قضى عزيز بينبين 20 سنة وراء القضبان؛ من محنته هذه، خرج حكيما، قوي الإيمان، عازما على ألا يصدر الأحكام على الآخرين كما ظلمه حكم المصير ذات يوم سبعيني على إثر محاولة انقلابية زُج فيها من حيث لا يدري. ولد بمراكش، وتابع دراسته بها قبل أن ينتقل إلى الجديدة. عاش بورجوازيا وشعبيا وقارئا نهما إلى حدود الخامسة والعشرين من عمره قبل أن يلتحق بالأكاديمية العسكرية باهرمومو، ومنها إلى القنيطرة ثم تازمامارت. عن هذا المصير الغريب وأشياء أخرى فيها كثير من المفارقات والمآسي، يحدثنا عزيز بينبين عبر حلقات «كرسي الاعتراف». - حقدتَ على بندورو، إذن. فكيف كان ردك؟ < نعم، الحقيقة أنني حقدت عليه بعد أن استفزني بتصرفاته. فبدأت أفكر في طريقة أنتقم بها منه، فرحت أحسب له الحساب تلو الآخر لأصيبه في مقتل، لأنني كنت أعرف أن الصدام بيننا لا بد آت. صرت أفكر في جرحه جرحا عميقا. كانت حساباتي شيطانية بنيتها على ما كنت أعرفه من معلومات حول شخصيته وطريقة تفكيره... وفي أحد الأيام، وقعت المواجهة بعد أن عاد إلى عادته. طلبت منه مرة أخرى أن يكف عن إزعاجنا، إلا أنه سبني، فرددت عليه بالمثل. - ماذا كانت سبته لك حتى يكون ردك قويا؟ < نعتني باللقيط وبأن والدي تبرأ مني، وتنكر لي أمام العالم كله... فبدأت هجومي عليه كما خططت له تماما. وقد دامت مواجهتنا الكلامية منذ المساء إلى صباح اليوم الموالي؛ أي إلى أن حان موعد تقديم الفطور للسجناء. كان رهان كل واحد منا أن يحسم المواجهة اللسانية لصالحه، وألا ينهيها قبل الآخر، بينما كان جميع السجناء الآخرين يستمعون إلينا... كان المشهد رهيبا إلى حد بعيد. ولم يكن هذا الصدام هو الوحيد بين السجناء، بل حدث الكثير منه. مثل هذه الصدامات كانت من بين الأسباب التي جعلتني أمتنع عن الكتابة قبل هذا الوقت. لأنني كنت أقول إذا قررت الكتابة فيجب أن أكتب كل شيء دون استثناء. - وكيف انتهت المواجهة بينك وبين بندورو؟ < كان هو من كف الأول عن السباب... وقد تزامن ذلك مع موعد الفطور. حاول بندورو، بعد ذلك، استئناف النزال اللساني هذا، لكنني رفضت أن أجاريه. كان يريد خلال الأيام الموالية أن يتأكد من صحة ما قلته خلال المواجهة... فقد ظل الشك يسكنه. إلا أنني امتنعت عن الكلام معه في الموضوع. بالنسبة إلي، انتهى الأمر بعد أن نلت مرادي. لكنني تأسفت كثيرا على وقوع الحادث بعد أن شعرت بأن جرحه كان عميقا. - هل استمرت علاقتكما متوترة أم عادت إلى مجراها الطبيعي؟ < تصالحنا فيما بعد وتقوت علاقتنا، بل إنني ساندته في محنة الاحتضار، قبل الموت. وكنت أنا من ينظف ملابسه، ويدخل الطعام إلى زنزانته بعد أن عجز عن الحراك تماما... حينها صرنا ننعم ببعض حرية التحرك في السجن لأن الحراس كانوا يتأففون من رائحة الزنازين الكريهة. كانت شبيهة برائحة الجيف. إلا أننا من فرط ما استنشقناها وألفتها أنوفنا لم نعد نشعر بها. بندورو، رحمه الله، كان مشكاكا، ومبالغا في الاحتياط من كل شيء حوله. حتى وهو على فراش الموت كان يشك في ويتهمني بأنني أسرق طعامه وأنني أستبدل قميصه بآخر... رغم أنني كنت أتكلف برعايته وتنظيفه... في الوقت نفسه، كان يطلبني ويلح عليَّ عندما أغيب عنه. تلك شخصيته. - وماذا عن عاشور؟ < عاشور، هو الآخر، كان حاد الطبع. لم يكن يسبني، إلا أنه كان من صنف آخر، رحمه الله. كان يقول للحراس، مثلا،: «عرفتو هذاك، راه شكّام، حضيو منو... راه كيوصل الهضرة...». تصور أن عاشور هذا جعلني أوقف الكتابة لمدة سبعة أشهر. عجزت عن الحديث عنه. وبينما كنت في زيارة لجزر الكناري، خطرت ببالي، فجأة، رواية «الأبله» للكاتب الروسي دوستويفسكي وشخصية ليبيديف، التي تجدها في جميع روايات دوستويفسكي تحت صفات وحالات وفي وضعيات مختلفة، لكن بنيتها السيكولوجية واحدة. وتمثل هذه الشخصية، بالنسبة إلى الكاتب، روح الشعب الروسي في جانبها المظلم. ألهمتني هذه الشخصية ما اعتبرته «الجانب المظلم في الروح المغربية»؛ وبفضل هذه الشخصية، دخلت إلى وصف عاشور وكتبت الفصل المتعلق به في كتابي. - لابد أن شخصية عاشور كانت تبهرك بشكل من الأشكال. < نعم، فقد كنت أسعى إلى الاقتراب منه لأن شخصيته كانت تثيرني بتعدد روافدها. كان أميا، غادر البادية للالتحاق بالجيش الفرنسي، بفرق الكَوم، قبل أن ينضم إلى الجيش المغربي، لينتهي به المطاف عند اعبابو. فكان عاشور هو الشخص الذي تتوفر فيه جميع المواصفات التي يحبذها الكولونيل. عاشور كان من النوع الذي لا مبدأ له ولا قيم تقوده في الحياة. كان يؤمن بنفسه فقط. في الوقت نفسه، يتحول إلى إنسان آخر حين حديثه عن أمه! أعتقد أن أمه كانت هي الشخص الوحيد الذي يعتبره إنسانا كامل الإنسانية في العالم كله. عاشور طلق زوجته الأولى فقط لأنها تكلمت بالسوء عن أمه! في إحدى لحظات إنسانيته القليلة باح لنا بأنه كان يمضغ «الحمص طايبوهاري» ويُطعمه إياها وهي تحتضر لأنها كانت تحب الحمص! قمة الإنسانية. إلا أنه حين يحدثنا عما فعل وارتكب من أفعال في حق زوجته، مثلا، وأبنائه... نكتشف فيه البعد القاسي لشخصيته. عاشور هذا كان معروفا بالوشاية (شكام) في مدرسة اهرمومو. شعاره كان هو«نشوف نكَول، مانشوفش نكَول». وكان عدوه الأول في الدنيا هو عقا، لأن الأخير كان مقربا من اعبابو. فكان يحسده على وضعه. وكان كلما رأى سجينا يتكلم مع أحد الحراس في تازمامارت تصيبه هستيريا الحسد والرغبة الجامحة في أن يعرف ما دار من حديث بينهما. كان يدعي أن السجين الطويل ابن عمه، والحال أنه والطويل ينتميان إلى قبيلة واحدة. وعندما كان الطويل يرسل إلينا بعض الأدوية (لأنه كان يتمتع بوضع خاص)، كان يستولي عليها عاشور بدعوى أنه سيوزعها على بقية السجناء؛ إلا أنه كان يحتفظ بها لنفسه. - يتبع -