هدوء مدينة الفجاج يغري كل زائر يحب أن يمضي فترة استجمام بعيدا عن الضوضاء والحياة الصاخبة، نساؤها يلتحفن البياض، مما يضفي جمالية على أسوارها الحمراء. إن لم تكن تمتلك وسيلة نقل خاصة، فالمشي على الأقدام هو الوسيلة الوحيدة لتتجول بين قصور مدينة فكيك السبعة. هذا الهدوء يخفي توترات ومآسي مع الجارة الجزائر، ففي كل سنة تتكرر أحداث اعتقال أبناء هذه المدينة وتسرق مواشي قراها، ولكل واحد قصة وحكاية. بالقرب من وادي زوزفانة بالمدينة، يقنع جندي مغربي ثلاثة شبان بعدم الاقتراب من الضفة الأخرى من الوادي، خوفا من اعتقالهم، خاصة أن المدينة ما تزال تعيش على إيقاع اعتقال أربعة شباب من لدن الجيش الجزائري منتصف الشهر الجاري. رقم أجنبي يخاطب الجندي الشباب قائلا:«لا نريد مشاكل أخرى، عليكم أن لا تجتازوا هذا الوادي»، يرد عليه أحدهم بالقول: «إن كل المناطق التي تبدو لك من بعيد تعود ملكيتها إلى أجدادنا، فبني ونيف هي بلدة مغربية، ولخناك هو القصر الثامن لمدينة فكيك». يبدي الجندي المغربي موافقته على رأي الشاب المغربي، لكن يطلب منه تفهم وضعه فالأوامر الموجهة له هي أن لا يجتاز أي شخص الضفة الأخرى للوادي. بعد أن هممنا بمغادرة المنطقة طلب منا الجنود المغاربة أن ننتظر خمس دقائق إلى حين قدوم الكولونيل الزياني، لأنه يريد لقاءنا، وبعد وصوله غير رغبته، فأخبرنا مبعوثه بأنه يمكننا إتمام عملنا أو المغادرة إن شئنا. اعتذر لنا الجنود، بعد أن سجل أحدهم لوحة السيارة التي تقلنا، مؤكدين أنهم قاموا بهذا الإجراء لكوننا غرباء عن المدينة. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل استدعى رجال الأمن الشاب الذي تطوع لإيصالنا، كي يستفسروه عن الموضوع، ويخبروه أن الأمر عادي لأن لوحة سيارته تحمل رقما أجنبيا. نكران الجميل «وادي زوزفانة. إنه المتنفس الوحيد لأبناء المدينة الذين يعانون البطالة، وإذا ما استمر الجيش الجزائري في اعتقال الأبرياء، فمن الأفضل له أن يضم المدينة إليه كما فعل لبلدة بني ونيف التي مازالت محطة قطارها تحمل محطة فكيك»، يصرح محمد (عاطل) منفعلا. توافقه الرأي يامنة، امرأة في السبعين من عمرها، قائلة: «حتى الدجاج يحب الأماكن الشاسعة، فبالأحرى الإنسان». هذه المرأة تطرح أكثر من سؤال قائلة «لمن نشكو بطش الجيش الجزائري الذي يتصيد الفرصة لاستفزازنا؟ ماذا تفعل حكومتنا اتجاه بلد ناكر للجميل؟». نكران جميل الجزائريين يتمثل في أنهم لم يقلبوا صفحات التاريخ ليقرؤوا أن أهل فكيك احتضنوا المقاومة الجزائرية إبان الاستعمار الفرنسي، وأشرفوا على علاج المصابين والسهر على تغذيتهم. الترفاس «جل الذين يجتازون الحدود المغربية الجزائرية «لخناك» خليجيون، خاصة الذين يحملون الجنسية السعودية، وذلك من أجل الصيد» يقول أحد العاملين بالحدود. وما دون ذلك فالمركز الحدودي يتم فيه تبادل المعتقلين من البلدين الذين أفرج عنهم، ورؤوس الأبقار والمواشي التي تضل الطريق على الحدود، والموتى أيضا، فكانت آخر جثة تم ترحيلها لمغربي توفي بمالي وينحدر من مدينة زاكورة. ولا يخلو الشريط الحدودي يوميا من مشاكل بين الجانبين، فالعديد من البدو الرحل قادهم البحث عن «الترفاس» (نوع من الفطر يدر دخلا لا بأس به على سكان الحدود)، إلى السجن، يقول أحمد (شاب عاطل)، إذ عوض تحصيل دراهم في جيوبهم يحصلون على أحكام قضائية تضاف إلى سجلهم العدلي. شبهة الإرهاب أمضى أحمد دودو (55 سنة، فلاح) خمس ساعات بمركز الجيش الجزائري على الحدود، بعدما اعتقلوه بالقرب من وادي زوزفانة قصة تعود أحداثها إلى سنتين مضت) فتملكه الرعب والخوف، وأخذ يستعطف عسكر الجزائر لإطلاق سراحه، قائلا «أطلقوا سراحي، نعلو الشيطان الله يرحم الوالدين»، لم تنفع استغاثته ولا دعواته ، إلى حين تلقيهم اتصالا كان سببا في الإفراج عنه. حققوا معه حول دوافع اقترابه من الوادي، فأخبرهم أن هدفه كان هو الاستمتاع والفسحة لا غير، وأبقوه محتجزا إلى حين أتى الفرج بعد اتصال تلقاه الجنود. عاد الفلاح الفكيكي إلى التراب المغربي فاستقبله الجنود المغاربة بالسب والشتم، على حد قوله، مؤنبين إياه على اجتيازه الحدود، لكنه أصر على أن الجزائريين هم الذين دخلوا التراب المغربي، ويظن أن لحيته ربما سببت له المتاعب فربما شك عسكر جيرانه بأنه إرهابي يستهدف المكان. افتراش الأرض رغم مرور 15 سنة على اعتقالها من لدن الجيش الجزائري، لا تستطيع مينة بزة (40 سنة) الاقتراب من الوادي الذي يعتبر الحد الفاصل بين المغرب والجزائر، ولا حتى الذهاب إلى حي بغداد، القريب منه، لأن ما حدث لها دفعها لأن تفضل البقاء في البيت رفقة أبنائها خشية أن يتكرر ما حدث، حسب قولها. تعيد شريط ذكرياتها، وتحكي ل«المساء» قصتها قائلة: «كنت أجمع الحطب رفقة والدتي وقريبتين لي، وكان رجلان بجانبنا يعملان على تلقيح شجر النخيل، وفجأة باغتنا جنود جزائريون وقاموا باعتقالنا واقتيادنا إلى بلدة بني ونيف وبعدها إلى مدينة بشار لنقدم إلى المحاكمة». بعد الحكم عليهم بالحبس شهرين موقوف التنفيذ، غادروا السجن إلى مركز رجال الأمن في انتظار ترحيلهم. تقول مينة: «أمضينا ستة أيام في ضيافة رجال الأمن الجزائري بمدينة بشار، نفترش الأرض، وتقدم لنا وجبة واحدة فقط». طلبت النسوة الأربع من رجال الأمن استقدام الرجلين المغربيين إلى جانبهن بمقر مركز الأمن حتى يشعرن بالأمان فكان لهن ذلك، حيث وضع الرجلان في غرفة مجاورة لهن ولا يفصلهم سوى سياج حديدي. سنوات مرت والشعور ب«الحكرة» لا يفارقها، خاصة أنها تركت وقتها ابنة رضيعة لم تتجاوز سنها أنذاك أربعة أشهر. «رومبو» الجزائري ما زالت حكاية «رومبو» الجزائري، كما يلقبه الفكيكيون، تجثم على صدور ساكنة المدينة، فكلما اعتقل شاب أو طفل انفطر قلب أهله خوفا عليه من الاغتصاب. «كان رومبو يحمل رشاشته ويقوم بإطلاق الرصاص بالقرب من الوادي أثناء سباحتنا بالنهر، كما كان يتحرش بالأطفال جنسيا» يقول (ع ب). استمر الجندي الجزائري في ارتكاب جرائمه إلى حين قيام أب أحد الأطفال بتقديم شكاية لدى السلطات، لتتم محاكمته من لدن السلطات الجزائرية، يقول مصدر أمني بالمدينة عاش الواقعة قبل عشر سنوات. تعددت الروايات، فهناك من قال إن «رومبو» مات منتحرا بعدما افتضح أمره، وهناك من قال إن السلطات الجزائرية حكمت عليه بالسجن النافذ. مختطف رمضان سيناريو الاختطاف يتكرر في كل سنة، فحتى قبل إغلاق الحدود بين البلدين، شهدت مدينة فكيك أحداثا من هذا النوع. باغتت إبراهيم وزان، الذي كان رفقة ابن عمه (أستاذ) يعملان على تلقيح النخيل بواحة بالقرب من الوادي كتيبة جزائرية. «وضع أحدهم الكلاشنكوف على عنقي وطلب مني مرافقته، خشيت أن يطلق علي الرصاص، خاصة أن سنه لا تتجاوز 19 سنة» يقول وزان. تعاملت الكتيبة مع وزان كمجرم خطير، حيث أغمضوا عينيه ب«البانضا» ورحل رفقة ابن عمه إلى بني ونيف، التي تبعد عن فكيك بحوالي أربعة كيلموترات، وصفدت أيديهما وألقي بهما في مخفر الدرك الوطني . أمضى وزان، وهو ابن المختطف بلقاسم وزان، خمسة أيام في ضيافة الجزائر، حيث سوء التغذية في شهر رمضان، وضغط نفسي خفف من وطأته إطلاق سراحه. حمقى ومجانين «هل هناك من يعيد لي حقي من الجزائريين؟ أم أن كلامي سيذهب مع مهب الرياح»؟ أسئلة طرحها عبد الرحمان محرزي (فلاح 50 سنة) مع بداية الحديث عن معاناته منذ سنوات مع سلطات البلد الجار. مطلب الفلاح هو أن يستعيد دراجته النارية التي اشتراها بأزيد من مليون سنتيم، والتي أخذها الجنود الجزائريون بعد أن استدرجوه لاعتقاله. «أعرف أن الحدود هي الوادي، لكن الجزائريين طلبوا مني أن أقترب منهم، فامتطيت دراجتي النارية، ولما وصلت بالقرب منهم اعتقلوني»، يقول محرزي. ظل الرجل يتضور جوعا لمدة 24 ساعة، فرحل إلى مدينة بشار للمثول أمام القاضي، الذي أصدر في حقه حكما بالسجن شهرين موقوف التنفيذ. لما نطق القاضي الحكم صاح المتهم قائلا: «هذا حكم باطل، إن الجنود قاموا بإدخالي إلى الحدود». بعد الحكم، انتقل مواطن فكيك إلى مقر رجال الأمن في انتظار ترحيله إلى مدينته، فأمضى ما يقارب أسبوعا يفترش «الكارطون». لم يتوقف محرزي عن بعث شكايات إلى السفارة الجزائرية بالمغرب من أجل المطالبة بدراجته النارية، لأنها هي وسيلته للتنقل في المدينة. حمقى ومجانين فكيك لم يسلموا بدورهم من استفزازات الجيش الجزائري، فمحمد بوزاهر اعتقل أكثر من أربع مرات، وفي كل مرة يمضي أزيد من شهر في الجهة الأخرى ليسلم إلى فكيك عبر حدود لخناك، كما روى أهل قصر زناقة. اكتفى بوزاهر بالابتسام دون أن يدلي برأيه في الموضوع، لكن أهل حيه قالوا مازحين إنه سيحصل على الجنسية الجزائرية مستقبلا لكثرة اعتقاله من طرف جنود البلد الجار.