محمد، مثل عديدين، فهو لا علم له بعمليات تفكيك شبكات المخدرات التي تحدث بين الفينة والأخرى، ولا تهمه معرفة الأسماء الوازنة في الدرك أو الجيش أو الأمن التي سقطت عقب تفكيك الشبكات، فكل همه أن يجد يوم السوق الأسبوعي ما يشتري به اللحم والزيت وقنينة الغاز وبعض «التقاوت»، يقول مزارع شاب من المنطقة من القلائل الذين يتوفرون على شواهد علمية. قبل سنة 1994، كانت حقول إقليم تاونات خالية من النبتة الخضراء، التي وجد فيها ساكنة أرياف هذه المنطقة «خير بديل» عن زراعات أخرى، مثل الزيتون والخروب، كانت تفسدها قساوة المناخ وكميات الثلوج الغزيرة التي تسقط بالمنطقة كل سنة. «الرتبة» و»البيبان» و«بوزمام» و«تيسوفة» و«المشاع»...أرياف شهدت حياة ساكنتها تحولا كبيرا بعد زرع البذور الأولى للكيف بحقولها مع بداية سنة 1995، حيث شُرع في حرث الأراضي ونثر أسمدة مستوردة من مناطق مجاورة تابعة لإقليمالحسيمة. مزارعون التقتهم «المساء» بمجموعة من الدواوير التي تنتشر بها زراعة القنب الهندي أكدوا أن النبتة لم تدخل دفعة واحدة إلى هذه المناطق بل بشكل تدريجي تحكمت فيه مجموعة من العوامل، أهمها الفقر المدقع الذي كان السكان يعيشون فيه، خصوصا وأنهم يعتبرون أن قدرهم رماهم في مناطق لازالت مصنفة في خانة «المغرب غير النافع»، إذ تفتقر إلى أبسط ضروريات العيش الكريم، وأيضا كان لموقع الإقليم الأثر الكبير في انتشار الزراعة «المحظورة» بحقولهم، حيث تحده أقاليم ينتشر في قراها «الكيف» مثل منطقتي كتامة وشفشاون. «الأزمة خانقة» عند غروب الشمس، اجتمع عدد من مزارعي «الكيف» بجماعة «الرتبة»، المشهورة بهذا النوع من الزراعة، بمكان يسمونه ب«المقهى»، لا يشبه باقي المقاهي التي يعرفها سكان الدارالبيضاء والرباط والقنيطرة، يوجد بالقرب من محل للبقالة. كان عددهم سبعة، رتّب لي رفيقي الجبلي موعدا معهم. اجتمعوا حول براريد الشاي متوسطة الحجم، بعضهم يدخن سجائر من نوع رديء، والبعض الآخر فضل «السبسي» مستعملا حشيشا مصنوعاً محليا. حينما حاولت استفزازهم طالبا منهم بعض الكيلوغرامات من الحشيش، فاجأني أحدهم قائلا: «احنا راه ماشي بحال ديال كتامة، هادو غير فلاحة ماشي بزناسة»، قبل أن يضيف: «إقليم تاونات معروف بالزراعة وليس بتحويل الكيف إلى حشيش...». سكان هذه الأرياف يبيعون ما يحصدونه كل سنة لكبار المزارعين بمناطق «آيت احمد» و»باب جبح» التابعة لمنطقة كتامة، حيث يقومون بتحول الكيف إلى حشيش قبل بيعه لشبكات الاتجار الدولية والوطنية. «أنتم في المدن الداخلية حينما تسمعون بأن هناك مزارعين للكيف بتاونات تعتقدون أننا أغنياء...»، يقول مزارع في الخمسينات من عمره، ليضيف آخر: «جيتي مع الأزمة الخانقة باش تعرف نيت هاد الناس كيفاش كيعيشو...راه المخيّر فيهم ماعندو عْشا ليلة وحدة»، قبل أن يضيف: «أطلب من هذا الرجل أن يشرح لك كيف نقضي السنة»، مشيرا إلى رجل في الأربعينات من عمره كان يجلس القرفصاء بالقرب من محل البقالة. استدعي الرجل، إنه «مول الحانوت»، يعلم بتفاصيل عيش هؤلاء المزارعين لأنه يقرض الجميع في الأرياف القريبة من جماعة «الرتبة». التحق الرجل بجمع المزارعين راسما ابتسامة «صفراء» بين تجاعيد وجهه الأسمر. «دخلنا عليك بالله إلا ما گوليه واش كاين شي واحد هنا ماكتسالوش لفلوس؟»، واصل الرجل رسم الابتسامة قبل أن يقول: «هاد الناس كاملين عايشين غير بالكريدي هاد ليّام». مزارع الكيف في تاونات أغلبهم فقراء، يعتمدون على مداخيل هذه الزراعة لضمان قوتهم اليومي، يؤكدون أن مداخيلهم لا تتجاوز في أحسن الأحوال 3 ملايين سنتيم، يستغل ثلثها في تقوية الأرض وشراء البذور والمواد العضوية، والثلث الثاني يخصص لتسديد الديون لفائدة صاحب محل البقالة، أما الثلث الأخير فهو يستثمر لتحسين جودة المنتوج في السنة اللاحقة. يقول أحدهم إن المزارعين يعيشون هنا فترتين متناقضتين في السنة، الأولى تمتد ما بين شهري يوليوز وأكتوبر، وتوصف بشهر «المْوحمة»، وهو الشهر الذي ينفق فيه الفلاح أكثر، حيث يكون قد تسلم مبالغ مالية مقابل بيعه لمحصوله، والثانية يسمونها ب«عنق العام»، وهي تلك الممتدة ما بين شهري نونبر إلى غاية شهر يوليوز، وهي موسم الحرث الذي يكون فيه الفلاح قد أنفق جميع ما يملكه. «مْحاربين من عند الله» رغم زراعتهم للنبتة «المحرمة»، فإن غالبيتهم يعيشون تحت عتبة الفقر وينتظرون شهر يوليوز ل«يُسخنو» جيوبهم بمبالغ لا تتجاوز 30 ألف درهم في أحسن الأحوال، ويفسر ضعف مداخيلهم بعدم تواجد «گراجات» لتصنيع الحشيش، كما هو الشأن بالنسبة إلى المزارعين بمنطقة كتامة. محمد، فلاح بجماعة «أربعاء مشاع» بإقليم تاونات، في الأربعينات من عمره، لم يتوان في استغلال فرصة حصوله على عمل بحقل للكيف في ملكية أحد تجار المخدرات المعروفين بمنطقة كتامة المجاورة، لسبب «بسيط» يلخصه محمد في كونه في كل مرة يتوجه فيها إلى السوق الأسبوعي، الذي يقع في الحدود ما بين إقليم تاونات ومنطقة كتامة، يصطدم بارتفاع القدرة الشرائية لساكنة الدواوير الكتامية، في الوقت الذي لم يكن يستطع فيه، إلى جانب سكان «أربعاء مشاع»، توفير 100 درهم في الأسبوع الواحد للتسوق. نظرا، يضيف محمد، إلى أن أغلبهم كان يشتغل في حقول للقمح بما يناهز 30 درهما في اليوم الواحد، في حين أن أجرة العمل بحقول الكيف بالمداشر المجاورة تتجاوز في بعض الأحيان 100 درهم. محمد، مثل عديدين، فهو لا علم له بعمليات تفكيك شبكات المخدرات التي تحدث بين الفينة والأخرى، ولا تهمه معرفة الأسماء الوازنة في الدرك أو الجيش أو الأمن التي سقطت عقب تفكيك الشبكات، فكل همه أن يجد يوم السوق الأسبوعي ما يشتري به اللحم والزيت وقنينة الغاز وبعض «التقاوت»، يقول مزارع شاب من المنطقة من القلائل الذين يتوفرون على شواهد علمية. جمال، 26 سنة، لم يخف امتعاضه من الحملات التي تقوم به السلطات الرسمية على بعض الحقول بالمنطقة مستثنية أخرى، مشيرا إلى أن هؤلاء المزارعين هم مُحاربون من أجل قوتهم اليومي، قبل أن يضيف لماذا تقوم هذه السلطات بمحاربة بعض مزارعي هذه النبتة دون آخرين «هاد الناس راهم مْحاربين من عند الله بلا ماتزيدو عليهم». حالة استنفار وهلع يومية يعيشها المزارعون الذين يتعاطون هذا النوع من الزراعة، منهم من قام بتغيير شهادة السكنى والبطاقة الوطنية لتفادي الشبهات، وأصبح القاطن بإقليم تاونات يتوفر على بطاقة هوية وطنية تتضمن عنوانا بمنطقة طانطان، جنوب المغرب، لم لا بعد أن أصبح جل سكان «الرتبة» و»البيبان» «بوزمام» و«تيسوفة» و»المشاع» بإقليم تاونات مبحوثا عنهم بتهمة زراعة القنب الهندي والعيش على مداخيله ورفض بدائل الدولة المتمثلة في على زراعة «الخرّوب» أو تربية «الأرانب».