لم يبق على موعد حفل التخرج إلا أسبوع. وكنت كالعادة، في كل مساء، مع بعض الأصدقاء نجلس بالمقهى قرب الحي الجامعي. كان الجو حارا، أتذكر أن ذلك كان في بداية شهر يونيو من سنة 1993. كانت الشمس أقرب إلى الغروب، وهب خلال هذه اللحظة نسيم عذب برائحة الزهور والورود التي كانت محيطة بالمكان. ربما سيقع شيء لابد منه. كانت الساعة السابعة مساء. ماذا أرى؟ إنها شلة «المرحومة». بعد لحظات اقتربت الشلة تتوسطها كاطارينا. نعم إنها هي بشحمها ولحمها. فوجئت كما فوجئ أصدقائي. وبعد التحية اقتربت كاطارينا مني قائلة: «مساء الخير مصطفى. كيف حالك؟» لم أجبها. كنت أنظر إليها مندهشا. لم أتوقع زيارتها، في تلك اللحظة عدت إلى ذكريات الماضي القريب بكل أحداثه الجميلة وبكل معاناته وعذاباته. كان الأصدقاء، بمن فيهم شلة كاطارينا، ينظرون إلي بكثير من الشفقة وينتظرون ردة فعلي. التزمت الصمت حينها، أصبحت أخرس أبكم. اقتربت مني وجلست بجانبي تكلمني بصوت خافت: «كيف حالك؟ ألازلت تتذكرني؟» أجبتها بهدوء ونبرة كانت غريبة عنها: «وهل أنسى ما ذقته من عذاب فراقك المفاجئ؟ لماذا هربت؟ لماذا رحلت بدون سابق إنذار في الوقت الذي كنت في أمس الحاجة إليك؟ لماذا قتلت كل شيء جميل كان بيننا وحكمت عليه بالإعدام؟ لقد أذقتني العذاب والألم وأدخلتني بحر المعاناة والتيه والعزلة». فقالت وعيناها لا تقوى على النظر في عيني: «أعتذر عما حصل، لم أكن في وعيي حين اتخذت القرار، كنت في مرحلة انتقالية صعبة، حاولت أن أتحول وأتغير تماشيا مع حركية المجتمع، غيرت الأصدقاء وتغيرت علاقتي بالعائلة، هاجرت موطني إلى عالم جديد، كنت أظنه سيمنحني السعادة والكرامة، جنيت المال وضيعت الكثير في المقابل، فجئت لأعتذر، رغم أنني أعرف أن اعتذاري لا جدوى منه، ولكن على الأقل أتمنى أن نعيد بعض اللحظات الجميلة التي عشناها، خاصة أنك على عتبة الرحيل». قلت لها وأنا أتنهد: «وهل يعود الميت إلينا بعد موته؟». قالت: «لكن حبنا قدر محتوم لن يموت أبدا». واستسلمت للبكاء. سلمت لها منديلا فعم الصمت. غربت الشمس وبزغ القمر وبدأت الظلمة في الانتشار واسودت الدنيا وعم الهدوء والسكينة. وبعد نقاش هادئ بين الأصدقاء وشلة «المرحومة» حول الدراسة، حول مستقبل الثورة، حول حركية المجتمع وأشياء أخرى قرر الجميع متابعة السهرة بأحد الملاهي الليلية. لم أكن متحمسا للفكرة وقلت في نفسي: «ماذا تخطط له كاطارينا وشلتها؟» لم أجد من بد وقبلت بالفكرة، اتجهنا إلى مكان اعتدنا ارتياده بوسط المدينة. بعد ساعات من الرقص والنقاش والموسيقى أخذتني كاطارينا إلى مكان بعيد عن الشلة وضمتني إلى صدرها بشكل قوي وبدأت تقبلني، ثم قالت: «أريدك أن تنسى ما فعلته بك على الأقل في هذه اللحظة. لقد عشت معك براءة الحب وعذريته. أريدك أن تأخذني من هذا المكان إلى مكان آخر لنكون وحدنا». قلت حائرا: «لم لا؟ على الأقل أبتعد عن هذا المكان الممل». أخذتها على وجه السرعة عبر سيارة الأجرة إلى مكان هادئ اعتدنا ارتياده بضواحي المدينة. بعد وصولنا إلى المكان حجزنا طاولة وأصبحنا وجها لوجه من جديد. عزمتها على مشروبها المفضل، وعزمت نفسي بطبيعة الحال. بعد لحظة أخذت تكلمني عن عالمها الجديد بفيينا. كانت تقول والحسرة والقلق باديين على وجهها الشاحب: «كنت أظن بأن العمل والمال والعلاقات الجديدة ستأخذني إلى الأحسن، لكن لم تسر الأمور كما أردت. أصبحت أجني الكثير من المال وأعيش في مدينة كبيرة بماضيها وتاريخها وثقافتها وعظمتها، كانت عاصمة للإمبراطورية النمساوية المجرية التي كان يهبها الجميع، ورغم ذلك لم أكن سعيدة. أصبحت لقيطة على مجتمع جديد، قطعت مع كل شيء جميل في بلدي وأصبحت تائهة وضائعة». قلت لها: «هذا اختيارك. عليك أن تتحملي مسؤوليتك». بعد وقت وجيز وبعد أن ظهر التعب على وجهها طلبت مني أن آخذها إلى الحي الجامعي لتستريح قليلا. أخذتها بدون تردد، وبعد نصف ساعة وجدنا نفسنا وجها لوجه بالغرفة. قلت في نفسي: «ماذا عساني فعله في هذه الورطة؟» طلبت مني كاطارينا السماح لها بأخذ حمام ساخن لإزالة التعب، فلم أمانع. وبعد لحظة خرجت من الغرفة لأتفقد حالة صديقي سعيد، الذي يسكن بجواري، وكان على فراش المرض. بعد الاطمئنان عليه وبعد أن دردشنا قليلا ودعته وعدت إلى غرفتي. طرقت الباب ودخلت، فوجدت كاطارينا ممددة على السرير بقميصها الأحمر وشعرها المبلل الذهبي. كانت تدخن سيجارتها المعهودة بهدوء ونشوة، متتبعة دخانها المتطاير. لم أتمالك نفسي، وبدأت أنظر إليها، كما بدأت تنظر إلي نظرة تذكرني بالماضي القريب وبلقائنا الأول. فتحنا كتاب الذكريات مرة أخرى وبدأنا ننبش فيه، وقالت: «نعم مصطفى، كنت صادقا في حبك لي وعشنا لحظات حميمية لا أعتقد أن الزمن سيجود علينا بها مرة أخرى. لقد أخطأت فسامحني». بقينا على هذا الحال، بدون أن ألمسها، حتى بزغ الفجر وانجلى سواد الليل. تأثرت بحالها، فقلت لها : «معذرة سأذهب إلى المرحاض لقضاء حاجتي». في الحقيقة لم أذهب إلى المرحاض من أجل قضاء حاجتي، بل ذهبت للتحاور مع نفسي وطرحت السؤال التالي: «هل أستسلم مرة أخرى لكاطارينا؟» فتذكرت نصيحة صديقي بيتر عندما قال لي يوما: «إذا قررت أن تستسلم لامرأة، فاستسلم لكن بجوف فارغ للقطع مع كل الأحاسيس والعواطف». بعد لحظات عدت إليها ورميت كل أسلحتي وأصبحت مرة أخرى أعزل، لكنني بجوف فارغ. كان مصباح الغرفة يلوح بضوء أحمر خافت، وكانت إذاعة براتيسلافا تبث عبر الأثير موسيقى هادئة. كانت الأغنية المبثوثة حينها لمجموعة «سكوربيونز» وكان موضوعها حول «ريح التغيير بموسكو». أغنية كان يرددها الكل في عز ثورات أوروبا الشرقية. بمجرد بثها قامت كاطارينا وقالت: «اسمع مصطفى إنها أغنيتنا المفضلة» وبدأنا نرقص على إيقاع الموسيقى. بعد لحظات ليست ككل اللحظات وجدنا نفسنا متعانقين فبدأت رحلة العشق. أحسست خلالها بالدوار من شدة الإثارة، والدوار مرتبط بالضعف. في هذه اللحظة لا يحب الإنسان أن يتصدى لضعفه، بل يرغب في أن يصبح أكثر ضعفا، كما أحسست بغيوم الخصام التي كانت بيننا قد تبددت، لكن صدقوني، خلال المضاجعة لم أشعر بأي متعة. لقد عملت بنصيحة بيتر ودخلت المعركة بجوف فارغ، لا إحساس فيه ولا عواطف. أثناء المضاجعة انتابت كاطارينا نوبة من البكاء. لم أتمكن من فهم ما يجري، إنها كاطارينا أخرى. بعد لحظة وصلت إلى غايتها وعم الصمت وعادت أجسامنا وأرواحنا إلى واقعها المعهود. تمددت بجانبي وابتسمت لي وعانقتني بشكل غريب كأنها حققت شيئا كان لابد منه. بعد ذلك وفي عز النور ودعنا بعضنا من أجل أن نلتقي مجددا في حفل تخرجي في الأسبوع الموالي. عند الوداع كان وجهها كئيبا وحزينا كأنه يخفي شيئا ما. حل موعد حفل التخرج. كانت القاعة مملوءة عن آخرها. كان الآباء والأصدقاء يحملون الورود والهدايا لتقديمها إلى الطلبة المتفوقين. كان أغلب أصدقائي وصديقاتي حاضرين، بمن فيهم شلة «المرحومة». أما كاطارينا فكانت غائبة. بعد لحظة التخرج التاريخية احتفلنا معا حتى ساعة متأخرة من الليل. طويت حينها صفحة عالم الدراسة وصفحة كاطارينا، لكن في نفس الوقت طرحت أكثر من سؤال: لماذا عادت كاطارينا في نهاية مشواري الدراسي؟ لماذا طلبت مني مضاجعتها، بل أصرت أكثر من مرة رغم رفضي لها في الوهلة الأولى؟ لماذا لم تحضر في حفلة التخرج؟... وأنا أطرح هذه التساؤلات تذكرت كاطارينا في بداية مشوارنا الغرامي تقول لي:» أحبك مصطفى. كم سأكون سعيدة إذا أنجبت منك طفلا يشبهك». ربما جاءت لتحتفظ بذاكرتي في أحشائها. ربما عادت لترغمني على البقاء معها، لكن بشكل آخر. حل موعد السفر والعودة إلى المغرب. عدت لكن بدون أن أودع كاطارينا. مرت حوالي 20 سنة على تلك اللحظة، توقفت أخبارها عني.هل فعلا حققت ما كانت تسعى إليه؟ هل كان لقاؤنا الأخير مدبرا بالفعل؟...لا أعرف. ربما علي الرحيل مرة أخرى إلى بلاد البوهيمية لاكتشاف الحقيقة.
نعود إلى الثورة التشيكوسلوفاكية، التي كانت في بدايتها. بعد شهور ارتفع إيقاعها وأصبح نساؤها ورجالها يطالبون برحيل الرئيس غوسطاف هوساك ونظامه الشمولي الجائر، بل محاكمته كما حدث في رومانيا لرئيسها تشاوسيسكو وزوجته إلينا. كان كل يوم من أيام الثورة الشعبية عبارة عن مفاوضات ولقاءات وبيانات، كل هذا كان يدخل في حرب الأعصاب بين النخبة الوطنية التي كانت تمثل الثوار، وبين بقايا النظام الشيوعي الهرم. كان الثوار يتزعمهم الكاتب المسرحي فاتسلاف هافل، الذي سيصبح بعد نجاح الثورة أول رئيس لتشيكوسلوفاكيا منتخب ديمقراطيا. هذه النخبة السياسية المحنكة كانت، بالإضافة إلى نضالاتها الوطنية، تحمل مشروعا مجتمعيا متكاملا يتماشى والتحولات السوسيو اقتصادية والسياسية التي يعرفها العالم وشرق أوروبا خصوصا، وكان حولهم أفراد المجتمع السلافي المؤطرون، والمكونون، والواعون بخطورة المرحلة التاريخية التي تعيشها بلادهم. كل هذا الحراك كان يسير ببلاد البوهيميا إلى طريق الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان من غير رجعة. وبدورنا، كطلبة أجانب، كنا نتحاور ونتفاوض من أجل مستقبلنا الدراسي في إطار ما يسمى بالشبيبة الشيوعية قبل الثورة والاتحاد الطلابي بعدها، فكانت أغلب اللقاءات مطمئنة للغاية. نجحت الثورة وسقط حائط برلين وسقطت معه كل الإيديولوجيات التي كانت تؤسس للحرب الباردة. حينذاك أصبح العالم يعيش على إيقاعات عصر التغييرات الكبرى، والتغيير هو أقدم رغبة عند الإنسانية، لأن الأشياء عندما تتكرر تفقد كل مرة شيئا من معناها، وتفقد شيئا فشيئا قوتها الحيوية التي تضفي عليها وهم المعنى. لقد كسرت الحدود بكل أبعادها الممكنة، والحدود في حد ذاتها هي جرعة التكرار القصوى المسموح بها. إذن أين تبدأ وتنتهي حدود الأدلوجة الجديدة؟ وماذا سيحدث إذا تجاوزناها؟ وماذا يقع إذا كان التجاوز أبعد؟ بعد أشهر انتخبت أول حكومة بعد الثورة يترأسها فاتسلاف كلاوس. كما انتخب الكاتب المسرحي الذي افتقدناه مؤخرا فاتسلاف هافل رئيسا للدولة التشيكوسلوفاكية. بعد سنتين تقريبا أمام اندهاش الجميع انفصل الإخوة الثوار بدعوى عدم القدرة على التعايش جنبا إلى جنب، وتأسست دولتان جديدتان: دولة «تشيكيا» ودولة «سلوفاكيا»، وأصبح رئيس الدولة السلوفاكية الرمز والكاريزما هو ألكسندر دوبتشيك، بينما أصبح رئيس حكومتها متشيار. أما القيادة التشيكية فبقيت على حالها: فاتسلاف هافل رئيسا للدولة التشيكية، و فاتسلاف كلاوس رئيسا لحكومتها، فاختلط ضحك الملائكة بضحك الشياطين كما جاء في رواية «الضحك والنسيان» لكاتبها التشيكي ميلان كونديرا، فانتهت هذه المسرحية الدرامية وعمها الضياع والنسيان. في هذه اللحظة وبعد أن أنهيت دراستي الجامعية وجدت نفسي بين خيارين: خيار الاستقرار بأوروبا وخيار العودة. فاخترت بدون تردد الرجوع إلى أرض الوطن من أجل البحث عن فرصة جديدة للتواجد والاستمرار والثأر لزمن الظلم والقهر والإقصاء الذي لازمني سابقا. وأنا في طريق العودة وذكريات الماضي القريب تتبادر أمامي بنجاحاته وإخفاقاته، استحضرت قولة طارق بن زياد الشهيرة عندما كان على أبواب فتح بلاد الأندلس : «البحر من ورائكم والعدو أمامكم»، فكان البحر بالنسبة إلي هو بحر أوروبا بثقافتها وحضارتها الضاربة في القدم، بجمالها وبنجاح ثوراتها وبكل لحظة قضيتها بين أحضانها، لكنني لم أبال بكل هذا، فقررت إحراق جميع قواربي وأوراقي وكل ذكرياتي. حينذاك لم يعد أمامي إلا العدو، عدو الجهل والفقر والأمية والحرمان والفساد بكل أنواعه. إنها بالفعل مأساة حقيقية تنتظرني في المغرب، مغرب مريض منهك، يسير بكل عزيمة ورغبة وثبات نحو السكتة القلبية، فكان الاختيار صعبا، لكنني كنت جد مقتنع به، لأن أوروبا بنت حضارتها بسواعد أبنائها وبدمائهم عبر مختلف الثورات التي عاشتها مجتمعاتها في زمن الظلام واللاهوت. فتاريخ أوروبا مسيرة كبيرة من ثورة إلى أخرى، من نضال إلى آخر، ودائما إلى الأمام، فلم أرغب التطفل عليها، واخترت العودة رغم الصعوبات التي كانت تنتظرني لأساهم بقدر المستطاع في زمن التحولات والتغييرات التي سيعرفها المغرب عاجلا أم آجلا.