة يوظفوها في صراعهم السياسي ضد المؤسسة الملكية الشرعية للبلاد»، وطالب المؤلف بالاعتذار العلني والمكتوب لأسرته لما سببه ما نشر في الكتاب من أضرار نفسية ومعنوية لأسرة المقاومة ورموزها. أحداث حقيقية في حياة خطري ولد سعيد الجماني البوليساريو ينتقم من إبل خطري كان خطري ولد سيدي سعيد الجماني يملك حوالي أربعة آلاف ناقة، قبل استرجاع المغرب لصحرائه، وكان يحرص على أن يرعاها في المناطق المتاخمة لكلميم وطانطان أبناؤه وأفراد عائلته، لكن البوليساريو قرر الانتقام منه بعد البيعة الكبرى للحسن الثاني، فاقتاد نصفها وقتل عددا منها نكاية في الرجل، ويحكى أن أحد أفراد عائلته اشتكى للسلطات هذا الاعتداء وحين سأله المحققون عن العدد الحقيقي للجمال التي تم قتلها، وضع يده في كيس بلاستيكي وأخرج عشرات الآذان، قائلا هذه 200 أذن ، أي أن عدد الضحايا يصل إلى 100 جمل. ويقال أيضا أن بعض أفراد عائلة الجماني قد التحقوا طوعا بالبوليساريو التي تضم عددا كبيرا من أفراد قبيلة الركيبات، ومنهم من التحق هو وقطيع من جمال خطري. زوجة خطري تعود إلى الوطن بعد وفاته الحلم الوحيد الذي لم يتحقق لخطري ولد سيدي سعيد الجماني قيد حياته، هو عودة زوجته سكينة بنت اللود من معسكرات الاحتجاز بتيندوف، ليلقي عليها نظرة وداع قبل الالتحاق بالرفيق الأعلى، لكن الزوجة لم تعد إلى أرض الوطن إلا وهي أرملة بعد مرور خمس سنوات على وفاته، وبعد 30 سنة من الاحتجاز في تيندوف. عادت سكينة وقد تجاوز عمرها 82 سنة، وهي من أوائل النساء اللواتي تعرضن للاحتجاز. حين عادت إلى العيون عبر الزويرات، كانت الزوجة قد فقدت زوجها وفقدت أيضا نعمة البصر. تقول روايات مقربين من أسرة الجماني، إنها كانت تحرص على رعي الجمال وتقضي وقتها في الصحراء، قبل أن يجهز عليها المرتزقة ويقتادونها في سيارة لوندروفر إلى مخيمات تيندوف، حيث تم التعامل معها إعلاميا كمتمردة على قرار زوجها في إطار تسويق خادع للقضية. خطري مريض وابنه وزير الصحة لدى البوليساريو حين كان خطري يعاني من المرض في أيامه الأخيرة، كان بعض أعداء الوحدة الترابية يرسمون رسوما كاريكاتورية تزيد من حدة المرض، بل إن الإعلام الجزائري المساند لأطروحة البوليساريو تناول قضية مرض القيادي الصحراوي بكثير من السخرية، حين رسم صورته على فراش المرض، وأشار في الوقت ذاته إلى أن جزءا كبيرا من عائلته التحقوا بالبوليساريو، وكان ضمنهم الكثير من أبنائه وأبناء عمومته، كما أن أحد أبنائه هو وزير الصحة في حكومة عبد العزيز المراكشي. عائلة الجماني تستفيد من ريع «الوطن غفور رحيم» استفادت عائلة الجماني من الريع الاقتصادي على غرار كثير من العائلات المغربية التي كانت رهن الاحتجاز بتندوف، واختارت الالتحاق بأرض الوطن تلبية للنداء الملكي «إن الوطن غفور رحيم». وحين التحق حسنا الجماني المنتمي لقبيلة الركيبات، ونجل الشيخ سلامة الجماني، شقيق الراحل خطري ولد سيدي سعيد الجماني، مرفوقا بزوجته مينتو بنت عنات ولد علي منا، من قبيلة أولاد ادليم، وبناته الثلاث، نال نصيبه من الريع باعتبار منصبه لدى البوليساريو، فقد شغل منصب كاتب عام بوزارة التجهيز في ما يسمى ب»الجمهورية الصحراوية». بين معمر القذافي وخطري الجماني في شهر نونبر من سنة 1983، حين كان معمر القذافي بصدد البحث عن مخرج من ورطة دعم البوليساريو، اقترح على الملك الحسن الثاني إمكانية عقد لقاء خاص مع بعض القيادات الصحراوية، لمعرفة رأيهم في القضية وإمكانية سل الشعرة من العجين بأقل جروح. وشاءت الصدف أن يستقبل الزعيم الليبي في جلسة بخيمته في صحراء سرت خطري ولد سيدي سعيد الجماني والخليلي محمد البشير والد زعيم البوليساريو محمد عبد العزيز. بعد المصافحة والترحاب سحب القذافي من ظرف كبير صورتين الأولى لرئيس جبهة الانفصاليين وهو في عز شبابه، والثانية لفرانكو الرئيس الإسباني السابق، سأل معمر والد محمد المراكشي عن صاحب الصورة فلم يتعرف عليه، وسأل خطري عن صاحب الصورة الثانية (فرانكو)، فلم يتعرف عليه، لأن الصورتين تعودان لفترة شباب الرجلين. قال القذافي كيف لا يتعرف شخص عن ابنه وقيادي عن رئيس عايشه طويلا؟. فوقع نظر خطري على صورة قديمة للقذافي في مطبوع على الطاولة، فأمسكها وتأملها قائلا للزعيم الليبي: «لولا وجودنا في خيمتك هنا في ليبيا لما علمت بأن هذه الصورة القديمة لك؟» مهندسو لقاء أكادير في مصحة واحدة من المفارقات الغريبة في حياة خطري أثناء مرضه، أنه التقى في نفس المستشفى بالرباط، برجال صنعوا معه ملحمة البيعة، فقد أصر الملك الراحل الحسن الثاني يوما على زيارة خطري في مستشفى ابن سينا بالرباط، ويتذكر العاملون بهذا المرفق الصحي يوم حضر الملك بدون سابق إنذار إلى جناح جراحة القلب، وأصر على صعود السلم إلى الطابق الخامس، لأن المصعد كان معطلا، لعيادة كل من الشيخ خطري ولد الجماني، الذي كان مصابا بشلل نصفي وعبد اللطيف الفيلالي الوزير الأول آنذاك، الذي نقل إلى المستشفى نفسه على إثر إصابته في حادثة سير بطريق زعير بالرباط، وشخصية أخرى كبيرة داخل الدولة لها إسهام كبير في لقاء أكادير التاريخي. كان الثلاثة يرقدون بالجناح نفسه. لكن يومها لم تتخذ أية إجراءات استثنائية داخل المستشفى، فالملك بنفسه لم يفضل الحضور في الموعد الذي كان مقررا للزيارة وهو الثانية عشرة ظهرا، وفي المساء عند الساعة الخامسة فاجأ الجميع بحضوره في مراسيم عادية. في هذه اللحظة ذكر الحسن الثاني كلا من خطري والفيلالي بلقائهما في سفارة مدريد، وكيف شاءت الأقدار أن يلتقيا في ضيافة مستشفى عمومي بعد أزيد من عقدين. من البرلمان الإسباني إلى مجلس النواب إذا كان خطري قد وقف طويلا في البرلمان الإسباني ممثلا لسكان الصحراء، فإن نجله إبراهيم الجماني، ظل يثير الجدل في أوساط السياسيين بالبرلمان المغربي، حين طالب تحت قبة البرلمان الحكومة إلى «الكشف عن أسماء ناهبي أموال وثروات الصحراء»، معبرا عن استعداده للمساهمة في إطار لجنة تقصي الحقائق، «نحن كمنتخبين وأعيان وفاعلين في المنطقة الجنوبية سنكون أول من يمد يد المساعدة، وسنكون سعداء ومفتخرين أن نبدأ المحاسبة بأنفسنا». لكن هذه الخرجة جلبت الكثير من ردود الفعل الغاضبة، إذ ذكره الكثيرون بأنه منتخب عن دائرة اليوسفية بالرباط وليس الصحراء، فأحرى به أن يكشف عن فساد الدائرة الانتخابية أولا. الجماني يحجز صفحات في الفايسبوك خجزت طرائف خطري ولد سيدي سعيد الجماني لها صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، فنقرة بسيطة تصادف أكثر من صفحة حول الرجل الذي ارتبط، غصبا عنه بالسخرية والنكتة السياسية، على غرار طرائف سعيد الجماني، أو الجماني مغربي حقيقي، أو اضحك مع الجماني، وقس على ذلك من المواقع التي يقبل عليها الشباب المغربي. لكن هذه الصفحات لا تجلب الكثير من الاهتمام في الوقت الراهن، بعد أن ارتفعت «كوطة» بوزبال، قريقيبة، تقشاب سياسي، وهي صفحات عليها إقبال كبير وتفاعل يومي أنسى الناس في خرجات الراحل خطري. الجماني والريع.. يضحك كثيرا من يضحك أخيرا منذ سنة 1975 قرر خطري ولد سعيد الجماني الاستقرار في العاصمة الرباط، واضعا حدا لحياة الترحال، فكان على النظام أن يرد للشيخ الجميل ويكافئه بامتيازات على غرار كثير من النجوم الذين أسدوا للوطن خدمة ما في الملعب أو على المسرح أو في مسرح السياسة أيضا. استفادت عائلة الجماني من سخاء الريع الاقتصادي، بعد أن اختارت المهادنة والعيش في ظل الأحداث بعيدا عن الأضواء، كان الشيخ حريصا على صلة الرحم مع رموز قبيلته الركيبات وتتبع أخبار الصحراء، وبين الفينة والأخرى يقضي أياما في الديار المقدسة بعيدا عن لغط السياسة. استفادت عائلة الجماني من «طوبيسات» الرباط وتمارة لمدة ثلاثة عقود، واختار الاستجابة لملتمس السلطة بعدم التقدم للانتخابات في الصحراء وقبول القسمة السياسية.