ذهب الناقد الفلسطيني، وأستاذ الأدب العربي في الجامعة الأردنية، شكري عزيز ماضي، في كتابه الجديد "شعر محمود درويش أيديولوجيا السياسة وأيديولوجيا الشعر»، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان، إلى التحذير من أمرين بالنسبة إلى دارسي ومحبي أدب الشاعر الراحل محمود درويش، هما: تحويله إلى أسطورة من جهة، واختزاله في صورة مصطلحات معينة من جهة أخرى. يؤكّد الناقد الفلسطيني شكري عزيز ماضي أن التحوّل في شعر درويش لا يعني «التراجع» أو «التعالي على تحدّيات الزمان والمكان»، وإنما يعني «التباين» في كيفية رؤية الإرادة الإنسانية، وهي تعمل ضد الفوضى والارتباك والقهر، وفي تصوير الفعل البشري، أو النشاط الإنساني في تنوّعه وغرابته وعُقده. وضمن فصول الكتاب يلقي الكاتب أضواء جديدة على كثير من الظواهر الفنّيّة في شعر درويش، وفي إرساء أسس من شأنها تهيئة الأجواء لقراءة نصوصه الشعرية قراءة موضوعية ومنصفة.
في الفصل الأول من الكتاب، المعنون ب«الخيال السياسي والخيال الشعري» كتب شكري ماضي بأن لتجربة درويش الشعرية ظواهر مهمة، منها أنها ولدت «ونمت وتطورت في حضن صراع سياسي طويل ومعقد، وهو صراع له أبعاد فكرية وحضارية وإنسانية... وتنهض تجربته الشعرية على مجموعة من المرتكزات مثل: الشعر/ الإنسان/ الحرية/ المكان/ المتلقي/ المستقبل». ويرى شكري ماضي أن تجربة محمود درويش تجسد علاقة جدلية بين الشعر والحرية، موضحا أن شعره ينبثق عن الحرية ويسعى نحوها ويطمح على الصعيد الفني إلى التحرر من القولبة والتحديدات والأطر المتنوعة. وأضاف الناقد الفلسطيني أن قصائد درويش "قصائد متطورة متجددة تبعا لتطور مفهومي الشعر والحرية معا. فتجربته الشعرية ليست كلا موحدا وإلا أصبحت قصائده نسخا متكررة"، مشيرا إلى أن تلك القصائد "تنطوي على تفاعل وصراع بين السياسي والفني أو بين الضرورة والحرية أو بين صوت الأيديولوجيا السياسية وصوت الشعر. إذ يلمس المرء أن هناك تنافسا بين الخيال المقيد بإملاءات الأحداث التاريخية والخيال الشعري ذي الأفق الطليق. كما يلمس أن محمود درويش يطمح منذ البدء –وهذا من خلال قصائده– أن يكون شاعرا لا سياسيا، وفنانا لا مؤرخا». ويختم الباحث كتابه، الذي قال عنه إنه انطلق من فرضية هي تحول محمود درويش «من شاعر المقاومة إلى شاعر الحرية أو تحول شعره من أيديولوجيا السياسة إلى أيديولوجيا الشعر. وفي سبيل التحقق منها وقف الباحث عند نصوص شعرية عديدة ومتنوعة شملت معظم إنتاج درويش الشعري، بدءا من أول ما كتبه وانتهاء بآخر قصيدة ألقاها قبل رحيله (لاعب النرد). وأضاف شكري ماضي أن تجربة درويش الشعرية ولدت ونمت «في ظل سياق خاص، هو سياق النصف الثاني من القرن العشرين، الذي شهد الاحتلال والصراع وتجربة الكفاح المسلح وتعثرها (الجزئي) وتجربة الصمود (والبقاء) والاغتراب داخل الوطن وتجربة المنافي والرحيل الدائم". لكن ذلك لم يكن «العامل الحاسم في شعريته وإبداعه». ويضيف بأن الصوت الشعري لدرويش «يتميز بخصائص فنية وفكرية عامة، من أهمها أن تجربته ترتكز على محاور أساسية، هي: الشعر/ الإنسان/ الحرية/ المكان/ المتلقي/ المستقبل، إضافة إلى البحث الدائم عن نظام جديد في الكتابة الشعرية في سبيل التوصل إلى جماليات تمكن من صوغ قصائد تكشف العلاقة بين جوهر اللحظة الزمانية والمكانية (التاريخية المعيشية) وجوهر الحياة أو مسوغ الوجود المتمثل في الكفاح الإنساني الشامل في كل زمان ومكان". أما بالنسبة للحداثة فأوضح الباحث الفلسطيني أن محمود درويش له مفهوم خاص للحداثة، يعني التجديد المستمر في نظام القصيدة، «تجديد يأتي تلبية للمتغيرات والأسئلة والتحديات المنبثقة عن حركة الزمان في سبيل تصويرها وتعليلها وتفسيرها فنيا، فهو تجديد يهدف إلى فهم العالم وحيازته جماليا فكأن الحداثة لديه تعني العمل على تحرير الذات الفردية والجمعية والإنسانية». وأضاف أن المتتبع لشعر درويش يلاحظ أنه «نجح في تجسيد رؤية جماعية.. رؤية فنية يستوي في مدى ارتياحه إليها وتأثره بها المثقف وغير المثقف. وهو من القلائل الذين أسهموا...في ترسيخ تجربة الشعر العربي المعاصر وتأكيد جدواها وفاعليتها». وأكد شكري ماضي أن «تأكيد تميز شعر درويش وحضوره وتفوقه يجب ألا يسمح بأسطرته أو تحويله إلى أسطورة. فمثل هذا التحويل يجعله ويجعل تجربته عصية على الفهم والتفسير والدرس، إذ تعيد شعره إلى مصادر غير ملموسة وتبدد طاقات إبداعية كثيرة واعدة»، مشيرا إلى أن «التعامل مع محمود درويش وشعره باعتباره أسطورة لم يقتصر على المرحلة التي سبقت رحيله أو التي أعقبتها وإنما بدأ منذ زمن بعيد». وينقل الباحث قول درويش نفسه في هذا المجال: «ولست قادرا على فهم لماذا لا يزال البعض هنا مصرا على الحاجة إلى أساطير. إنني أعتز بالمعاني التي أرمز إليها.. أعتز بالقضية التي أحملها..أعتز بحب الناس الشرفاء وعطفهم على قضيتي. ولكن معاملتي كأسطورة تجرد قضيتي من جوهرها وحقيقتها وتحولها إلى حالة فردية و إلى بطولة فردية ولست بطلا كما يظن البعض...الأبطال الحقيقيون هم الذين يموتون لا الذين يكتبون عن الموت». وأوضح ماضي أنه «مقابل الأسطرة هناك من يختزل شعره ويختزل تجربته الشعرية بالقول بأنه «شاعر المأساة» أو «شاعر القضية». ويحسب المرء أن الاختزال يكاد يشكل ظاهرة في حياتنا الأدبية والنقدية العربية».