وصلت عائدات الفوسفاط ومشتقاته في السنة الفارطة إلى مستويات قياسية، ساهمت في التخفيف من عجز الميزان التجاري، الذي يفاقمه ارتفاع الواردات، وفي هذا الحوار نستطلع رأي الاقتصادي المغربي والمستشار السابق للمكتب الشريف للفوسفاط، حول استراتيجية المكتب ودور الفوسفاط في التخفيف من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية. - لعل أبرز خبر سارّ تداوله المهتمون بالشأن الاقتصادي المغربي في السنة الماضية، هو تضاعف عائدات الفوسفاط ومشتقاته، والذي يأتي في ظل ظرفية اقتصادية غير ملائمة. ماهي، في تصورك، العوامل التي ساهمت في ارتفاع تلك العائدات؟ < يخضع الفوسفاط ومشتقاته منذ العديد من السنوات لتقلبات الظرفية الدولية، فهناك دورات صعود وهبوط للأسعار، وثمة بعض اللحظات العصيبة التي يمر منها منتجو هذه الثروة، لكن السنة الماضية كانت ملائمة، فقد ارتفعت الأسعار في السوق الدولية، بفعل تزايد الطلب، غير أن الأسعار الدولية ليست المفسر الوحيد لأداء قطاع الفوسفاط في المغرب، فنحن نلاحظ نوعا من التدبير الجيد لدى المشرفين الحاليين على المكتب الشريف للفوسفاط. وعموما فقد اختارت هذه المؤسسة منذ مدة تدبيرا صارما، الشيء الذي يتعمق مع المدير العام الحالي، مصطفى التراب، الذي أعتبره مسيرا كبيرا، يشرف على المنعطف اللازم والحاسم في مسار المكتب، حتى تتأتى لهذه المؤسسة مواجهة العولمة التي توجد في قلبها، خاصة وأن سوق الفوسفاط عرف تغيرات كبيرة، فالمغرب في السبعينيات كان المصدر الأول في العالم، مما كان يخول له نسبيا إملاء الأسعار، غير أن السوق أصبح الآن جد تنافسي، ويجب التموقع فيه بقوة، فقد ظهر بعض المصدرين الذين كانوا في السابق زبناء للمغرب. وأعتقد أن التراب يقوم بعمل جيد في أفق تعزيز موقع المغرب في الساحة الدولية . وهذا عمل شُرِع فيه من قبل، من خلال اللجوء إلى الحصول على مساهمات أجنبية، من أجل تأمين هذا السوق. في نفس الوقت عمد التراب إلى إعادة هيكلة داخلية، بما يسهل له عملية التحول إلى هولدينغ، وهذا سيطور الفعالية التسييرية، خاصة وأن عدد العاملين فيه يصل إلى حوالي 24 ألفا. وفي ظل الاستراتيجية الجديدة يحاول المكتب تقليص التكاليف من أجل ربح نقاط على مستوى التنافسية، ويبدو أن النجاح يحالفه بفضل الكفاءات التي يتوفر عليها، وعلى رأسها حوالي 360 مهندسا. وإذا كان لي أن أصدر حكما، فسأقول إن المكتب الشريف للفوسفاط مسير بطريقة جيدة. - جزء من التوجه الجديد للمكتب يركز على محاولة التأثير على الأسعار في السوق الدولية، في نفس الوقت الذي يحاول فيه تكوين احتياطي استراتيجي تحسبا لتقلبات الظرفية. كيف تقيم هذا التوجه؟ < عندما نرفع الأسعار بطريقة لا متناهية، كما فعل المغرب في سنوات السبعينيات، نعطي لبعض البلدان المنافسة فرصة إعادة استغلال بعض مناجمها الهامشية التي تصبح منتجة، وهذا يرفع العرض على المستوى الدولي، مما يفضي إلى تهاوي الأسعار، الشيء الذي ينذر بأزمة فوسفاطية. لا يجب قتل الدجاجة التي تبيض ذهبا. لذلك أعتبر أن المكتب لم يجانب الصواب عندما لم يعمد إلى مسايرة مسلسل ارتفاع الأسعار إلى ما لا نهاية، بل اختار الحفاظ على مستويات معقولة. على مستوى المخزون الاحتياطي، هناك ممارسة شائعة في العديد من البلدان، تتمثل في تكوين احتياطي استراتيجي، ستعمل في ضبط السوق حسب التقلبات التي تطرأ عليه . من المهم التوفر على احتياطي لأنه يتيح هامش حرية في التعاطي مع السوق في حالة نشوب أزمة مثلا، حيث يلجأ إلى ذلك المخزون في معالجتها والتصدي لها. وهذا توجه تنخرط فيه المقاولات متعددة الجنسيات. لا يحدث لنا هذا في مجال البترول، فما دمنا لا نكون احتياطيا استراتيجيا كافيا، نبقى تحت رحمة تقلبات الأسعار في السوق الدولية، فالاحتياطي يخول ضبط السوق والتأثير في الظرفية. - ثمة جانب آخر في هذه الاستراتيجية التي انخرط فيها المكتب الشريف للفوسفاط، يشير إليه الجرف الأصفر، حيث وضع المكتب البنيات الأساسية التي تسهل استقبال شركات عملاقة، تتولى إنتاج الحامض الفوسفوري والأسمدة، إلى أي حد يبدو هذا التوجه سديدا؟ < في الجرف الأصفر يجري تثمين المادة الأولية. عندما نال المغرب استقلاله، ورث من المستعمر بنيات بلد متخلف، يقوم بتصدير المواد الأولية ويستورد المنتجات المصنعة، غير أن المغرب حاول تثمين الفوسفاط من خلال خلق صناعة كيماوية، هذا يتجلى في آسفي والجرف الأصفر، والمغرب اكتسب خبرة وحسن القيمة المضافة في هذا المجال. وإلى حدود الآن، يعتبر أحد أكبر البلدان المصدرة للأسمدة والحامض الفوسفوري. ويمكنه أن يدعم هذا الموقع عبر تحالفات مع مقاولات ورساميل كفيلة بتطوير التجهيزات. وأنت تلاحظ أن المكتب فتح رأسماله أمام البنك الشعبي، الذي يتوفر على سيولة كبيره، وهذا يتيح له فتح مناجم جديدة والحصول على تجهيزات متطورة، وبالنظر إلى مشكل تمويل التقاعد، لا يجد المكتب بدا من استدعاء رساميل يمكن أن تساهم في تحديثه. المكتب الشريف للفوسفاط لا يشبه المقاولات الأخرى، فهو لاعب في السوق الدولي، ويلمس تعبيرات العولمة بشكل مباشر، وهذا يفرض عليه تحسين خبرته وتجهيزاته، والأمر الذي يستدعي موارد مالية كبيرة. وأعتقد أن المكتب مصيب في انفتاحه على مؤسسات مغربية، فهو يتحول إلى هولدينغ اليوم، بما يستدعي به ذلك من توجه نحو استقلالية القرار لدى مكوناته، وهذا يقتضي توفير الوسائل المالية لذلك. - رغبة في خفض التكاليف،اختار المكتب من أجل نقل الفوسفاط إلى الجرف الأصفر وآسفي أنابيب وتخلى عن قطارات المكتب الوطني للسكك الحديدية التي كانت تتولى هذه المهمة، مما يعني فقدان هذا الأخير لنصف رقم معاملاته. ولا حظنا أن مصطفى التراب، رغم المساعي التي بذلت لديه، أصر على هذا التوجه، ولم يكف عن التصريح بكونه يدافع عن مصالح المكتب الشريف للفوسفاط. هذا موقف غير مألوف لدى رؤساء المقاولات العمومية.. < يروم المكتب عقلنة إنتاجه، بما يستدعيه ذلك من تحكم في التكاليف، ولا شيء يمنع من اللجوء إلى الأنابيب إذا كانت ستخول له ذلك. وأنا أعتبر أن على المكتب الوطني للسكك الحديدية، أن يطور إنتاجيتيه. هذا هو المنطق الليبرالي، إما أن نتبناه كاملا أو نتخلى عنه. وفي المغرب تكونت صورة حول المكتب الشريف للفوسفاط ترسمه على أنه تلك البقرة الحلوب، التي يلجأ إليها كلما احتاجت الدولة إلى مال. الآن هذه المؤسسة تتطلع إلى الريادة العالمية، التي ستفقدها في أيه لحظة إذا لم تتحكم في التكاليف ولم تنكب على تحسين المردودية. لماذا لا يلجأ المكتب الوطني للسكك الحديدية بدوره إلى تطوير أدائه؟ لاحظ على مستوى مراكش–الدارالبيضاء، هناك خط واحد، تركه المستعمر، لا أفهم لماذا لم تجر تثنية الخط الرابط بين الدارالبيضاءومراكش مثلا، رغم مردوديته المرتفعة. - هل يمكن القول إن الفوسفاط ساهم في إنقاذ الاقتصاد المغربي في هاته الظرفية الصعبة المتسمة بتفاقم عجز الميزان التجاري وتراجع رصيد العملة الصعبة؟ < ساهمت عائدات الفوسفاط ومشتقاته في تحسين الوضعية المالية للمغرب، الذي عانى من ارتفاع أسعار البترول والمواد الغذائية تحت تأثير واردات الحبوب والمواد الأولية المستوردة، التي تعتمد عليها الصناعات المغربية. وقد أفضت عائدات الفوسفاط إلى التخفيف من آثار الأزمة في المغرب، والتي تؤشر عليها النتائج المالية الجدية للمكتب الشريف للفوسفاط. بطبيعة الحال، ثمة عائدات أخرى مثل تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج والتي تضطلع بنفس الدور.