لا شك في أن محمد مرسي لم يفهم ما قصده الرئيس الأمريكي باراك أوباما بقوله إن على مرسي أن يستكمل مع المعارضة مسلسل البناء الديمقراطي. وهو لم يفهم، على نحو خاص، عبارة أوباما التي تقول إن الديمقراطية ليست هي الانتخابات فقط. وليس من المستبعد أن يُعد رئيس أمريكا متحذلقا حين يقول ما يقوله، لأن مرسي يؤمن -مثلما يؤمن أهله وعشيرته- بأن الديمقراطية ليست شيئا آخر سوى صناديق الاقتراع، وهذه قالت كلمتها قبل عام، وكفى الله المؤمنين القتال، وكل جدل آخر في معنى الديمقراطية غير مشروع، ولعله مجرد غطاء لهدف سياسي آخر، قد يكون مؤامرة أمريكية كما يقول نائب المرشد خيرت الشاطر، أو انقلابا عسكريا كما يعتقد «الإخوان»، أو سعي المعارضة إلى «اغتصاب الشرعية» بتوسل «الفلول» و«البلطجية» كما يقول حلفاء «الإخوان». لسببٍ فيه من الوضوح ما يُغني عن التفسير، اختُزِلتْ الديمقراطية في الانتخابات، وعُدَّتْ هذه هي الشرعية الوحيدة، بل باتت عبارة الشرعية كلمة السر في خطاب الإخوان والجماعة الإسلامية وحلفائهما، حتى إن أي مطلب ديمقراطي يجاهر به المتظاهرون لا يعدو أن يكون عدوانا على الشرعية. ولسنا في حاجة إلى التذكير ببعض ما حصل من استبدال مفهومي لمعنى الشرعية عند «الإخوان» وحلفائهم، ومنه الانتقال من شرعية «ما أنْزَل الله» إلى شرعية ما قال الشعب، ولكننا في حاجة إلى التذكير بأن معنى الشرعية هذا جد فقير ومُبَسط ومبتَسَر، بحيث لا يؤخذ به حجة لأصحابه وحجة على خصومهم. وإذا صح أن الانتخابات وجه من وجوه الشرعية -وهو يصح- فإن اختزالها في الانتخابات لا يصح ولا يجوز، إلا إذا جاز القول إن الديمقراطية تنتهي بإدلاء الناخبين بأصواتهم! والقائلون بهذا ليسوا مخطئين فحسب، وإنما هُم -فوق هذا- وصوليون يتوسلون آليات الديمقراطية من أجل الانقضاض عليها! إن ما يُطلق عليه الشرعية، في النظام الديمقراطي، هو الإرادة العامة في فلسفة العقد الاجتماعي: إرادة الشعب. وهذه لا تبدأ وتنتهي في صناديق الاقتراع، ولا تَقبَل الاختزال في مجرد التصويت. إنها، أولا، ما يقع عليه الاتفاق والتعاقد بين قوى المجتمع قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع؛ وهي، ثانيا، منظومة الحريات والحقوق العامة التي يقوم عليها النظام الديمقراطي، والتي لا مشروعية لنقضها باسم الأغلبية؛ وهي، ثالثا، منظومة القوانين والضمانات الدستورية التي تحمي تلك الحقوق من غائلة الاستبداد الذي يمكن أن يُطل من وراء فكرة الأغلبية (ديكتاتورية الأغلبية كما سمّاها جون ستيوارت مِيل). وكل محاولة لابتذال معنى الشرعية وإرادة الشعب، عن طريق تقزيمها واختزالها، محاولة غير مشروعة في العقيدة الديمقراطية للدولة الحديثة، فالفارق كبير بين النظام الديمقراطي، مضمونا مجتمعيا وسياسيا، وبين الآليات الديمقراطية وسائلَ، ليس أكثر، لتحقيق ذلك النظام . بهذا المعنى ليست الشرعية أن يحترم الشعب السلطة المنتخبة، كما يقال اليوم في مصر بألسنة «الإخوان» و«التحالف الوطني لدعم الشرعية»، وإنما أن تحترم السلطة إرادة الشعب المعبر عنها في التظاهر السلمي بما هو حق من حقوق المواطنة والنظام الديمقراطي . كل مساس بهذا الحق، باسم الشرعية، عدوان على الشرعية . الشعب لا يقول كلمته مرة واحدة خلال ولاية رئاسية أو تشريعية. شعب كهذا ليس شعب مجتمع ديمقراطي . الشعب يقول كلمته في الشؤون العامة كل يوم أو كلما دعت الحاجة إلى حماية إرادته من الشطط، إذ المبدأ أن الشعب لا يعطي رخصة مفتوحة لحكامه الذين انتخبهم، وإنما يظل يمارس عليهم الاحتساب والرقابة، عبر المؤسسات التشريعية، وعبر النقابات والمنظمات الشعبية والمهنية، وعبر الصحافة والإعلام، كما من خلال التظاهر السلمي والعرائض، وصولا إلى ممارسة الحق المشروع في المطالبة بتنحّي رئيس الدولة أو الحكومة أو حل البرلمان. وماذا يفعل الشعب المصري، اليوم، غير ممارسة هذا الحق المقدس في النظام الديمقراطي؟ على نظام مصر أن يتعظ بدروس تجارب الديمقراطيات الحديثة في الغرب. إن رجلا كاريزميا بقامة الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول، لم تشفع له رمزيته البطولية لتحميه من غضب الشعب الفرنسي في انتفاضته الكبيرة (انتفاضة مايو 1968). وهو لم يستطع، بجلالة قدْرِه، أن يجادل الشعب في حقه في الثورة، كما لم يصف شبابه ب»البلطجية» والخارجين على القانون. وحين لم يحصل من الاستفتاء على ما أراد، انسحب بشرف وإباء يَليق بالكبار.