ترتفع منبهات الإنذار في المرصد السُّليماني المتخصص في تتبع الظواهر الكونية الغريبة، يدخل في حالة استنفار قصوى. ينعقد اجتماع طارئ على أعلى مستوى. يهرع المسؤولون والخبراء و العلماء والمخبرون والمستخبرون إلى تفكيك الرموز والإشارات الصوتية والضوئية.. يحارون، يستغربون، تتضارب تأويلاتهم وتفسيراتهم. يعجزون عن فهم الظاهرة، عن الإحاطة بتفاصيلها. يرفضون الاستسلام. يُستدْعَى الخبراء في اكتشاف الأسرار والألغاز على عجل. ينتدب الهدهد للقيام بالمهمة، يتلقى التعليمات، ينطلق بحثا عن النبإ اليقين. تتجمع خيوط الظلام، تنسج بساطا رماديا، يتراءى من بين مساحاته الضوئية الضيقة مشهدٌ عام.. سلسلة جبال شامخة، محيط ممتد في الأفق، صحاري شاسعة، بساتين، مروج، هضاب، وديان وتضاريس متنوعة. يقترب الهدهد، يحلق فوق مدينة مترامية الأطراف. يمسح عماراتها، أحياءها، طرقاتها، شوارعها الخالية إلا من بضع سيارات تسابق الزمن، تخرق قوانين السير، تتلاشى بين الأزقة. يحط الهدهد فوق أعلى عمارة، يثبت أجهزة التقاط الإشارات الصوتية والضوئية، يشغلها، تتلقى ذبذبات صوتية قادمة من كل الاتجاهات. يستجيب الهدهد بسرعة، يختار مصدرا وحيدا، يتسلل عبر الصوت الهادئ، يتمايل مع ترتيله النغمي، يخترق لحظات الصمت، يجد نفسه داخل غرفة في إحدى الدور العتيقة. يركز على مصدر الصوت، على جهاز تلفاز. صور متنوعة تصاحب الصوت الرخيم.. سماء، طيور، مياه، معمار، خطوط، مظاهر تعبدية متنوعة. يحس الهدهد بأن هذا الصوت والصور ذات تأثير إيجابي على المشاهدين الجالسين في الحقل المقابل. لم يكن يدري أنه يسمع الأذان، أنه في لحظة عبادة. يشعر الهدهد، القادم من حضارة بائدة، بأنه قريب من صور قديمة مختزنة في ذاكرته. يتراجع قليلا لتوسيع حقل المشاهدة. يجمع في لقطةٍ العناصرَ الثلاثة المكونة للمشهد: تلفاز مستمر البث / مائدة طعام / مجموعة أشخاص في حالة جمود ينظرون إلى التلفاز. يقترب في لقطة سائرة نحو مائدة ممتلئة عن آخرها.. أصناف عديدة من المأكولات، تجمع كل المتناقضات: خبز، عجين، حليب، زبدة، لحوم حمراء، بيضاء، أسماك، بيض. حلويات، فطائر، إبريق قهوة، إبريق شاي، جرة ماء، إناء حريرة، خضر ومرق. خليط هائل من البروتينات والنشويات والفيتامينات وأشياء أخرى. يقشعر جسد الهدهد، يمتعض، يشيح النظر نحو الجالسين في الجانب الأيسر من المائدة.. أربعة أشخاص بدون ملامح واضحة.. عيون منفتحة، وجوه شاحبة، تعكس ألوان وأضواء الشاشة المقابلة، أجساد متأهبة للانقضاض. يتوقف الأذان، تتلقى الأجساد إشارة الانطلاق، تمتد الأصابع نحو المائدة، في سرعة نفاثة، تنغرس في أصناف الأطعمة، تقبض بعنف على قطعة أكل، ترميها بسرعة في الأفواه. تبتلعها الأفواه بشره دون مضغ أو تلذذ. تعود الأيادي عجلى نحو الطعام. يرتفع الإيقاع. ترتفع حدة أصوات التلفاز، تتسابق الصور، تتلاحق في جنون. تتسمر العيون في الجهاز، تنفتح الآذان بحجم الأصوات المرسلة. تستمر الأفواه في الطحن.. لقمة تلو لقمة، جرعة بعد جرعة، لقطة تلو لقطة، ثانية بعد ثانية. شهيق وزفير، زفير وشهيق. يزداد الإيقاع توترا، تتقطع الأنفاس، يستمر القصف بدون هوادة. تنتفخ البطون، تتصبب الجباه عرقا. ينزعج الهدهد. يلتفت نحو التلفاز، يأخذ وجهة العيون المشرعة والآذان المسلطة، يشاهد، ينصت، ينزعج مجددا. يعجز عن ملاحقة الصور والأصوات المنسابة سيلا جارفا. نفس الركام المتناثر في المائدة.. وصلات إشهارية متدافعة بدون توقف، دكان افتراضي من المعروضات الاستهلاكية: أكل، سكن، اتصالات، إعلانات، موسيقى، أغان، رقص. نساء، أطفال، سيارات، مسابقات، كلام، ابتسامات، ضحك مفتعل، قصف صوتي بصري مسترسل. يجيل الهدهد النظر من جديد نحو المائدة.. صحون فارغة، فتات طعام، أنوية تمر، قشور بيض، أشواك سمك، أوان مبعثرة، مطرح مقرف للأزبال. يشمئز الهدهد، يرفع بصره نحو الأشخاص. جنود في نهاية معركة. أجسام منهكة، أفكاك متعبة، أفواه فاغرة، تنفس بطيء، آثار طعام، عرق، ضوء منعكس على الوجوه المعفرة؛ وجوه تنكمش وتنقبض، تجهم وتبتسم. عيون مفتوحة خافتة البريق. يستمر القصف التلفزي، تنقص حدة تواتر الوصلات الإشهارية، تتصاعد السيتكومات والإنتاجات والحكايات الهزلية المبكية. يكثر اللغط، تتصاعد البهرجة. تظل الأجساد قابعة في مكانها مسلوبة الإرادة، تبتلع الأصوات والصور في يقظة نائمة. تكتمل الصورة لدى الهدهد، يتراجع.. يتراجع. يأخذ اللقطة الأخيرة من المشهد التراجيدي. تتداعي في ذهنه الحالات والصور المشابهة.. يتذكر لوحة الغرنيكا، يستعرض صور الدمار، يستحضر نهايات المعارك، ينسحب. يجمع أجهزته، يحلق بعيدا، يحمل معه النبأ اليقين. يعقد المرصد السليماني جلسة استثنائية. ينصت إلى تقرير الهدهد. يزول الخوف والترقب. يسود الاطمئنان. لا خطر على الإطلاق. تنشرح الأسارير. تبدأ التحليلات. يقول الذي عنده علم من الكتاب: "لم يعد في الأمر ما يدعو إلى القلق والاستغراب. لم يكن سوى طقس من الطقوس الدينية لدى أتباع أحد الأديان التوحيدية. يصوم هؤلاء من الفجر إلى الغروب ثم يفطرون. وهذا يفسر ظاهرة الأنوار التي أضاءت ثم انطفأت في الهزيع الأخير من الليل، واعتبرنا الأمر تهديدا. في حين لم يكن سوى وجبة سحور استعدادا للصوم". يرتاح الجميع إلى هذا التفسير. تأخذ الجلسة منحى آخر. يوجهها أحد العارفين بخفايا وأسرار الأديان: "أعتقد أن لا علاقة للصوم بما رواه الهدهد. الصوم، في فلسفة وجوهر هذه الديانة، مجاهدة للنفس، تحكم في الشهوات، إرادة قوية في مقاومة الإغراء، في التغلب على الأهواء. ما يفعله هؤلاء القوم هو مجرد إعادة جدولة لأوقات الطعام. يقضون الليل آكلين. يصرفون النهار جائعين، ظانين أنهم صائمون". يبتسم الطبيب. ينظر إلى الظاهرة من منظور اختصاصه: "لا أتصور أن جسما سليما، طبيعيا، قادر على التهام كل تلك الأنواع من الأطعمة والأشربة، في وقت وجيز، دون أن يجعل جسده عرضة للأمراض الفتاكة والمشاكل الصحية الخطيرة. سلوك غذائي همجي. تهور وإسراف واستهلاك بليد". "أكثر من هذا، يقول الخبير الإعلامي، الخطر الأكبر يأتي من القصف التلفزي العنيف. من الإدمان اليومي للمشاهدة، من الربط بين ابتلاع المأكولات والتهام الصور والأصوات والتراهات والتفاهات، في حالة إغماء متواصلة، وفي إيقاع رهيب. تتقلص الأجسام، تنام العقول، تتبلد الأحاسيس، تُسخَّر الأذهان، تمرر السموم، تموت الروح. تتجذر ثقافة الاستهلاك." تتشعب التحاليل. تتناسل التنظيرات. تتعالى الضحكات، القهقهات، الأوصاف الساخرة، التعاليق السلبية. يرِقُّ الهدهد لحال الأجساد المسكينة، يجمع انطباعاته وأوراقه وأشرطته وأقراصه، يغادر القاعة وهو يعلم بأنه لم يأتِ.. بالنبإ اليقين.