الدولة لها تصور خاص حول إسلام معتدل، وتحرص من جهتها على الحفاظ على هذا التصور عبر وسائل متعددة تقوم من خلالها بتصريف هذا الخطاب يعتبر أهم مصدر للتأطير الديني الذي يتلقاه المغاربة هو الأسرة التي تعد اللبنة الأساس لأي توجه ينشأ عليه الأطفال فيما بعد. يقول عبد الهادي التازي، عضو أكاديمية المملكة، في هذه الصدد، إن المغاربة أول ما ينشئون في أسرهم هو نواة قيمية يتلقون من خلالها كل ما يتصل بالدين، حيث تصير عبارات من قبيل “حرام، حلال، صواب، مزيان، خايب، لا يصح”... أهم قاموس متعلق بمجال الدين ينشؤون عليه. وبعد الأسرة، يوضح عضو أكاديمية المملكة ل”المساء”، يأتي دور ما يطلق عليه “نطاق العمر” الذي يبقى له دور قوي في التأطير الديني. هذا النطاق يؤثر في سلوكهم كما كان عليه الشأن مع أسلافهم. ويضاف إلى هذا العمل المؤثر نطاق المدرسة والكتاب الذي يعد الحضن الدافئ للنشئة الدينية. كما أن الشارع المغربي يعد، بحد ذاته، مؤثرا أساسيا في هذه التنشئة. وتتجلى تلك المظاهر في أن المرء يصاب بالذعر عندما يقف عند مظهر أو مشهد فيه عقوق للوالدين، إذن فالتأطير الديني يتسلل عبر هذه القنوات من خلال تأكيد الثقافة العامة على الأخلاق والسلوك وعدم إهمال الواجبات. وحتى التقاليد والعادات كانت كلها تصب في بوتقة التأطير الديني. لكن هذه القاعدة الصلبة التي نشأت عليها أجيال بكاملها تصطدم اليوم بأكثر من جهة غير متخصصة وغير مؤهلة تمارس مهمة التأطير الديني. فبالأمس القريب -يبرز عضو أكاديمية المملكة- كان التأطير يقوم على رسالة أبي زيد القيرواني التي كانت لوحدها بمثابة منهاج واضح، لكن اليوم هناك قلة قليلة تعرف اسم هذه الرسالة. أما وضعية فوضى التأطير الديني فيعلق عليها التازي بالعبارة المشهورة: “إذا أسندت الأمور إلى غير أهلها فانتظر الساعة”، حيث يبقى ضروريا بالنسبة إليه أن يتوحد المغاربة حول مذهب واحد هو المذهب المالكي الذي يعد صمام أمان ضد فوضى الفتاوى التي تبثها القنوات الفضائية. ولا تختلف وجهة نظر عالم التاريخ عن وجهة النظر السوسيو-دينية. فرسميا هناك وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من خلال علماء وفقهاء مالكية يغذون هذا الاتجاه. لكن مع وجود مظاهر العولمة والانفتاح، من خلال قنوات فضائية متعددة، يتم تداول تفسيرات تأويلات للدين مختلفة. فما هو معروف عن المغاربة أنهم يتبعون المذهب المالكي، واجتهادات المذاهب الأخرى لم تكن تعنيهم في السابق ولم تكن جموع المؤمنين على علم بها. لكن بفضل الانفتاح الإعلامي أصبحت جموع المواطنين تطلع على تلك الاجتهادات المذهبية، مما كسر من وحدة المذهب المالكي التي دأب عليها المغاربة عبر القرون. وبالتالي لا يمكن اليوم أن نتحدث عن تأطير ديني معين للمغاربة، فهذه العملية أصبحت موزعة بين السياسة الرسمية للبلاد والمؤسسات المرتبطة بها كوزارة الأوقاف والمدرسة، وتنافسها في هذا التأطير القنوات الفضائية الخليجية. ويرى محمد ضريف، المختص في شؤون الحركات الدينية بالمغرب، أن الأسرة لها دور بارز في التنشئة الدينية للمغاربة، باعتبار أن الأسر المغربية بطبيعتها تبقى محافظة رغم التحولات الاجتماعية والتقليدية التي طرأت، حيث يمكن أن يكون هناك تحول على مستوى الشكل دون أن يطرأ أي تغير على الجوهر. بعد الأسرة تأتي المدرسة من خلال المقررات الدراسية التي يطغى على مضمونها ما هو ديني. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه بالنظر إلى الصراع حول التصور الديني الذي يجب أن يسود المجتمع، نجد أن الدولة لها تصور خاص حول إسلام معتدل، وتحرص من جهتها على الحفاظ على هذا التصور عبر وسائل متعددة تقوم من خلالها بتصريف هذا الخطاب، فهي تملك وسائل إعلام مختلفة وحتى قبل أن تظهر القناة السادسة، فبالبرامج التي تدرس في المؤسسات الرسمية التي تنتج علماء الدولة، سواء القرويين أو دار الحديث الحسنية، تنتج علماء وفق معايير رسمية محددة سلفا. وحتى شعبة الدراسات الإسلامية التي تم إدخالها في كليات الآداب أواسط الثمانينيات، كانت تعتبر تصريفا للخطاب الديني الرسمي. ويوازي هذا التأطير الرسمي، الترخيص لعدد من الجمعيات الدعوية التي تصب في مصلحة الخطاب الرسمي. يزاحم الدولة في التأطير الديني للمغاربة التيار الوهابي الذي أسسه الدكتور تقي الدين الهلالي، الذي يعود إليه الفضل في تأثر العديد من المغاربة بمذهبه. وسارت على نهجه العديد من الجمعيات التي تدعو إلى مبادئ وعقيدة الوهابية من خلال دعم وبناء مساجد خاصة “مساجد المحسنين”. بعد هذا الدعم، جاء دعم عدد من الأساتذة الذين تم تعيينهم بكليات الآداب عندما أحدثت شعبة الدراسات الإسلامية، حيث شكل المدرسون، الذين تلقوا تعليمهم بالديار السعودية موطن الفكر الوهابي، الدعامة الأساسية لهذه الشعب. كما استفاد التيار الوهابي من الثورة الإعلامية والرقمية التي وظفها في نشر مبادئه وتوسيع قاعدة أتباعه من خلال ما تبثه يوميا القنوات الفضائية الخليجية التي تعتمده أساسا لخطابها. وينافس الخطابات السابقة، التيار الصوفي الذي يتوفر على كثير من الزوايا رغم عدم توحدها. فالطريقة البوذشيشية مثلا لها أتباع كثر داخل المغرب وخارجه وتتوفر على موقعين للأنترنت وعدة إصدارات صحفية، ونفس الأمر ينطبق على الإسلاميين الذين يشتغلون على التأطير الديني من خلال تأسيسهم للعديد من الجمعيات، سواء منها تلك التابعة لحركة التوحيد والإصلاح أو جماعة العدل والإحسان. كما يتأطر المغاربة علي يد الدعاة الجدد الذين أصبحوا يطرحون أساليب جديدة في تلقين مبادئ الإسلام ومبادئ التدين وإن كان تأثيرهم محدودا، فإنهم يستهدفون فئة معينة من المجتمع هي فئات ميسورة تشكل امتدادا أساسيا لبعض الطرق الصوفية وحتى الجماعات الإسلامية. وحسب محمد ضريف، الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، فإن الموجة الجديدة للدعاة الجدد، ممن يظهرون على الفضائيات الخليجية، يمكن اعتبارها أحد تجليات الصراع الفكري بين الجماعات الإسلامية والدولة، حيث استفادوا من ضيق الخناق الذي مارسته الدولة على الجماعات الدينية لخلق خطاب جديد وإن لم يشكل بديلا عن موضوع الصراع.