«لقد سمعنا أن العسكر سيتدخلون لإنقاذنا، هل أنتم من المخزن؟»، يسأل شيخ بلحية بيضاء استوقفناه بالقرب من دوار لمساعدة لاستفساره عن جماعة «الخنيشات» التي بقيت مجهولة لسنين طويلة، قبل أن تحتل واجهة الأخبار بعد أن غضب سكانها، الذين ذهبت السيول بدواويرهم وماشيتهم، من التهميش و«الحكرة». «الطريق مقطوعة، عودوا من حيث أتيتم»، جملة نطق بها عنصر تابع للدرك عند ملتقى طرقي قريب من المنطقة، قبل أن ينصرف في الوقت الذي كانت فيه مجموعة من المكالمات الهاتفية ترد علينا من سكان «الخنيشات»، وتطالب بضرورة الوصول إليهم لنقل معاناتهم، لنقرر إكمال الرحلة. نكبة الخنيشات طوال الطريق الضيقة والمليئة بالحفر التي تقود إلى الخنيشات، اصطفت السيارات المخصصة للنقل المزدوج، وبداخلها تكدس فلاحون بسطاء هربوا مرتين، مرة من المياه التي أغرقت المنطقة، ومرة أخرى من المخزن الذي سمعوا بأنه قادم من أجل معاقبتهم، بعدما تجرؤوا على الغضب وتخريب بعض الممتلكات، احتجاجا على مساعدات أعلن الإعلام الرسمي أنها وصلت إليهم في حين أنها لم تصل، إلا شاحنة واحدة خصصتها السلطة لسكان الجماعة الموزعين على أزيد من 15 دوارا، تضمنت بعض المواد الغذائية مثل السكر والزيت، ليتم الاستيلاء عليها من قبل المتضررين. العديد من المنازل لم يعد يظهر منها سوى أعمدة خشبية أو أطلال طينية، فقوة السيول جرفت كل شيء في الطريق، ونهر سبو مد جناحيه ليغطي آلاف الهكتارات، وحدها قطعة قماش بقيت صامدة في وجه كل شيء، وكتب عليها: «بادروا إلى تسجيل أنفسكم في اللوائح الانتخابية». «لقد عشنا ثلاثة أيام من الجحيم لم نذق خلالها طعم النوم، المياه بدأت في الاقتراب من المنازل شيئا فشيئا، قبل أن تتحول إلى سيول قوية مع حلول الليل، الأمر الذي دفعنا إلى الهرب دون أن نحمل معنا أي شيء»، يقول مبارك وهو فلاح في العقد الثالث من العمر لجأ بدوره إلى الخنيشات هربا من السيول، قبل أن يقرر مغادرتها لأن المخزن «عوال على خزيت»، على حد تعبيره. التوتر مازال يخيم على المكان، وجميع الاحتمالات تبقى ورادة بعد أن علم السكان أن السلطة قررت منع المساعدات عنهم، كعقاب جماعي ردا على الاحتجاج الذي تحول إلى عملية رجم لكل ما يرمز إلى وجودها. نزوح جماعي دوار أولاد عبد الواحد والقميحات وولاد عبد السلام وولاد بوعزة إلى جانب دواوير أخرى، هي تجمعات سكانية فلاحية مسحت من خارطة المنطقة بالكامل، ليتحول سكانها إلى لاجئين ومشردين تتقاذفهم الخنيشات مرة، ومرة أخرى سيدي قاسم البعيد بحوالي 27 كيلومترا. مع اقترابنا من الخنيشات صادفنا جرارا مغمورا بالسيول، بعد أن حاول صاحبه إنقاذ بعض متاعه المتبقي داخل منزل منهار، لتغرق عجلاته في المياه والوحل، قبل أن يتدخل عشرات الفلاحين من أجل المساعدة على فك الجرار من ورطته قبل حلول الليل. السكان، ورغم هول الكارثة، يبدون تعاطفا وتضامنا كبيرين في ما بينهم، وكأنهم أيقنوا أن لا أحد يهتم لحالهم، «شنو غادي نديرو، المسؤولين سمحوا فينا، راه البهيمة حشاك يلا كانت فهاد الحال تبقى فيك عاد بنادم»، يقول صاحب الجرار. أطفال صغار يرتعشون بعدما تبللت ثيابهم التي لا يملكون سواها، ونساء حمل أطفالهن بين أيديهن وكأنهن لا يصدقن أنهم مازالوا أحياء بعدما جرف الماء الأغنام والأبقار والمنازل. «لنا الله، نحن راضون بقضاء الله، ما لا نفهمه هو كيف يمنعون عنا المساعدات، هل كانوا ينتظرون أن نموت بالجوع والبرد ونظل صامتين؟»، كلمات نطقت بها عجوز تحمل بين ذراعيها طفلة رضيعة، وهي تشق بخطوات منهكة طريقها وسط المياه باتجاه الخنيشات. عصا المخزن الطويلة وجوه النازحين تنظر بتمعن إلى داخل السيارة وتتفرس في ملامحنا، وكأنهم يتساءلون في قرارة أنفسهم عن هؤلاء الغرباء الذين جاؤوا إلى مكان يهرب منه الجميع. نهر سبو بلونه الترابي يصدر صوتا مخيفا، فيما السيارة تحاول تجاوز القنطرة التي علقت بها فروع الأشجار وقطع كبيرة من الحجارة من مخلفات السيول، هذا هو الوضع في الخنيشات التي تعد امتدادا للغرب الذي كان يطعم ملايين المغاربة، قبل أن يتحول سكانه إلى لاجئين ببطون جائعة وعيون متوجسة من عصا المخزن الطويلة التي حضرت إلى المكان، لتعتقلهم بعد احتجاجهم على التلاعب في الكمية القليلة من المساعدات التي وصلت. جماعة الخنيشات صورة تعبر عن المغرب المنسي، الوجوه حزينة وكئيبة، والجميع خرج إلى الشوارع يترقب وصول المساعدات التي قال المسؤولون إن الدولة وفرتها للمنكوبين، لكن الذي وصل فعلا هو تعزيزات من الدرك الملكي والقوات المساعدة تم استقدامها من حد كورت ووزان، من أجل «مساعدة» السكان على كبت غضبهم وابتلاع مأساتهم. المحلات التجارية وعدد كبير من المقاهي مغلقة، وحده مقهى مقابل لمقر الدرك الملكي بقي مفتوحا، واحتلته بالكامل عناصر تابعة لهذا الجهاز، في انتظار أوامر من العاصمة. جماعة الخنيشات، وبالرغم من أنها تعرف بنشاطها الفلاحى وضيعاتها الكثيرة، فإنها تبدو مثل حي عشوائي صغير، وليس هناك ما يشير إلى أن الأمر يتعلق بتجمع سكاني في القرن الواحد والعشرين، باستثناء مقر الجماعة ومقرات المؤسسات البنكية، وهو ما يفسر قيام بعض السكان الغاضبين بتخريبها. طفل صغير بوجه شاحب سألناه عما حدث ولماذا حدث، فأجابنا ببراءة: «دارنا مشات، البقر والغنم لي كانوا عندنا داهم الواد، حنا ساكنين دابا غي فمدرسة». قصة الغضب في الخنيشات بدأت بعد أن فر مئات الفلاحين من دواويرهم، وتجمعوا بالنقطة التي بقيت بعيدة نسبيا عن السيول في انتظار المساعدات، لكن الصبر امتد إلى ثلاثة أيام عانى فيها المنكوبون من قساوة البرد والجوع، ليتجمعوا بطريقة عفوية مرددين شعارات تندد بالتهميش والإهمال الذي كان أشد قسوة من المصيبة التي حلت بهم، قبل أن تبدأ الشرارة الأولى بحجارة طالت مقر الجماعة، لتمتد إلى المؤسسات البنكية ومقر البريد، ومركز تابع للمكتب الوطني للكهرباء إضافة إلى محلات تجارية، فالنار حين تشتعل تلتهم كل شيء في طريقها. دموع رجل مياه السد أغرقت المنطقة والسلطة لم تشعر السكان بالخطر القادم، مما زاد من حدة الغضب. يقول أحد شبان المنطقة: «المسؤولون يجلسون في مكاتبهم المكيفة، فيما نحن هنا مشردون ولا نملك رغيف خبز، أو خيمة بلاستيكية نحتمي بداخلها»، البعض لم يعد يملك سوى الثياب التي يلبسها، فيما تمكن البعض من حمل قطع من الملابس ليضعها في كيس بلاستكي أسود جعله حقيبة يحملها معه أينما ارتحل. بصعوبة كبيرة تمكنت السيارة التي أقلت طاقم «المساء» من اجتياز السيول التي مازالت تتدفق، فيما اصطف عدد من سكان المنطقة وهم يتأملون دواويرهم التي اختفت تحت المياه، يقول أحد الفلاحين وهو يغالب دموعه: «لقد بقيت بقرتي محاصرة داخل الماء، أنا متأكد من أنها مازالت حية، لكنني غير قادر على إنقاذها»، قبل أن يدير وجهه إلى الناحية الأخرى وكأنه استحيى أن تنزل دموعه أمامنا بعد كل هذا العمر. ضيعات الليمون غمرت بالكامل بمياه السد والأمطار التي تواصلت ثلاثة أيام دون انقطاع، حولت المنطقة بأكملها إلى بحر مترامي الأطراف، كما أن أكياس الرمل والتراب التي وضعها بعض السكان على أبواب المنازل لم تستطع مقاومة المد الجارف للمياه، لتتحول إلى ملجأ صغير أنقذ أرواح الكثيرين.