ما من حرب صغيرة كانت أو كبيرة إلا وأفرزت بعد انتهائها خرائط جديدة سياسية وجغرافية أيضا، والحرب التي شنتها إسرائيل على غزة طوال اثنين وعشرين يوما وأعلنت إسرائيل رسميا عن وقف إطلاق النار فيها، في 18 يناير، لم ولن تكون استثناء من هذه القاعدة، وإن كانت خرائطها لن يتم الانتهاء منها سريعا رغم المساعي الحثيثة التي قامت بها كافة الأطراف من أجل الانتهاء سريعا من رسمها، فقد بدأ صانعو الخرائط السياسية يرسمونها منذ أول يوم للحرب، حينما دعت قطر إلى قمة عربية طارئة للبحث في شأن العدوان على غزة لم تستجب لها أغلب الحكومات العربية، وكأن الذين كانوا يقتلون في غزة هم من اليهود وليسوا من الفلسطينيين العرب المسلمين، ثم عقدت القمة في الدوحة بعد ما يقرب من ثلاثة أسابيع من بداية الحرب بمن حضر، وذلك في الوقت الذي كان يكتمل فيه النصاب ثم ينحسر ثم انحسر، وعقدت القمة مع غياب أكثرية الدول العربية التي لم تحفل بالدم الفلسطيني المسكوب في غزة من خلال «الرصاص المسكوب» الذي صبته إسرائيل على كافة أشكال الحياة في غزة، وبدا أن هناك خرائط سياسية عربية جديدة، تجلت في قمة الكويت التي عقدت في العشرين من يناير وحاولت أن تعيد الاعتبار إلى شرعية محمود عباس المنتهية ولايته والذي تصفه حماس برئيس السلطة غير الشرعي، وذلك كي يعود على خلاطات الإسمنت من خلال منحه سلطة إعادة إعمار غزة، بعدما فشل في العودة على دبابات الاحتلال التي أجبرت على الانسحاب، بعدما فشلت في تحقيق أهداف حربها ووعد عباس، الرئيس غير الشرعي بحكم الدستور الفلسطيني حيث انتهت ولايته رسميا، حسب تأكيد رئيس لجنة إعداد الدستور الفلسطيني الدكتور أحمد الخالدي، في حوار أجريته معه في أول أكتوبر من العام الماضي 2008، وهو شخصية فلسطينية مستقلة لها احترامها لدى الجميع، حيث أكد لي أن ولاية رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس غير شرعية بعد التاسع من يناير 2009 وفقا للدستور الفلسطيني الذي رأس لجنة إعداده. أما الإسرائيليون فقد عاثوا فسادا في غزة وأهلكوا الحرث والنسل، وحتى يخلو المشهد في العشرين من يناير لتنصيب سيد البيت الأبيض الجديد باراك أوباما، كان لابد أن يتم تنظيف شاشات التلفزة العربية من مشاهد الدماء والأشلاء التي كانت تغطيها طوال أيام الحرب وذلك حتى تشارك في حفل تنصيب الرئيس الجديد مثل شاشات التلفزة الغربية التي شاركت الإسرائيليين في حربهم على غزة، حيث كانت تغطي ما يحدث في الجانب الإسرائيلي متجنبة إلى حد بعيد ما كان يحدث لسكان غزة، بعدما نجحت إسرائيل في منع دخول الصحفيين الغربيين إلى غزة تماما كما فعلت الولاياتالمتحدة في حربها على مدينة الفلوجة في العام 2004، وذلك حتى لا يعرف العالم حجم الجريمة التي ترتكبها ولا يتابع تفصيلاتها، وكان الضوء الأخضر الذي أخذته إسرائيل من واشنطن واضحا قبل بداية المعركة بأن يتم الانتهاء منها قبل حفل تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما، حتى ينشغل الناس بأوباما وقراراته الجديدة وينسوا الجريمة التي وقعت في غزة أيا كان حجمها ومساحتها، وهذا ما حدث بشكل بارز حتى الآن. ترافق إعلان إسرائيل في الثامن عشر من يناير عن وقف إطلاق النار مع تحركات كثيرة لتتويج جرائم إسرائيل في غزة بنصر سياسي عالمي والمشاركة في صناعة وفرض الخرائط التي تخدم إسرائيل وأمنها على الجميع، فقد تنادى زعماء حلف الأطلسي إلى إسرائيل في العشرين من يناير لتجديد الدعم لها بشكل علني ومشاركتها في كل ما قامت به من جرائم ومروا في طريقهم إلى إسرائيل بمدينة شرم الشيخ المصرية لتوجيه التحية للرئيس المصري حسني مبارك على ما قام به خلال الحرب الطاحنة التي قامت بها إسرائيل على قطاع غزة، وفي إسرائيل أكدوا على دعمهم التام لكل ما قامت به من جرائم وحضوا على سرعة عقد اجتماع في بروكسيل تحضره تسيبي ليفني، وزيرة خارجية إسرائيل، مع الوزراء الأوربيين للبحث في آليات فرض حصار دولي على غزة بحرا وجوا وبرا لإسقاط حماس وحكومتها بالتحالفات والخرائط، بعدما عجزت الآلة العسكرية الإسرائيلية عن تحقيق ذلك بملايين الكيلوغرامات من المتفجرات التي صبتها على غزة طوال ثلاثة أسابيع، وقبل ذلك بأيام قامت وزيرة خارجية إسرائيل ليفني بتوقيع اتفاق مع وزيرة الخارجية الأمريكية المنصرفة كوندليزا رايس، تضمن به الولاياتالمتحدة فرض طوق أمني على قطاع غزة يمنع حماس من الحصول على أية أسلحة، بل يحصي على أهل غزة كل حبة قمح أو حبة دواء على السواء، يمكن أن تدخل القطاع، وذلك بتعاون كامل مع حلفائهم من الأنظمة العربية. كل هؤلاء تحركوا من أجل إقرار ورسم الخرائط الجديدة لحرب ما بعد غزة، والتي تقوم على عدم منح حركة حماس أية فرصة لاستغلال صمودها في غزة أو جني الثمار، وتطويق هذا الصمود بحصار جديد من نوع آخر وفرض خرائط جديدة، يشارك فيها الجميع ويتيح للخونة والمتآمرين الاختباء وراء القوانين والقرارات والقوى الدولية والشرعية الدولية والشعارات الفارغة القائمة على نهب قدرات وثروات المنطقة واستعباد شعوبها، عبر توظيف زعمائها لتحقيق أهدافهم وعبر الخرائط السياسية والجغرافية التي تفرضها. ولأن أمريكا كانت مشغولة بتتويج رئيسها الجديد فقد دخل أوباما على الخط سريعا وبعد يومين من تتويجه، حيث أكد على ما قام به حلفاؤه الأوربيون وجدد التزامه بأمن إسرائيل ورفاه شعبها حتى على جماجم الفلسطينيين ودمائهم وأشلائهم، وعين مبعوثا خاصا للشرق الأوسط ستكون مهمته الرئيسية هي توثيق وتأكيد الخرائط التي سعى الإسرائيليون وحلفاؤهم الأوربيون مع حلفائهم من الصهاينة العرب إلى تأكيدها على أرض الواقع، حتى لا تجني حماس ثمار صمودها وحتى لا ينعم أهل غزة الذين وجدوا أنفسهم في النهاية أنه لا ملجأ لهم إلا إلى الله، حيث كانوا في البداية يقفون أمام شاشات التلفزة ويستغيثون العرب لكنهم أصبحوا يعتمدون على الله وحده حينما أدركوا أن العرب قد ماتوا وأن الشعوب العربية لم تكن تملك سوى الهتافات في الشوارع وعبر شاشات التلفزة، ثم عاد الجميع أدراجه إلى إيقاع حياته اليومي بعدما أعلنت إسرائيل وقف إطلاق النار، وكأن المعركة كانت تقوم على وقف إطلاق النار وفتح المعابر وليست معركة تحرير هذه الشعوب من الاستعباد التي تعيش فيه والذي هو سبب كل ما تعانيه الأمة وتحرير فلسطين التي بدأت قضيتها عام 1948 تنادي بفلسطين كل فلسطين، ثم قزمت بعد هزيمة عام 67 إلى حدود 67 ثم قزمت بعد ذلك إلى غزة والضفة، ثم قزمت الآن إلى المعابر والحصار. خرائط ما بعد غزة هامة للغاية لأنها ستحدد شكل المنطقة خلال السنوات العشر القادمة على الأقل، وليس بالضرورة أن ينجح المتآمرون جميعا في تحقيق خرائطهم، لأن هناك سننا كونية ومسارات في التاريخ، وهناك قوى جديدة فرضت نفسها بعد الحرب لا يمكن تجاوزها، فلا يمكن تجاوز تركيا إقليميا ولا يمكن تجاوز حماس محليا، لأن المعطيات على أرض الواقع حتى لو كانت تحت الحصار تصنع خرائط أخرى أعتقد أن الجميع سوف يشاهدها خلال الأيام القادمة.