يستندُ الإسلام السياسي في منطقة الشرق الأوسط، في دينامية نموه، على رعاية رسمية من قبل أنظمة سياسية تقف وراء حالة التسونامي التي طرأت على حراكه في موسم الربيع العربي. الأمر ليس وليد تراكم إيديولوجي عقائدي، و ليس نتاج خبرة تنظيمية تاريخية، وليس استسلاما لمسلّمة تسليم العامة بالدين فقط، بل هو ثمرة كل ذلك، مُموّلا ومسلحا ومدعما من قبل إرادات في الرياضوالدوحةوطهران وأنقرة، مع التسليم بتفاوت مساهمات تلك العواصم في الكمّ والكيف، وتباين الأهداف والأساليب وفق أجندات ثابتة ومتحركة. وقفت السعودية وراء تيارات سلفية متنوعة راجت هنا وهناك، في اتساق مع جهود دولية، بُذلت في النصف الثاني من القرن الماضي لمكافحة الشيوعية في العالم (وصولا إلى المساهمة العلنية في دعم الإسلاميين الأفغان ضد الاحتلال السوفياتي). ولئن خرج تنظيم القاعدة من عباءة الورشة الجهادية في أفغانستان، فإن تنظيم بن لادن مثّل العوارض الجانبية التي واكبت «العلاج» الأفغاني، والذي انقلب على السعودية والغرب عامة بعد ذلك. ولا ريب أن الرياض أصيبت بحرج كبير جراء مشاركة 15 سعوديا في اعتداءات 11 شتنبر، بما عكس تناقضا ما بين التحالف التاريخي السعودي- الأمريكي، من جهة، وطبيعة مشاعر تيار سعودي إزاء الولاياتالمتحدة. على أن استهداف «القاعدة» للمملكة، معطوفا على العمل الدبلوماسي الدؤوب وجهود العلاقات العامة، أعاد تقديم السعودية كدولة مكافحة للإرهاب ومحبة للسلام (إطلاق العاهل السعودي لمؤتمرات دولية لحوار الأديان صبّت في هذا الجهد). مقابل ذلك، وبسبب توتر وتناقض العلاقة بين السعودية وقطر في السنوات التي تلت تولي حمد بن خليفة سدة الحكم في الدوحة، وبسبب أجندات قطرية خاصة (لا مجال لإثارتها)، عززت قطر من علاقاتها بالتيارات الإسلامية على نحو متقدم ومثير للجدل. وعملت الدوحة على رعاية تنظيم الإخوان المسلمين، فما تولّت قناة «الجزيرة» الترويج لل»إخوان» في مصر و«النهضة» في تونس و«حماس» في فلسطين و«الانقاذ» في الجزائر... إلخ (ناهيك عن اختصاصها في بث بيانات «القاعدة»). تختلف الآراء حول «السرّ» القطري ودوافعه.. هل هو بحث عن شرعية دينية إخوانية مقابل الوهابية السعودية؟ أم هو اعتماد قطري على حراك إسلامي معارض يوازن علاقاته بالغرب والولاياتالمتحدة (وحتى إسرائيل)؟ أم هو مراهنة على الحصان الإخواني لتولي حكم ما بعد الربيع العربي؟ أم تعهد قطري للعالم بتولي تدجين كل الحراك الإسلامي الذي يقضّ مضجع العالم؟ الأسئلة كثيرة، لكن لا شك أن الدور القطري شكّل رافعة أساسية وحيوية تفسّر صعود الإخوان اللافت وقفزه «البهلواني» نحو الحكم بشكل لا يتسقُ مع إيقاعاتهم الحقيقية. على أن النشاط السعودي-القطري جرى، في حقبة ما، على إيقاعات النشاط الإيراني في هذا الصدد. قدمت طهران ما بعد الثورة الإسلامية نفسها حجّة الإسلام السياسي ومحجته. وسّعت إيران علاقاتها بكل الحركات الإسلامية في المنطقة معتمدة على الطائفة الشيعية، متحالفة مع بعض الإسلام السياسي السنّي (الإخوان أساسا). أرادت طهران من خلال الشيعة حفر نفوذ حيوي في كل المنطقة من أفغانستان إلى اليمن، مرورا بالخليح، انتهاء بالعراق وسوريا ولبنان. وأرادت طهران، من خلال الإسلام السنّي، اختراق فضاءات جديدة وإرباك الكتلة المسلمة الغالبة، والتدليل في الوقت عينه على عدم طائفية مراميها. لكن تطورات الأمور في المنطقة منذ الغزو الأمريكي لأفغانستان، وبعد ذلك في العراق، مرورا بمفاعيل الربيع العربي، وصولا إلى موقف طهران من أزمتي البحرين وسوريا، حرم إيران من «سواعدها» السنّية، وحشر نشاطها السياسي الإسلامي لدى الشيعة فقط. على أن تجربة الإسلام السياسي التركي، منذ وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، دغدغت آمال الإسلاميين العرب، ولاسيما الإخوان منهم، في إمكانية تسويق الإسلام السياسي كنموذج حكم مقبول، داخليا ودوليا. وقد أفرج الربيع العربي عن خطط أردوغان وصحبه في تصدير النموذج التركي واستخدامه جسر عبور لنفوذ «العثمانية» الجديدة في المنطقة. صحيح أن أردوغان سعى إلى تسويق العلمانية التركية أيضا، لكن حالة الرفض التي قابل بها الإسلاميون في مصر وتونس دروسه في العلمانية، اضطرت أردوغان إلى التراجع والانكفاء، حتى في تركيا، نحو ثقافة الإسلام السياسي عند العرب، والذي مقت العلمانية وحاربها ولم يتخيّل التعايش مع احتمالها. منذ مقتل سفيرها في ليبيا، أفاقت الولاياتالمتحدة من وهم، وعادت إلى التنبه إلى الفيضان الإسلاموي الذي خلفه الربيع العربي. لا تهتم واشنطن كثيرا بالعبث الإيراني داخل الإسلام السياسي السنّي، وتعتبر أن إبحار الإيرانيين في المياه الشيعية فقط وتخبطهم في المستنقع السوري، أفقد طهران نفوذها السابق لدى الإخوان المسلمين. ولا تقلق واشنطن من النشاط السعودي في صفوف الإسلام السياسي السنّي، ذلك أن السعودية لم تكن مرتاحة للثورات التي اندلعت في المنطقة، بل واتُّهمت بالتحفظ (وأكثر من ذلك في الحالة المصرية)، كما لم تعمل السعودية على دعم إسلامييها للوصول إلى حكمٍ أو مناكفة حكم. تعتبر واشنطن أن الحالة الإسلامية الراهنة من المحيط إلى الخليج، سواء في طبعاتها الحاكمة أو تلك الجهادية المعارضة، تتغذى من سياسات تركيا وقطر. تنافست الدولتان وتكاملتا في عملية احتواء الإخوان المسلمين واستمالتهم، فيما اتُّهمت قطر، أكثر من ذلك، بدعم جماعات الجهاد، ولاسيما في المغرب العربي ومالي (لاحظ الاتهامات الفرنسية الواضحة في هذا الشأن). ولا شك أن مقاربة الحالة السورية كشفت خيارات البلدين لجهة الترويج للإخوان المسلمين في عمليات تأليف التشكيلات التمثيلية للثورة (المجلس الوطني، الائتلاف)، أو في حالات التسليح الميداني للإسلاميين في الداخل (أوغلو، وزير خارجية تركيا، رفض، في مؤتمر أصدقاء سورية في المغرب، وضع واشنطن لتنظيم النصرة على لائحة الإرهاب). تصادمت خيارات الدوحة وأنقرة الإسلاموية مع الخيارات الغربية المرتابة من دور الإسلاميين وغير المرتاحة لعملية تهميش منهجي للقوى المدنية والعلمانية.