إذا كانت هذه العقوبة تتسم ب"القسوة"، في نظر مناهضيها، وينبغي استبدالها بعقوبات وأساليب أقل قسوة -كالسجن، مثلا- رحمة بالمجرم!؟ أفليس من القسوة أن يعتدي مجرم على أبرياء ويزهق أرواحهم ويروع الآمنين من الناس ويسلب ممتلكاتهم!؟ ثم إن القوانين والتشريعات لما وضعت هذه العقوبة كانت تروم الحفاظ على المجتمع وحياة الأفراد وسلامتهم، وبالتالي فتنفيذها في حق أشخاص خطرين مقابل ضمان حياة وسلامة الكل هو عين الشريعة. وقد أوقفت سويسرا العمل بعقوبة الإعدام منذ عام 1944، مما أدى إلى تنامي الجرائم إلى حد دفع مجموعات في الآونة الأخيرة بالمطالبة بإعادة العمل بهذا الحكم الذي أصبح ضروريا. فإذا لم تتخذ الدول إجراءات زاجرة ترضي المجتمع وتجبر خواطر الضحايا وأسرهم، نصبح أمام فوضى عارمة قد تزداد تفاقما بانتشار ظاهرة الانتقام؟ وإذا كان مناهضو العقوبة يحتجون بحقوق الإنسان، وعلى رأسها حقه في الحياة.. فأين حق الحياة لمن أهدر دمه وكم تقدر الخسارة والحالة النفسية لمن اغتصبت وانتهك عرضها؟ وكم من حالات اغتصاب وقعت ظل فيها الجاني حرا طليقا بينما لاحق العار والخطيئة الضحية طوال حياتها، وربما تنكر لها أهلها وأصبحت رقما زائدا في عالم الدعارة والفساد! فهل، يا ترى، سيستمر أحد هؤلاء المنادين بحقوق الإنسان والحرية في المطالبة بحذف هذه العقوبة إذا ما تعرض لمثل هذه الجرائم..؟ إن هؤلاء مولعون بتقليد الغالب -كما يقول ابن خلدون- واقتناء سلعه الفكرية حتى وإن تعارضت مع قيمنا ومنظومتنا الفكرية والإيديولوجية. ويرى أحد منظري فلسفة الأنوار جون لوك (1588 - 1679) في مؤلفه "محاولة للفهم البشري"، في معرض حديثه عن الحرية، أن الالتزام بقوانين الله وأوامره يحدد حريتنا ويحقق لأرواحنا الفلاح والسعادة الأبديين... إن العقلاء من مفكري العالم، منظرين وفلاسفة وفقهاء القانون والشريعة، لم يقولوا بإلغاء هذه العقوبة من الأصل، بل طالب البعض بتقليص حالاتها فقط. إن زماننا عرف تغيرا هائلا، وهناك أشياء اقتضت التشديد مثلما فعل الفاروق عمر بن الخطاب بشارب الخمر لما رأى استفحال شرب الخمر أصبح يهدد المجتمع وينشر الرذيلة، حيث أمر بجلده 40 جلدة بعدما كان يضرب على عهد النبي (ص) بالنعال، وهناك أشياء جعلت علماء العصر يدخلونها في حد الحرابة، مثل اغتصاب النساء، فإذا قام عدد من الشبان باغتصاب فتاة أو امرأة بعد اختطافها من زوجها أو من سيارتها، فالحكم الشرعي العادي يقول بجلدهم مائة جلدة، لكن ما حدث هو سطو على الأعراض وهتك للحرمات وإخافة للناس وترويعهم، ولذلك قالوا إن ذلك يدخل في حد الحرابة والقتل، أي الإعدام، وكذا من يروج المخدرات، لأنها سموم تقتل شباب مجتمعنا وتضيعهم؛ فماذا تفعل الدولة بمن يتجسس على إمكاناتها وقدراتها العسكرية ويتخابر مع العدو..؟ لذلك نصَّ القانون الجنائي لكثير من الدول على عقوبة الإعدام (مصر وإيران.. والولايات المتحدة الأمريكية) لأن القوانين لا تقصد الانتقام من المجرم وإيلامه بقدر ما تهدف إلى حماية المجتمع ونشر الأمن والطمأنينة بين الناس وصيانة كرامتهم. والمغرب كبعض الدول (الجزائر وتونس والأردن...) رغم تنصيصه من خلال القانون الجنائي على عقوبة الإعدام، عمل على التجميد العملي لتنفيذها منذ عقدين من الزمن (1993 في حق الكوميسير ثابت) رغم أنه قلص من الحالات الموجبة لها. إن عقوبة الإعدام تحقق، من خلال تطبيقها، عدة مزايا وتضمن الاستقرار للمجتمعات، حيث تكون العقوبة من حجم الجرم المرتكب، ومن ثم نلمس -أولا- فاعلية عقوبة الإعدام في مواجهة المجرمين ممن لم تنفع معهم أساليب الإصلاح، وحماية المجتمع من شرورهم، وتحقيق الردع العام؛ فالإعدام يبقى أكثر العقوبات مكافحة للإجرام، لأن أغلب ما يحرص عليه الإنسان هو حياته، ويكون التهديد بإنهائها عاملا إيجابيا وقويا لصرفه عن قتل النفس، لأنه في بعض الجرائم لا يتحقق التناسب بين الجرم والعقوبة سوى بالإعدام (جرائم القتل العمد والاغتصاب والاتجار في المخدرات..). وفي علم الجراحة عندما يتم التيقن من استحالة عودة عضو ما إلى أداء وظيفته بفعل مرض خبيث يتم بتره كي لا يمتد داؤه إلى باقي الأعضاء فيصيبها بالشلل، (ولكم فى القصاص حياة يا أولي الألباب)، وهذا تحقيق للعدالة ثانيا. ثم إن هناك، ثالثا، صعوبة في إيجاد بديل لعقوبة الإعدام التي تؤدي دورها في السياسة الجنائية لأن العقوبة المؤبدة تتحول في كثير من الأحيان إلى مؤقتة بفعل نظام الإفراج الشرطي أو العفو؛ وتكون حالات "العود"، حيث تعود عناصر كثيرة إلى اقتراف جرائم وجنح أشد خطرا بعد وقت وجيز من تسريحهم، بسبب ضعف سياسة تأهيل وإدماج السجناء على نسيج المجتمع..؟! ولا يمكن إغفال الجدوى الاقتصادية لعقوبة الإعدام، وهي الميزة الرابعة، فهي غير مكلفة من الناحية الاقتصادية إذ لا يستغرق تنفيذها سوى برهة يسيرة، فى حين يكلف تنفيذ سلب الحرية نفقات باهظة (سجون وحراس و...) تتحملها الدولة وتهدر كثيرا من الإمكانيات هي في أمس الحاجة إليها. لكن هذا لا يعفي الدولة من العمل على نهج أساليب الوقاية بتجفيف منابع الجريمة من فقر وبطالة وجهل وتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال العمل على إجراء إصلاحات بنيوية على الواقع الاقتصادي-الاجتماعي ستساهم بدون شك في التقليل من معدل الجريمة وتجعلها تتراجع إلى حدود ضيقة جدا وتوفر ظروف الاستقرار للمجتمع التواق إلى تحقيق الرخاء والرقي الإنساني إلى أعلى درجات الكمال. عبد الله شخمان* *باحث في قضايا التنمية