تركيا تتصرف على قاعدة أن السلام مع إسرائيل لا يعني إخفاء الرأس في الرمال أو السكوت عن الجرائم الإسرائيلية الخلافات والتباينات العربية التي طغت على المشهد السياسي العربي خلال حرب غزة الأخيرة، لا يمكن فهمها فقط ضمن سياسة المحاور والضغائن والحساسيات الشخصية والتاريخية، يجب البحث عن خلفياتها وجذورها عبر حزمة أو سلة من المفاهيم السياسية، الجامدة والبائدة والتي باتت من الماضي أو الخاطئة ولا تستند إلى أسس وركائز قوية بل إلى تصورات ورؤى شخصية فئوية وضيقة. أول المفاهيم التي تتحكم وتنتصب في خلفية الحركة السياسية والدبلوماسية لدول عربية مهمة تلك المقولة التي أطلقها أنور السادات- ولم يتصور لحظة أنها ستتحول يوماً إلى قاعدة للعمل السياسي والدبلوماسي العربي- %99 من أوراق اللعبة بيد أمريكا، السادات ابتدعها فقط في سياق تبرير سياساته الخاطئة والكارثية، في الماضي كما الآن لم تكن أمريكا تتحكم ب99% من أوراق الصراع، غير أن الواقع أضحى أكثر سطوعاً ورسوخاً فتدهورت مكانة أمريكا وصورتها وسمعتها على المستوى العالمي، وهي تغرق في وحل العراق وأفغانستان وتتخبط من فشل إلى آخر سواء في فلسطين أو لبنان، علما أن احد أقوى الأدلة على تراجع الدور الأمريكي يأتي من حديقتها الخلفية أمريكا اللاتينية التي فقدت فيها نفوذها التاريخي والتقليدي، بل إن معظم الدول هناك باتت تتبنى سياسات مختلفة أو حتى معادية للتوجهات والرؤى الأمريكية دون أي اعتبار لنظرية ل%99 المتهالكة. ثاني المفاهيم الجامدة والخاطئة في آن، والتي تتحكم بخلفيات السياسة العربية وتترجم في تجلياتها وتعبيراتها اليومية يتمثل في شعار السلام مع إسرائيل خيار استراتيجي ووحيد. لا يمكن للسلام أن يكون خيارا استراتيجيا بأي حال من الأحوال. فماذا لو فرضت الحرب من طرف آخر معاد. كما أن أي خيار لا يمكن أن يكون استراتيجيا ووحيدا في آن معا، لبديهية وضرورة البحث عن بدائل في حالة الفشل. منذ ابتداع هنري كسنجر لمقولة عملية السلام حلت هذه محل السلام نفسه وباتت بديلاً عنه. وبعيدا عن كيسنجر ومقولته يمكن ملاحظة وتتبع مسار تعامل إسرائيل مع مبادرة السلام العربية، ألقاها أرييل شارون في مكانها الطبيعي في رأيه: سلة المهملات، واعتبرها لا تساوي الحبر الذي كتبت به، قبل أن يجتاح الضفة الغربية محتلا لها من جديد بعدوان السور الواقي متخذا قرار اغتيال الرئيس الشهيد ياسر عرفات. وحتى بعد شارون لم يعترف أو يقبل أي زعيم إسرائيلي بمبادرة السلام العربية، كما هي، أما حكومة كديما - العمل التي شنت حربي غزة ولبنان وتساوقت شكلا مع مسيرة أو أكذوبة أنابوليس، فقد مارست كل شيء إلا السلام، وهي فرضت تصورها للحل النهائي في الضفة الغربية بشكل أحادي وبمعزل عن المفاوضات، ذلك بتنفيذ خطة ايه1 التي تربط معاليه أدوميم بالقدس وتفصل الضفة الغربية إلى قسمين، وترافق هذا مع الإصرار على ضم التكتل الاستيطاني أرييل في أي تسوية، وهو الذي يتوغل في الضفة الغربية بعمق20 كلم ويشطر بدوره شمال الضفة الغربية إلى شطرين، وهي صادرت منذ أسابيع 1700 دونم قرب الخليل لتوسيع وتسمين تكتل غوض عتصيون الذي يقسم بدوره جنوب الضفة الغربية إلى قسمين، حكومة السلام المزعوم ومسيرة انابوليس زادت الاستيطان بنسبة %60 خلال عام 2008 واستغلت ما توصف بعملية أنابوليس ليس فقط لفرض الحل الأحادي وإنما أيضا لشن حرب غزة، مؤكدة زيف وبهتان مقولة: السلام خيار استراتيجي وحيد. ثالث المفاهيم الخاطئة الذي يوجه دبلوماسية بعض الدول العربية هو اعتبار حماس -وحركة الإخوان المسلمين- خطرا على الأمن الوطني في هذه الدول، وهو مفهوم لا يصمد أمام أي نقاش أو جدال فعال ومنصف وواقعي. حماس حركة مقاومة تسعى وتعمل من أجل انتزاع ونيل الحقوق الفلسطينية، وحتى مع أخطائها الصغيرة والكبيرة والتي انحصرت بالشأن الفلسطيني، لم تشكل في أي لحظة خطراً على أي من الدول العربية، ولم تفكر يوما أو تعلن عن نيتها نقل الصراع مع إسرائيل إلى خارج فلسطينالمحتلة. وفي المقابل سعت دائماً إلى علاقات متينة وقوية حتى مع ربط الأنظمة التي تفكر بشكل سلبي تجاهها. وأكبر دليل على ذلك انخراطها الجاد في المساعي الهادفة إلى حل الخلاف الداخلي وحتى في الحوارات غير المباشرة مع إسرائيل، والتي تخوضها حماس على أساس المصلحة الوطنية الفلسطينية وفق رؤيتها أو اجتهادها الخاص، نفس القاعدة يجب أن تحكم أيضا نظرة الآخرين تجاهها، عبر التركيز على المصلحة الوطنية العامة والعريضة بعيداً عن زواريب ومتاهات الخلافات والتباينات القطرية التي تعلن حماس جهاراً ونهاراً النأي بنفسها عنها. رابع وآخر المفاهيم الخاطئة التي توجه وتهيمن على بعض السياسات العربية يتمثل في اعتبار إيران خطرا على الأمن القومي العربي، رغم أن هذه الأخيرة تقف إلى جانب الحقوق والشعوب العربية في مناهضتها ومقاومتها للمشروع الأمريكي الإسرائيلي،أي ملاحظات على أداء إيران سواء في العراق أو أفغانستان يجب أن تناقش بشكل صريح ومباشر بعيدا عن التدخلات الأجنبية، وكما لاحظ وزير الخارجية المصري السابق أحمد ماهر، فإن من الغريب ألا يكون هناك حوار عربي - إيرانى رغم وجود هكذا حوار مع دول بعيدة وحتى مع إسرائيل، ماهر طرح وجهة نظر مهمة جداً ولافتة: إيران مهددة في أمنها القومي وهي تبحث عن الوسائل لحماية نفسها ولابد من حوار عربي معها لطمأنتها والاستفادة من إمكانياتها وثقلها الكبير لدعم القضايا العربية العادلة. إذا كانت المعطيات والبراهين السابقة لا تكفي لنقض المفاهيم السياسية العربية الجامدة والخاطئة، يمكن التمعن جيداً في الموقف التركي الأخير الذي يكفي وحده لنسفها من جذورها، تركيا دولة عضو في حلف الأطلسي حليفة للولايات المتحدة، لكنها لم تتورع عن اتخاذ مواقف وتوجهات مناقضة للتي تتبناها حليفتها العظمى، كما أنها تتصرف على قاعدة أن السلام مع إسرائيل لا يعني إخفاء الرأس في الرمال أو السكوت عن الجرائم الإسرائيلية، وتصر على التعاطي مع حماس على أساس ثقلها المحلي وحتى الإقليمي كما بناء على الخيار الديمقراطي والشفاف للشعب الفلسطيني وبالتالي ضرورة عدم عزلها أو حصرها في الزاوية. وإجمالا فإن الدور التركي يكرس ضرورة وأهمية الدعم الإسلامي والإقليمي للقضايا العربية، ويزيل الاحتقان حول الدور الإيراني ومقاربته على أرضية التوجس والحذر. لا يمكن تصور تغيير في السياسات العربية الرسمية أو حدوث مصالحات عربية على أساس صلب ومتين دون مراجعة جدية وعميقة للمفاهيم الجامدة التي أثمرت سياسات عربية كارثية، ليس فقط في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل وإنماأيضا بالملفات والسياسات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية.