في نظرك، أين تتجلى أهم عوامل تراجع مالية المخزن خلال النصف الأخير من القرن 19 ومطلع القرن العشرين؟ باختصار، يمكن القول إن المغرب عانى طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر من أزمة مالية، نجمت عن اصطدام المغرب ببنياته التقليدية مع الاقتصاد الرأسمالي الأوربي. فعلى المستوى المالي تجلت الرجة في زعزعة توازن بيت المال من جهة، والضغط على الموارد وتزايد النفقات وتراجع قيمة العملة المغربية من جهة أخرى. وهو الأمر الذي جعل المغرب يعيش أزمة مالية كامنة. وبالرغم من ذلك، استطاع المخزن طيلة هذه الفترة أن يتعايش مع متاعبه المالية. ولئن كان قد جرب الاقتراض من الخارج منذ بداية ستينيات القرن التاسع عشر، فإنه استطاع تجنب عواقبه الخطيرة، إلى أن تغيرت الأمور في مفترق القرنين، وتسلم المولى عبد العزيز الحكم الفعلي للبلاد بعد وفاة الوصي أحمد بن موسى (ابا احمد) لتتأزم الأوضاع، وتنفجر التناقضات التي تراكمت بسبب التغلغل الأجنبي بالبلاد. واشتدت وتيرة أزمة المخزن المالية والنقدية، سيما مع نهاية سنة 1901 لما حاول المولى عبد العزيز حل المشكلة المالية بسن إصلاح ضريبي شامل، ألغى كل الضرائب الفلاحية القديمة وعوضها بالترتيب. ولكن المحاولة فشلت، فلا الضرائب القديمة بقيت ولا الضريبة الجديدة تم جبيها... وأمام تراجع المداخيل صعب تنفيذ كل ذلك، فوقع المخزن كمبيالات على مداخيل الجمارك، ولم يكن هذا الإجراء كافيا فتراكمت الديون لفائدة الممونين الأجانب. كما تأزمت الأوضاع أكثر وتحولت حالة الاضطراب التي تلت إقرار الترتيب إلى أزمة عامة، مع اندلاع ثورة الجيلالي الزرهوني المعروف ببوحمارة في خريف سنة 1902. راهن المغرب كثيرا على تنافس الدول الإمبريالية بغية الإفلات من الاستعمار طيلة نصف قرن، كيف تم تجاوز إشكالية «القضية المغربية» وسقوط المغرب فريسة التدخل الاستعماري المباشر؟ استفاد المغرب كثيرا من موقعه الجغرافي، الذي جعله موضع اهتمام كل الدول الاستعمارية، وهو الأمر الذي وفر له ورقة المنافسة بين الدول الأوربية، فاستغل هذه الورقة للحيلولة دون سقوط البلاد تحت هيمنة أي منها، وضرب الواحدة بالأخرى لإبقاء ما كان على ما كان. واستعمل هذه الورقة طيلة النصف الثاني من القرن 19 م، ولكن الوضع تغير مع مطلع القرن العشرين حينما مال أقطاب الاستعمار إلى التفاهم فيما بينهم. إلى ماذا كانت الدول الأوربية ترمي من وراء إغراق المغرب في دوامة من القروض الضخمة؟ هذا السؤال مرتبط بوظيفة القروض في ذلك الوقت ودورها في الاستعمار. فقد تحولت في أواخر القرن 19 وبداية القرن 20 إلى رأس الحربة ضمن وسائل التوسع الاستعماري. إذ تحدد مسلسل واضح المعالم لفرض الوصاية السياسية على البلدان الإفريقية والآسيوية ذات البنيات التقليدية. ويقوم هذا المسلسل على استغلال المشاكل المالية للبلدان المستهدفة وتعميقها بكل الوسائل، واقتراح المساعدة المالية على هذه الدول، بما يرافق ذلك من شروط تمس بسيادة البلاد وتؤدي إلى تعميق المشاكل المالية ... وبطبيعة الحال هذا ما حصل في المغرب في مطلع القرن العشرين، حيث استغرق المسلسل عقدا واحدا من الزمن إذ بدأ سنة 1902 بخطوة أولى، قام بها المخزن نحو الأموال الأجنبية. تلتها خطوتان اثنتان نحو الأموال الفرنسية واحدة سنة 1904 والثانية سنة 1910 ربطتا المغرب بالسياسة الفرنسية. وانتهى المسلسل سنة 1912 بفرض الوصاية السياسية عليه وتوقيع معاهدة 30 مارس التي أقامت الحماية الفرنسية على المغرب. ما الدور الذي لعبته الآلة الدبلوماسية للدول الأوربية في إبرام تلك القروض؟ بطبيعة الحال كان دور الآلة الدبلوماسية حاسما، فالقروض انخرطت ضمن سياسة عامة رسمتها الحكومة الفرنسية من أجل بسط هيمنتها على المغرب. وهي سياسة ذات شقين: أولا، إبعاد المنافسين عن طريق التفاهم مع الدول المعنية بالقضية المغربية، وثانيا، بواسطة التغلغل السلمي في المغرب عن طريق تنمية كل وسائل التأثير التي يمكن أن تحصل عليها فيه، وفي مقدمتها الوسائل الاقتصادية التي يحتل فيها المال الصدارة. فقد أشرفت الحكومة الفرنسية على العملية برمتها، إذ نسقت عمل مجموعات الرأسمال وضغطت على المخزن وعلى رجال المال والأعمال معا، فقد مارست كل شيء من أجل بلوغ أهدافها. فإلى حدود سنة 1902 عارضت كل تقدم غير محسوب لرجال المال والأعمال الفرنسيين بالمغرب، تحسبا لفتح المسألة المغربية قبل الأوان. إلا أنه ابتداء من هذه السنة تغير موقفها، فشجعتها وصارت تسعى لاستعمالها لمتابعة الأهداف الجديدة للدبلوماسية الفرنسية. فيم تم صرف تلك القروض؟ حينما قررت فرنسا مد المخزن بالقروض في مطلع القرن العشرين، كانت قد عزمت على استعمالها لبسط سيطرتها على البلاد. ولذلك، فإنها قررت ألا تعود تلك الأموال التي يتوصل بها المخزن بالنفع، وأن تكون مجرد قروض تصفية فقط. بحيث لا تستعمل تلك الأموال في تحسين إمكانات المخزن أو تقويته، بل كانت تدفعه إلى تكوين «رصيد مدين» عن طريق بعض الديون الصغيرة التي لا تفيد إلا في مواجهة بعض الحاجات الآنية. وحينما تقرضه المال تحرص على ألا يتوصل منه بشيء. فمثلا القروض الثلاثة الأولى التي حصل عليها المغرب سنة 1902 1903 من كل من فرنسا وإنجلترا وإسبانيا، خصصت بالكامل لأداء بعض الديون المترتبة على المخزن لفائدة الممونين الأجانب وكونت رصيدا مدينا. أما القرض الفرنسي لسنة 1904، فتم توجيهه لتصفية الرصيد المدين، فقامت بدراسة عقد القرض مع بنك باريس والأراضي المنخفضة ليتماشى مع ذلك الهدف. فحدد مبلغ القرض في 62.5 مليون فرنك بفائدة 5 % توصل المخزن منه ب 48 مليون فرنك بعد أن اقتطعت البنوك 14.5 مليون فرنك (12.5 عمولة ونفقات الإصدار ومليونين مال احتياطي). أما حينما قبلت فرنسا بمنح المخزن قرضا سنة 1910، فإنها عملت على تكوين رصيد مدين جديد أثقلته بالتعويضات ووقعت مع المخزن تسوية مالية على أساسها تم إبرام عقد القرض. إضافة إلى ديون أخرى أبرمها المخزن قبل 30 يونيو 1909 وبلغت حسب لجنة دولية لإحصاء الديون 23 مليون فرنك، و تعويضات ضحايا أحداث الدارالبيضاء التي بلغت حسب لجنة دولية للنظر في قضايا التعويض وبلغت 642 069 13 فرنك، كما كانت هناك نفقات أخرى كان على المخزن أن يلتزم بها، وتهم رواتب شرطة المراسي ونفقات أشغال كانت جارية بمراسي طنجةوالدارالبيضاء وآسفي وغيرها. ما هو الدور الذي لعبه بعض النافذين ورجال المخزن في تسهيل تلك القروض؟ أشير فقط إلى ما قاله بيير كيلين في كتابه عن الاقتراضات المغربية، انطلاقا من بعض الوثائق التي أشارت إلى دور بعض الوزراء. فالسلطان المولى عبد العزيز قاوم قرض 1904، ولم يستسلم في الأخير إلا بسبب ما مارسه عليه معظم الوزراء من ضغوط قوية. وعدد كيلين مجموعة من الأسباب تفسر أسباب هذه الضغوط، وختمها بالقول بأن بنك باريس والأراضي المنخفضة اشترى «ذمم عدد من الوزراء مؤديا ثمن مساعدتهم له غاليا، إذ اقتسموا سخرة بمليونين من الفرنكات». لعبت الحماية القنصلية دورا مهما في تراجع سلطة المخزن، أين تجلى ذلك؟ كان امتياز الحماية القنصلية، وسيلة من الوسائل التي استعملتها الدول الأوربية لتفكيك المجتمع المغربي وتنمية مصالحها بالبلاد. وهذا الامتياز جعل الحاصل عليه من المغاربة مقيما بالمغرب تحت الحماية الأجنبية، خارجا عن سلطة بلده ومعفيا من الواجبات المالية اتجاهه. وقد استعملت الدول الأوربية امتياز الحماية الأجنبية على نطاق واسع، متجاوزة الشروط التي نظمته وصارت تمنحه لعدد متزايد من المغاربة. سيما اليهود والتجار المسلمين، بل صارت بطاقة الحماية سلعة يتاجرون فيها. وكانت عواقب الحماية القنصلية خطيرة جدا، إذ أدت إلى خلخلة بنية المجتمع المغربي وصارت وسيلة لمد النفوذ الأجنبي بالبلاد، كما شكلت عاملا مهما في انهيار المداخيل الضريبية وتبديد الثروة الوطنية، والرفع من النفقات وغيرها. ولذلك حاول المخزن الحد من استفحال هذه الآفة، مطالبا الأجانب بالالتزام بما ورد في النصوص المنظمة لها، مما أدى إلى دعوة مؤتمر مدريد سنة 1880، لكن نتائجه جاءت داعمة للامتياز. سارت الآلة العسكرية الاستعمارية جنبا إلى جنب مع الدبلوماسية والتدخل المالي. ما هي أوجه تدخلها في التهديد بغزو المغرب قبل الحماية؟ معروف أن فرنسا قررت منذ نهاية القرن 19 مد نفوذها إلى المغرب، وإتمام هيمنتها على شمال إفريقيا، وحددت سياسة محكمة لبلوغ هذا الهدف، غير مستبعدة للخيار العسكري. فحين قررت التحرك لحل المسألة المغربية لصالحها، أعدت بالموازاة خططا عسكرية للتدخل في المغرب، لتكون على استعداد لاجتياح البلاد والوصول إلى فاس بالسرعة اللازمة ... أما عمليا، فلم تدخر فرنسا جهدا لاحتلال أجزاء من البلاد فمنذ بداية القرن،20 اشتد ضغطها العسكري على الحدود المغربية الجزائرية باحتلال واحات توات وكورارة، إذ احتلت وجدةوالدارالبيضاء والشاوية سنة ،1907 وفي ربيع 1911 دخلت جيوشها فاس.