قبل أيام، سمع المغاربة خبرا نادرا ما يسمعون مثله، وهو خبر أخرجهم من ظلمات السياسة وحمق الأحزاب ليضعهم وجها لوجه مع روعة التاريخ، حيث تم اكتشاف حطام سفينة تاريخية في شاطئ مدينة آسفي. اكتشاف السفينة في بحر آسفي كان بمحض الصدفة، لأن غطاسا مغربيا محترفا كان يجول هناك، وفجأة وجد بقايا سفينة حربية من القرن السادس عشر، وبها مدافع وعتاد وأشياء كثيرة أخرى، ويقال إن بها صناديق أخرى لا أحد يعلم حتى الآن ما يوجد بها. إنها الصدفة فقط التي تقودنا إلى اكتشاف ماضينا. ولو أن ذلك الغطاس لم يكتشف تلك السفينة لبقي الحال على ما هو عليه لقرون أخرى، وربما للأبد. مشكلتنا ليست في مآثرنا البحرية فقط، بل إننا لم نستطع فعل شيء حتى مع مآثرنا البرية التي نراها أمامنا صباح مساء، والتي عوض أن نجعل منها مزارات ثقافية وسياحية، كان أقصى ما فعلناه هو أن كتبنا عليها عبارة «ممنوع البول».. إننا من الشعوب القليلة في هذا العالم التي تستمتع باحتقار رموزها وعظمائها. عندنا بحار تمتد على مساحة تقدر بثلاثة آلاف كيلومتر، وهذا ما يعرفه الجميع، لكن ما لا يعرفه كثيرون هو أن هذه البحار شهدت أحداثا عظيمة على مر الزمن، منذ ما قبل التاريخ حتى اليوم، ومع ذلك نتعامل معها وكأننا نتوفر على مسبح صغير في فناء المنزل نعرف كل ما تحته. هناك بلدان في العالم تتوفر على شواطئ ضيقة جدا لم تعش أحداثا تاريخية كبيرة، لكنها تفتش عن أي شيء لكي تؤثث به تاريخها، وهذا شيء طبيعي، لأن الأمم الذكية والراقية هي التي تعرف قيمة التاريخ، أما البلدان المتخلفة والشعوب المنهكة مع القفة فإنها لا تنظر إلى أبعد من أنفها. بحار المغرب عرفت أحداثا جلالا منذ بداية التاريخ؛ ففي مضيق جبل طارق يمكن العثور على كنوز تاريخية حقيقية، فهو كان ممرا إجباريا للإنسانية في كل الحقب، وهو كان حلقة وصل بين العوالم القديمة، وفيه غرقت سفن كثيرة جدا وبها كنوز تاريخية لا تقدر بثمن، وعلى مياهه جرت معارك ضارية، ومنه عبر الإنسان القديم ما بين إفريقيا وأوربا.. رغم كل هذا لم يسبق أن قام المغرب بأي مجهود من أجل البحث في هذا المضيق عن الكنوز التاريخية. جيراننا الإسبان الذين يتقاسمون معنا ملكية هذا المضيق يعلنون كل عام تقريبا عن اكتشاف ما، وأحيانا يقوم البريطانيون بذلك، ما داموا يعتبرون أنفسهم معنيين به أيضا بفعل سيطرتهم على صخرة جبل طارق. وخلال السنوات القليلة الماضية، أعلن الإسبان عن اكتشافات كثيرة في المضيق، من بينها بقايا سفن من العهد الروماني والحرب العالمية الأولى وأخرى من زمن اكتشاف أمريكا. المغرب استوطنته أمم عُرفت بكونها سادة البحار، من بينها الفينيقيون الذين جاؤوا من الشرق، والذين جابوا بحار العالم طولا وعرضا؛ والوندال الذين جاؤوا من أقصى شمال أوربا، والذين كانوا يركبون السفن أكثر مما يركبون الخيول؛ وكان أيضا مستعمرة للإمبراطورية الرومانية، خصوصا شواطئه المتوسطية. وخلال الفترة الممتدة ما بين القرن الخامس عشر ونهاية القرن الثامن عشر، كانت سفن المغرب تمخر بحار العالم، فيما عُرف وقتها بمرحلة القراصنة الأندلسيين، الذين ُطردوا من الأندلس واستقروا في المغرب، خصوصا في وادي مرتيل بتطوان ووادي أبي رقراق بين الرباط وسلا. وخلال هذه الفترة التاريخية، حدثت أشياء مثيرة ووقعت معارك طاحنة وغرقت مئات السفن ودفنت كنوز كثيرة، ومع ذلك لا يوجد في المغرب أي مجهود من أجل الغوص والبحث عن بقايا ذلك الزمن في بحارنا. هناك شيء آخر على قدر كبير من الأهمية، وهو أن الشواطئ الأطلسية للمغرب عرفت على مدى قرون طويلة حركة دائبة عقب اكتشاف أمريكا، خصوصا في ظل النظرية الجدية التي تقول إن المغاربة، من بين شعوب أخرى، اكتشفوا أمريكا قبل قرون طويلة من المدعو كريستوف كولون، وهذا يعني أن حركة الملاحة البحرية بين المغرب وأمريكا كانت دائبة ومستمرة على مدى زمن طويل. هناك أشياء كثيرة جدا عن بحارنا تستحق أن تروى وتُكتشف، لكن يبدو أن مسؤولينا لا يرون في بحارنا سوى سوق ضخم لبيع السمك، بينما الأموال الباهظة يتم صرفها على المهرجانات والتفاهات. لدينا ثلاثة آلاف كيلومتر من الشواطئ.. وصفر اكتشاف.. إلا ما كان بالصدفة.