لحسن حظنا نحن جيل المسيرة الخضراء أننا عندما درسنا في الإعدادي لم يكن هناك شيء اسمه قانون الإرهاب، وإلا لكان أغلبنا في السجون ومراكز إعادة التربية وتلطخ سجلنا العدلي في سن مبكرة بالتهم الثقيلة. فالتهم التي يتابع بها التلاميذ القاصرون في خنيفرة كان من الممكن جدا أن نتابع بها نحن أيضا في تلك الثمانينيات البعيدة. فماذا اقترف هؤلاء «الأشرار» الصغار حتى ينتهي بعضهم أمام المحكمة المدنية وبعضهم الآخر أمام المحكمة العسكرية. ذنب هؤلاء المراهقين الوحيد أنهم ولدوا في زمن الأنترنيت و«غوغل» و«الفايس بوك» و»يوتوب». وعوض أن يقضوا الوقت مثلما كنا نصنع نحن في قراءة كتاب «قرعة الأنبياء» أو «الروض العاطر في نزهة الخاطر»، أبحروا عبر الشبكة الإلكترونية ووضعوا كلمة «متفجرات» في محرك البحث فانفتحت أمامهم آلاف الصفحات التي تقترح عليهم كيفية صنع القنابل والمتفجرات، من قنابل «المولوتوف» التقليدية إلى القنبلة النووية. لقد حاول هؤلاء التلاميذ وضع درس الفيزياء الذي تعلموه في الفصل قيد التطبيق في الشارع، مثلما حلمنا نحن أيضا عندما كنا مراهقين بالحصول على بطارية المذياع لاختبارها في تجربة درس «الطاقة» الذي درسناه في مادة الفيزياء. الفرق بيننا وبينهم هو أننا كنا مراهقين في زمن كان فيه العالم يسمي الأفغان مجاهدين، بينما يعيشون هم مراهقتهم في زمن أصبح يسمي الأفغان أنفسهم إرهابيين. نحن عشنا في زمن كان فيه الاتصال الوحيد، المسموح به، بالعالم يتم بالكسكاس لالتقاط «تيفي 5»، بينما يعيش مراهقو اليوم وسط طوفان من القنوات والفضائيات التي يستطيعون التقاطها على هواتفهم المحمولة في أقسام الدرس. صوت الانفجار الوحيد الذي كنا نسمعه نحن هو طقطقة الفحم في الكانون، فيما هم يسمعون ويرون تقريبا انفجارات مهولة يومية على شاشات الأخبار. عندما قرأت خبر اعتقال هؤلاء التلاميذ وتقديم بعضهم أمام المحكمة العسكرية بسبب إقدامهم على تفجيرين داخل الفصل وأمام باب المدرسة، تذكرت كل تلك المرات التي كنا «نتناقش» فيها في ما بيننا نحن أطفال الحي لجمع ما يكفي من النقود لاقتناء درهمين من «الكاربون». فقد كنا بدائيين جدا مقارنة بمراهقي اليوم، وكان أعلى مستوى من الاختراع العلمي والفيزيائي الذي وصلنا إليه هو صناعة «بوديزة» متفجرة. وكانت الوصفة سهلة ولا تحتاج إلى مساعدة أي موقع إلكتروني، بحيث كانت المعادلة الكيميائية تقتضي أن نملأ«البيدوزة» بماء العين ثم نضيف إليه الكاربون ونغلقها بإحكام ثم نحركها جيدا قبل أن نضعها أمام باب أحدهم ونطلق سيقاننا للريح. الأكثر «إرهابية» بيننا كانوا يفضلون «حكاك الطون»، وذلك لإحداث أكبر دوي ممكن. ويعلم الله كم بابا غيرنا لونه من الأخضر إلى الأسود بسبب الدخان الفاحم الذي يعقب الانفجار. صحيح أننا لم نخلف ضحايا مدنيين بسبب عملياتنا «الإرهابية»، لكننا كنا في كل انفجار نربح دعاوى «ضحايانا» المرفوعة إلى السماء. خصوصا وأننا لم نكن نتذكر هذه الألعاب الخطرة سوى في شهر رمضان، الذي كنا نستقبله بشعارنا الطفولي الخالد «تيريرا تيريرا، هادا عام الحريرة». كان «الكاربون» الكبريت الذي نجمعه من رؤوس أعواد «لوقيد ديال الشمع» أسلحتنا النارية التي نهدد بها السلم العام في ليالي رمضان الحارة التي كانت تأتي في قلب غشت. وبمجرد ما ينتهي مسلسل «محمد يا رسول الله» نتفرق في الأزقة المظلمة للمدينة نمثل فيها مسلسلا آخر اسمه «اللهم صلي عليك أرسول الله»، نشهر فيه ضد بعضنا البعض السهام المصنوعة من القصب و»جعلاق الموناضا»، وقنابلنا اليدوية المصنوعة من الكبريت و«الكاربون» وباقي المعادن الرخيصة التي يستطيع أي بائع عقاقير أن يبيعها لك بالكيلو. اليوم تغيرت الأمور كثيرا. أصبح كل من يشتري رابعة من الكبريت والكاربون من محل للعقاقير مشبوها يجب إشعار الأمن بهويته. فمن كثرة ما تعرض المغرب للتفجيرات الإرهابية أصبح الجميع خائفا على مستقبله. لذلك فما قام تلاميذ خنيفرة ليس فيه أي نوع من البطولة «العلمية» أو النوايا الإرهابية المبيتة، بل هو ببساطة عمل صبياني يدخل ضمن حماقات المراهقة. وأعتقد أن التجربة المريرة التي مر بها هؤلاء المراهقين في مراكز الاعتقال وساعات الاستنطاق الطويلة التي عاشوها كافية لكي يدركوا أنهم كانوا مخطئين عندما فجروا قنينتيهم السخيفتين في القسم وأمام أبواب الثانوية. كما أن القضاء «زعما مول العقل» والذي ضخم الموضوع و«دار راسو» في هؤلاء المراهقين وقادهم إلى المحكمة العسكرية، يحتاج فعلا إلى أن يراجع أوراقه. فالذي يستحق أن يقف أمام المحكمة العسكرية فعلا ولم يقف هو الكوماندار التريكي الذي زور محضر الدرك في حادثة قتل مستخدم بفندق «أونفتريت بالاص» ولم يتابعه القضاء إلى اليوم. في تلك الثمانينيات البعيدة، كانت لنا نحن جيل المسيرة الخضراء طريقتنا الخاصة للانتقام من صرامة المؤسسة التعليمية التي كنا ندرس بها. وأقصى ما كنا نلجأ إليه هو حك أوراق «المخينزة» فوق أرضية القسم، لكي يتحول إلى غرفة حقيقية للإعدام بالغازات السامة. كنا نصنع ذلك في الحصص التي نكره أساتذتها، إما بسبب قسوة أولئك الأساتذة الذين كانوا لا يتورعون عن تحويل القسم إلى غرفة تعذيب، وإما للإفلات من اختبار أو فرض مفاجئ لم نستعد له بما يكفي. لكننا لم نفكر يوما في تجريب عملية تفجير في القسم. كنا نصنع ذلك لإجبار الأستاذ على إخراجنا من الفصل بسبب الرائحة. لكن أحيانا كان السحر ينقلب على الساحر، فيحدث أن يخرج الأستاذ بمفرده ويغلق علينا الباب ويتركنا وسط القسم نتنفس «المخينزة» على «خواطرنا» إلى أن نصاب بالشقيقة. لقد جربت الدولة المقاربة الأمنية لمواجهة ظاهرة تفجير التلاميذ لمؤسساتهم التعليمية منذ تجرؤ تلاميذ في سلا على استعمال قنينات «بوطاغاز» لتفجير مؤسستهم. لكنها للأسف لم تنجح. فالظاهرة معقدة ولها علاقة بما هو نفسي وتربوي أكثر مما لها علاقة بما هو أمني. يجب على الدولة أن تفكر في الأسباب الحقيقية التي تجعل التلاميذ يكرهون مؤسساتهم التعليمية إلى الحد الذي يجعلهم يفكرون في نسفها. إن ما قام به تلاميذ «البوطاغاز» في سلا سابقا وما قام به اليوم تلاميذ خنيفرة، يعني شيئا واحدا، وهو فشل السياسة التعليمية الحكومية في المغرب. فتلاميذ خنيفرة المتابعين اليوم أمام المحكمة بتهم ثقيلة ليسوا تلاميذ كسالى، بل يتعلق الأمر بتلاميذ نجباء يحصلون على نقط متميزة بين أقرانهم، وبشهادة أساتذتهم أنفسهم. لذلك فمن تجب محاكمتهم في الواقع أمام المحكمة العسكرية هم المسؤولون الحقيقيون عن فشل السياسة التعليمية الرسمية، وليس هؤلاء التلاميذ المراهقين الذين خلطوا الفيزياء بقانون الإرهاب دون وعي. لأن هؤلاء المسؤولين اقترفوا أكبر وأحقر جريمة في حق أبناء الشعب المغربي. وفي الوقت الذي يتابع فيه أبناء الشعب دراستهم في أقسام متسخة متزاحمين بالعشرات مثل السردين، يتابع أبناء المسؤولين عن انتكاسة التعليم العمومي دراستهم في مدارس البعثات الأجنبية، استعدادا لاستكمال دراستهم في الخارج والعودة إلى المغرب لكي يرثوا مناصب آبائهم الرفيعة في الوزارات والمؤسسات العمومية الكبرى. ومن غرائب الصدف في المغرب ألا يكون لدينا وزير تعليم واحد درس أبناءه في مدارس التعليم العمومي التي يشرف عليها. وإذا كان وزراء التعليم أنفسهم غير واثقين من جدوى إصلاح التعليم الذي يشرفون عليه، فكيف سيثق بذلك المواطن العادي يا ترى. وزيارة خاطفة لأرشيف موقع البعثة الفرنسية على الأنترنيت تكفي للتعرف على تواريخ تخرج جميع أبناء عز الدين العراقي، الوزير الاستقلالي الذي عرب التعليم للمزاليط، من مدارس البعثة الفرنسية. «بالعربية تاعرابت، طلقو الدراري باركة من العياقة، راكم زدتو فيه. هاكاوا على المحكمة العسكرية، مالو جنرال ولقيتوه سارق الحوت فأعالي البحار»؟