هكذا تتشكل الرواية من سبعة فصول أطلق عليها المؤلف «ألوية»، لاتصال هذه التسمية بألوية الجهاد البحري الذي يتبوأ موقعا رئيسا في العالم السردي للرواية. وقد جعل هذه الفصول سبعة على عدد السور القرآنية المفتتحة ب»حم»؛ يدل على ذلك افتتاح جميع هذه الفصول بالحاء والميم، سواء في صيغة حرفين مقطعين «حم» أو بصيغة فعل «حمَّ»، وكذا ختمها بالآية الأخيرة أو بجزء من الآية الأخيرة في السورة القرآنية المقابلة لذاك الفصل. هكذا يختم اللواء/الفصل الأول باقتباس من سورة غافر والثاني من سورة فصلت والثالث من سورة الشورى والرابع من سورة الزخرف والخامس من سورة الدخان والسادس من سورة الجاثية والسابع من سورة الأحقاف. كما أن مدار المادة الحكائية يتمحور حول موضوعة الصراع بين الحياة والموت، ذاك الصراع الذي تشير إليه أيضا ثنائية الحاء والميم. إن هذه الهندسة القرآنية تروم بَنْينة مادة حكائية مستمدة من التاريخ، وهو ما يطرح علينا أسئلة أساسية حول الحدود بين التاريخي والإبداعي في هذا العمل الروائي. ولتبيين ذلك يلزمنا التعرف على ألمع معالم العالم السردي الذي تصوغه الرواية. محنة المطرودين تحكي «الحواميم» عن محنة طرد الموريسكيين من إسبانيا وما مورس عليهم من ظلم وبطش بدءا من نقض معاهدة تسليم غرناطة بين أبي عبد الله، آخر ملوك بني الأحمر، وملكي قشتالة والأرغون إيزابيلا وزوجها فرناندو عام 1492م، وما تلا ذلك من قرارات التنصير القسري للمسلمين بعد اليهود، مع ما صاحب ذلك من مصادرة لثروات المسلمين وممتلكاتهم ومنعهم من لغتهم ودينهم وتقاليدهم بالسيف والنار، وما كابده المقاومون لهذا الإكراه من ألوان التنكيل والبطش والتعذيب، وصولا إلى قرارات الطرد النهائي سنة 1609م، حيث تراوح عدد الموريسكيين المطرودين على اختلاف الباحثين بين 250 ألف ومليون موريسكي. وقد عرضت الرواية لتفاصيل هذه المأساة من خلال الرصد السردي لمسار عائلة الشيخ ابن معن، الذي رحَّلَ أسرته إلى المغرب خوفا عليهم من التعذيب والتنكيل، فيما أصر هو على المكوث بغرناطة للمساهمة في مقاومة هذا الظلم والتنفيس عن معاناة الأندلسيين حفظا لوصية جده يعقوب المنصور الموحدي بالعناية بالأندلس اليتيمة وسكانها الأيتام. هكذا راح الشيخ ابن معن يسهم في دعم المسلمين بشتى الطرائق للحفاظ على لغتهم وهويتهم وكيانهم، كما أسهم في تأطير ثورة البُشُرات ضد الهيمنة الظالمة للسلطات القشتالية من خلال النصح والتأطير، وواصل رسالته داخل السجن؛ خصوصا بعد أن دخل السجنَ ووقف على أنواع التعذيب والتفنن الوحشي في التنكيل بالمخالفين للعقيدة الكاثوليكية، أكانوا مسلمين أم بروتستانت. وقد عُرض الشيخ ابن معن على محاكم التفتيش الظالمة على كبر سنه ووهن عوده فجادل المحققين برباطة جأش وعزيمة مؤمن راسخ، فحُكم عليه بالإعدام شنقا في ساحة حي البيازين وأُضرمت النار في جثته بعد التنكيل والتمثيل بها. وقد استأنف المقاومة من بعده، ومن خلال الجهاد البحري انطلاقا من سلا، حفيدُه محمد الذي كان الشيخ قد أنقذه وساعده على الهروب نحو الضفة الجنوبية على متن سفينة قرصانية جهادية. هذا الحفيد سيتبناه ريّس السفينة التي هربته، وسيعلمه العلم وفنون البحر، مما سيؤهله لمواصلة المقاومة عبر الجهاد البحري، وسيكون سببا في إنقاذ الأسيرة «حياة». وهي فتاة من عائلة أندلسية عريقة أخذها صغيرةً أحد قساوسة محاكم التفتيش، وجعلها في أسرة قشتالية تولت احتضانها وتربيتها، ولكن لما علمت بأصولها المسلمة حاولت الهرب ضمن جماعة من الموريسكيين فأسرتهم السفينة القشتالية، التي سيستولي عليها حفيد الشيخ ابن معن، ليحررها ويتزوج بها، ويكون سببا في لقائها بأبويها الأصليين إثر حملة من حملاته لافتكاك المسلمين من بطش وأسر الإسبان. وتتخلل الروايةَ نقاشاتٌ لاهوتية وأدبية حول الإسلام والمسيحية والحركة الإصلاحية اللُّوثَرية وغيرها، كما تغتني بتوصيفات دقيقة لأشكال المقاومة الموريسكية للحفاظ على الشعائر والتقاليد الإسلامية، كما تعرض لألوان وأصناف التعذيب البشعة والفظيعة داخل السجون الإسبانية (التعذيب بالإجاصة اللعينة؛ المخلعة؛ المرفعة؛ النار الموقدة تحت الأقدام المدهونة بدهن الخنزير)..إلخ. كل هذه المعطيات تجعلنا ننأى عن تصنيف الرواية ضمن الرواية التاريخية، رغم اعتماد بعض خصائصها مثل هيمنة السرد بصيغة الفعل الماضي؛ ومراعاة التسلسل الزمني للأحداث، ذلك أن «الحواميم» تُنوع بين السرد بضمير الغائب من لدن سارد براني عالم متحكم بخيوط السرد، وبين السرد بضمير المتكلم، حيث يصبح الراوي مشاركا في الأحداث، وهو ما يخالف السرد التاريخي، فضلا عن الحوارات واللقاءات المتخيلة التي توسع من مساحة الخيال داخل الرواية (مثل محاورات حفيد ابن معن مع الأديب سرفانتس، أو النقاش الديني بين الشيخ ابن معن وأحد أتباع الحركة الإصلاحية الدينية لمارتن لوثر في السجن..)، أضف إلى ذلك السبر العميق لأحوال ومعاناة شخوص الرواية نفسيا وفكريا وجسميا جراء الممارسات الهمجية لآلة التعذيب القشتالية. استضاءة بما سبق، ومن خلال إنعام النظر وإمعان التأمل في تضاعيف الرواية وتضاريسها، نتبين أن هذا العمل السردي ليس أبدا استنساخا للتاريخ ولا محاكاة لوقائع وأحداث وردت في مصادر المعرفة التاريخية ووثائقها. إنه بناء مستقل يتحاور مع تلك المصادر ولا يكررها؛ يبسط ما فيها من معطيات وينسج انطلاقا منها ما ليس هي، إذ يتوالج ويتواشج في هذا النسيج التاريخ بالخيال؛ الكائن بالمحتمل، ويُعاد تسويد المسوَّد بشكل يمنح البياضات التاريخية معنى ودلالة في مسار السرد الروائي. فمن المعلوم اليوم، حتى في علم التاريخ، أن الحدث في ذاتيته حين يمضي فهو يمضي للأبد، ولا يمكن أبدا استذكاره واستحضاره كما هو في كامل وشامل كينونته التاريخية، ومن ثم فإن الخيال يتدخل في إعادة بناء صيرورة الماضي ويضفي عليه معقولية معينة لا يمتلكها بالضرورة، معقولية ما تفتأ تتحول وتتغير حسب تبدل المعطيات وظهور الوثائق وكشوف الحفريات؛ وكذا حسب آليات وخلفيات ومنطلقات وسياقات التأريخ والمؤرخ. إذا كان هذا ديدن السرد التاريخي، فما بالك بالسرد الروائي، الذي يشتغل على تشكيل مادته الحكائية من اللغة والخيال. فهذا الأخير إن كان ينفتح على السرد التاريخي فمن أجل توسيع مساحة الخيال فيه؛ خصوصا من خلال تلك المنافذ والفجوات والكوى والفراغات والبياضات التي تتخلل التأريخ أو على الأقل معقولية صيرورته في لحظة من اللحظات. ضمن هذا الأفق نفهم طبيعة الحدود المتحركة بين التاريخ والخيال في رواية «الحواميم»، وفي سائر أعمال ابن عرفة الروائية المتحاورة مع التاريخ. فثمة جهد جهيد بالوصول بالمعرفة التاريخية في هذا العمل إلى أبعد مداها؛ ثم بعد ذلك إعادة سبك وحبك هذه المادة التاريخية بشكل يجعل المحكي تاريخيا ولا تاريخيا في آن؛ إذ تنتمي أعلامه وأماكنه وأحداثه الكبرى وشخوصه إلى التاريخ، ولكن تفاصيله وتمفصلاته والبعد الإنساني والشعوري والنفسي والعرفاني تنتمي إلى «الخيال الخلاق» كما حددناه آنفا، وبذلك «يتسلطن ويتبختر» الخيال في هذا العالم السردي ل»الحواميم» كخَلق مؤسَّس يقدم حقائق في ذاتها تكتفي بنفسها عن الواقع؛ حقائق ليست بالضرورة تاريخية، بل هي معرفية، وجدانية وثقافية. ذاك ما لخصه ببلاغة دالة روائي خبر الاشتغال السردي على الخيال والتاريخ، يقول أمين معلوف: «الروائي ليس مُلزَما بدقة التاريخ، لكن أعتقد أنه ملزم بعدم الكذب تاريخيا». إنه اشتغال في غاية الدقة يقتضي كفاءات ومهارات خاصة من أجل إنجاز سردي متفرد واستثنائي. فأن تكتب عملا إبداعيا ينطلق ويتحاور مع التاريخ دون أن يكونه أو يذوب فيه، يتواصل معه ويتفاصل في آن، أمر ليس بيسير ولا في متناول أي قلم إذا لم تتجمع لدى صاحبه ميزات ليس أقلَّها ميزتا التمهر في البحث والقدرة على الإبداع. إن عملا أدبيا بهذه المثابة سيكون مُراقَبا بعينِ المؤرخ مثلما هو متلقىً بوصفه أدبا يجري في عروقه خيال دافق له الفجأةُ والغرابة والمكر بالتوقع وبأفق الانتظار خصائصُ وسمات. إن تينك المهارتين تُشعان في أعمال الأستاذ ابن عرفة حيث تتجلى مزايا العمق والجد والجدة والمجادلة العالمة المسنودة بالقرائن والحجج روايةً ودراية في باب البحث التاريخي، فضلا عن عمق في طرح مناقشات دينية وأدبية لها راهنيتها ودلالاتها وإشاراتها في ثنايا الرواية. وهي علامات دالة استثمر فيها الباحث تكوينه العلمي، بل تقمص فيها أيضا دور المؤرخ، علاوة عن مهارته، باعتباره خبيرا ثقافيا له دربة بالمناظرة والسجال. وهي علاماتٌ شكلت، إلى جانب غيرها، سفينةَ نوح هذه التجربة، وهي تروم خوضَ مغامرتها الإبداعية، مغامرةٌ عرفانيةٌ تمتح عرفانيتَها من تفاصيلَ تلتمعُ في رواية «الحواميم» مثلما يسري نُسغها في سائر مُبدَعَات هذا المشروعِ السردي. مغامرة وارتياد لآفاق مجهولة استنارةً بما سبق من رصد عام للنسق الإبداعي العَرفي، وفي ضوء ما أسفر عنه اقترابنا التحليلي الأولي من نموذج «الحواميم»، يمكنُ التأكيد أن المشروع الروائي لعبد الإله بن عرفة مُغامرةٌ إبداعيةٌ بالمعنى النقدي الدقيق لهذا التوصيف؛ بما تعنيه المغامرةُ هنا من ارتياد لعوالم غير مطروقة وآفاق إبداعية مجهولة؛ لها صدمةُ الغرابة ودهشةُ المداهمة وألقُ المباغتة علاماتٍ وهوية. إنها مغامرة إبداعية لكونها تراهن على تجديد بهاء اللغة والتأسيس المعرفي للخيال، واستلهام الوحي القرآني، والحوار مع التراث تاريخا وفقها وأصولا وفلسفة وسردا وشعرا وأسئلة؛ من خلال قراءة أدبية عرفانية تلتفت إلى المتعالي في التاريخي، والروحي في البشري، والإنسي في الصراع، والدال في المنسي، والغريب في المألوف، والحالي في المقالي، والحِكمي في المأساوي، والحقيقي في الخيالي؛ مع المراهنة على ما تراه جودة وجدة في الإبداع؛ في سياق عربي تتدنى فيه نسبةُ القراءة إلى أدنى المراتب، والذي إن ساد فيه الإقبال، المسنودُ بالحملات الإعلامية ومنابر الإثارة، على بعض الأسماء والأعمال فلانسجام جلها مع إغواء الاستهلاك ومخاطبة الغرائز، ولكونها تخاطب القارئ الكسول الذي يجد في مقروئه ما يُهيج به مكبوتاته الغائرة. فيما يندرج المشروعُ العرفي ضمن الرواية العالمة التي تتأسس على الزواج السعيد بين المتعة والمعرفة، بين ألق القراءة وعمق المقروء. إنها أعمالٌ تقوم باشتغال عميق على الذاكرة والذات لنحت السؤال كما رأينا من خلال نموذج «الحواميم»، هذا السؤالُ الذي يُعد جمعاً بصيغة المفرد، والذي يشير إلى أسئلة الوجود والهوية والإيمان والتزكية الباطنية والشهود الحضاري؛ وكذا إلى أسئلة اللغة والكتابة والحقيقة والمجاز والزمن والمعنى كما مر معنا. يكفي تأملُ عناوينِ هذه الرواياتِ لنكتشف أننا إزاءَ أعمالٍ تستدعي القارئ إلى عوالمِها دون أن تستسهل الذهابَ إليه بعناوين لها الإثارةُ المجانيةُ والاجتذابُ التجاري علاماتٍ ومياسم. فأن تتخذَ من الحروفِ المُقطعة القرآنيةِ مُنطلقا رئيسا في استراتيجية العنونة مغامرةٌ بالمعنى البحر للكلمة، لكون هذهِ العناوينِ توهم بإغلاقِ النص أمام ما ألفته العيونُ من عناوين روائية؛ وأن تُحكمَ هذا الإغلاق برسوم تشكيلية «ملغزة» على أغلفة الرواياتِ أمرٌ يدفع إلى مراجعة هذا النزوعِ الخاص في التعامل مع القارئ، ضمن سياق قرائي يتسم بضعف المقروئية كما أشرنا من جهة، وبتسييد السهولة وتمجيد كسل ما بقي من القُراء أمام طغيان ثقافة الاستهلاك والتفاهة المكرسة من لدن الاستعمال الرديء لوسائل الإعلام والتواصل الرقميين، من جهة ثانية. إن المغامرةَ السردية العرفية إذ تلج دائرةَ المخاطرةِ بهذه الملامح، فإنها تلجُ دائرة الإبداع، إذ لا إبداع بلا مخاطرة، ولا تجديدَ بدون إرباكٍ لمألوف التعاطي مع ما يصير، في لحظة من اللحظات التاريخية، معيارا لأدبيةِ الإبداع. ثم إن هذه المغامرةَ ذات الرسوخ في التأصيل ومراجعة مفاهيم الإبداع والكتابة والمُبدِع والمعنى والقارئ... إلخ، تخاطِبُ الأزمنةَ المفتوحةَ ولا ترتهن بتحييز زماني أو مكاني، أو بمعيارية مطلقةٍ في الكتابة والتجنيس. وهذا الانفتاحُ الثاوي في أصالتها، والتأصيلُ المحايثُ لما ترتاده من آفاق ومشارف، هو ما يصنعُ للمشروع العرفي علامتَه المميِّزَة. يظهر ذلك مثلا في هذه القدرة الحذقة على الاستلهام الروحي والإبداعي من الوحي القرآني، كما رأينا مع نموذج «الحواميم»؛ مع قدرة لافتة على استثمار التراث العرفاني خاصة، والمعارفِ الإسلامية بوجه عام، ثم حوك كل ذلك في نسيج إبداعي يفيضُ بالتفاعل الخلاق مع أسئلة الوجود والوجدان والذاكرة والمعرفة والإبداع؛ تلك الأسئلةُ المفرطة في راهنيتها الحضارية والمعرفية، هذا مع إبقاء خيطِ اللذة متوهجا بنفَس الحكي البهيِّ، وبالخوضِ في أغوار الشخصيات التاريخية الإسلامية، وتفجيرِ طاقاتها الرمزية بما يحققُ التواصلَ مع لحظاتها الحميمية الفريدة، ويحولُ التخييلَ الخلاَّقَ، كما تبيناَّ، إلى أداةٍ لشغل البياضاتِ التاريخيةِ في حيوات الأعلامِ المتناولينَ بالتسريد في الأعمالِ الروائية المتوالية (الشيخ محيي الدين بن العربي في «جبل قاف»؛ أبو حسن الششتري في «بلاد صاد»؛ ابن معن في «الحواميم»؛ الغزالي في «طواسين الغزالي»؛ وابن الخطيب في «ابن الخطيب في روضة طه»...)؛ يكفي النظر الوئيد في هذه القدرة الثاوية خلف هذا البناء الإبداعي الباذخ لنقف عند بعض من ملامح تميز هذه التجربة. بهاء الإبداع ولذة القراءة وإلى جانب هذه الأبعاد المُفرِّدة للمغامرة الإبداعية لعبد الإله بن عرفة، سواء باعتماد عناوينَ وأغلفةٍ لها أفقُها الرمزيُّ المغاير، والمخاصِم لكل استسهال أو إثارة استهلاكية، أو الغوصِ في معارف وعلوم وأغوار عرفانية تقتضي قارئا مُؤهَّلا، يَعتبرُ اللذة ثمرةَ جهد في القراءة وفي التجرد من عوائد سبلها التي اكتسبها القارئ من مألوف قراءاته السالفة؛ إلى جانب هذه الأبعادِ ثمة معطى آخرُ يميز هذه المغامرة، إنه الالتزام بدءا من العمل الثاني «بحر نون»، بالتقديم النظري للعمل السردي، الذي سيتحول مع «الحواميم» إلى مقدمة – بيان كما فصلنا آنفا. وهذا الرهان على التقديم ثم التقديم - البيان فيه مخاطرةٌ من ناحيتين؛ تتمثل الأولى في كون هذه التمهيداتُ قد تُعتبر مُكبِّلةً للقراءة، ومن ثم مُقيدةً لحريةِ القارئ، إن لم يُقَلْ إنها تمارس وصايةً على فَهمِه، وتُنذر، بما تتضمنُه من مفاهيمَ ومحاذيرَ، بتبديد قدرتِه على الاكتشاف التي تُمثل بؤرةَ اللذة في القراءة. فيما الوجهُ الثاني لهذه المخاطرة ماثلٌ في كونِ «الخطابِ النقديِّ» يُصبحُ سابقاً على الإبداع، حيث قد يُشعِر القارئ وكأن العملَ الإبداعيَّ كُتبَ بمُوجِّهاتٍ نقدية قسريةٍ، دورُ السردِ أن يُقدمَ وصفاتٍ تطبيقيةً لها. ومعلومٌ أنه متى ما انفضَحتْ آثارُ الصنعةِ في الإبداعِ، فإنها تُفقدُه أصالتَه الجمالية، لأن من بهاءِ الإبداع أن يُخفيَ إوالياتِ صوغِهِ وأدواتِ صنعتِه، ويَخلُقَ ذاك الالتباسَ الأثيرَ بين الإبداعيةِ ومصادِرِها، والتي على التحليلِ النقدي اللاحقِ أن يَجهَد في تفكيك ذاك الالتباس والاقتراب التأويلي من مناجم تلك الإبداعية. فحتَّى الكتاباتُ الإبداعية الميتا روائية التي تتخذُ من تقنياتِ الكتابة مادةً لسردها، وتحاولُ سردَ الروايةِ في حيثيات انكتابها؛ لا ترومُ ذلك إلا من أجلِ ضخِّ ذاك الالتباسِ بين الإبداعية ومصادرها بطاقة أرحب، تجعلُ من الكتابة شأناً غامضا، من تقنياتهِ الإفلاتُ الدائمُ من ترصداتِ التقاط مصادر ومواد وآليات انبناء الكتابة. إنهما وجهان إذن لمخاطرةِ «تقديم» الأعمالِ من لدن مُؤلِّفِهَا، والتي شبَّههَا أحدُهم بمَن يُهدي الهديةَ وقد تركَ عليها علامةَ ثمنِها. ذاكَ ما خاضُه ابن عرفة في رواياته، بدءا من إثبات «التقديم» في رواية «بحر نون»، ثم رواية «بلاد صاد»، بلوغا إلى «المقدمة – البيان» في «الحواميم»، وهو ما يجعلنا نجدد التسآل عن بعض خلفيات إقدام ابن عرفة على التقديم الذاتي لرواياته طلبا لمزيد فهم لمغامرته الإبداعية. يتبدى من خلال مختلفِ التمهيدات (مقدمة كانت أو مقدمةً بيانا) أن ابن عرفة شعر بعد عمله الأول «جبل قاف» أن إبداعَه لا يُتلقى تلقيا نقديا يُلائم طبيعته وخصوصيته، بل يُحشرُ في الهامش لطبيعةِ لغته وعرفانيةِ مصادره وخصوصية أفقه ومسارات المغايرة التي يرتادها. لقد شعر بأن الآلةَ النقدية المألوفة لا تستوعبُ هذه التجربة، سواء بسببِ ارتباطِ جُل أقلامِ هذه الآلةِ بمؤسساتٍ لا تجد في أعمال ابن عرفة ما يستحق التكريس من زاوية فهمها للأدب، وكذا من زاوية الولاءات الأيديولوجية التي يدين لها بعضُها، أو بسببِ ما تحفل به هذه الأعمالُ من نصوصٍ غائبة ومعارفَ ذائبة، تجعل من هذا الأدب توقيعا على طروسٍ منسية، أربكت بداهاتِ القراءةِ السائدةِ، وأقحمتِ القلقَ في مألوف مُسلماتِها. لذا كانت مخاطرةُ هذهِ التمهيداتِ، التي كانت تضطلعُ في ذاتِ الآن بالتأصيل والتنظير وبسطِ بعضِ مفاتيح القراءة، مع إبقاءِ بابِ الاكتشاف مفتوحاً؛ لأنهُ منبعُ لذة القراءة من جهةٍ، ولأن هذا الإبقاءَ، من جهة ثانية، يلائمُ تصورَ هذا المشروعِ للقارئ ولوظيفته الاكتشافية للعمل ولذاته في آن، كما رأينا آنفا. وهو لعمري رهانٌ عسير، أن تكون تلك «التمهيدات» مُوجِّهةً ومُحرِّرَةً في الآن ذاته؛ موجِّهةً لكونها تخشى أن يُضيع القارئُ مَداخِلَ عوالمِ السردِ فلا يتحققُ بالقراءة التحصيلية التي تتيحها قراءة هذه الأعمال وفق مفاهيمها المؤسِّسة؛ ومُحرِّرَةً، لكونِ هذه التمهيداتِ تريدُ من القارئِ أن يتحرر من مألوفِ ما ساد من أشكالِ التلقي، التي لا تستحضرُ بعض المعارفِ في قراءة الإبداع السردي، مثل علمِ أسرار الحروف، ومختلف المعارفِ العرفانية، فضلا عن استحضار التفاعلِ المُبدع مع الذاكرة والتاريخ والتجارب الذوقية العليا التي انتسجت في أسرار العارفين من غرقهم الباطني في بحار الحرف القرآني. تبقى الإشَارةُ هنا إلى أن ما يبدّدُ أيضا المزالقَ التي تُحدق بمثل هذه المخاطرة، هو الجمع الأنيقُ في التجربة العرفانية العرفيةِ بين الكتابةِ بما هي «صنعةٌ»، وبين الانكتاب بما هو «إلهام». فالمبدعُ ، من ناحية، يشيد مشروعَه على وعيٍ كتابي ونقدي واضحِ المعالم ومحدَّد الملامح، لكنه في الآن ذاته يسردُ في ذاتِ التمهيداتِ بعضَ أحوالهِ أثناءَ الكتابة، والتي تجدُ ظلالا لها داخل المتن السردي، مما جعله يذهبُ إلى كونه يصير مكتوبا به في جم من الأوقات الوجدية؛ وأنه يتحولُ إلى قلمٍ في يد الحالِ التي تستغرقُه ويتجوهر بِهَا. هذه الحال التي تكتبُ به، سواء كانَ المكتوبُ مناجاةً وتسبيحا (كما في بعضِ مسارات لغة السرد في «بلاد صاد») أو مشاهدَ غزليةً شبقية (كما في «ابن الخطيب في روضة طه»)؛ ظاهرُها غارقٌ في الحسيةِ غير المُسِفَّةِ من ناحية، وفي ذات الظاهر مفاتيحُ إشاريتها من ناحية ثانية، على غرار التجربة الروحية الكبرى الرافدة لكل مشروع ابن عرفة الروائي، أعني تجربة الشيخ الأكبر، وهنا أشير إلى ديوانه «ترجمان الأشواق» ذي اللغة الغزلية الشبقيةِ، والإشاراتِ العرفانية البعيدةِ، والتي كشفَ عنهَا في شرحه: «ذخائر الأعلاق في شرح ديوان ترجمانِ الأشواق». على أن هذا الجمعَ بين العزم والإلهام؛ بين الكتابة والانكباب، بين الفعل والانفعال - أو قل باستعارة لغة القوم، بين «الكسب» و»الوهب»- هو نفسُه مُستلهَمٌ من التجربة الأكبرية، فالأمرُ يتعلق بفتوحاتٍ في موسوعة ابن العربي «الفتوحات المكية»، وبكتاب ليس للشيخ الأكبر فيه إلا الإذنُ النبوي بالخروج به إلى الناس، أعني كتابَه «فصوصُ الحِكَم» ... إلخ، هذا على ما في هذه الكتابات الأكبرية من عظيمِ الاستيعاب وعميق التفاعلِ مع معارفِ التاريخ والفقه والأصول والحديث والسيرة والحِكمة والفلك والطب والميتافيزيقا وتصوف السالفين...إلخ. إنها بعضُ معالم العرفانية الأكبريةِ التي تميزُ مشروعَ ابن عرفة، وبهذه المثابة تكون المغامرةُ الإبداعية العرفية مغامرةً عرفانية أكبريةً، على مختلفِ المستويات، إما استلهاما أو تحققا أو محاكاة، وهو ما يخطُّ لهذهِ المغامرة أفقَها الخاص الذي يحتاج إلى مزيد جهد للاكتشاف والتحليل.