خلال عودتنا، أول أمس الأحد، أنا ومرافقي عضو حركة "تمرد"، من ميدان التحرير إلى أحد مقاهي ميدان الجلاء بمنطقة "الدقي"، حيث ينتصب تمثال طه حسين مقابلا للنيل، سألته: ما سر علاقة المصريين بسيارات "الفياط" القديمة، التي لم يعد لبعض أنواعها وجود حتى في إيطاليا، الدولة المصنعة لهذا النوع من السيارات، فضحك حادسا مكرا، لم أقصده، في سؤالي. كانت سيارات "الفياط"، من كل الأنواع والأجيال والموديلات، تمرق أمامنا ومن خلفنا، تسعل دخانا قديما، ويسوقها أناس تمتزج فيهم المدينة والبادية بانسجام تام. ثورة "الفياط" حكى مرافقي، الذي درس في أمريكا قبل أن يعتزم العودة إلى مصر لإسقاط النظام، أن علاقة مصر ب"الفياط" تعود إلى سنة 1971 حين تعاقدت شركة "نصر" المصرية مع "فياط" الإيطالية على تأسيس فرع مصري للشركة الأم بغاية إنتاج "فياط 128"، السيارة التي كانت قد أحدثت سنة 1970 ثورة حقيقية في عالم السيارات حين نقلت، ولأول مرة، محرك السيارة من خلفها إلى مقدمتها، وهو ما أكسبها مساحة إضافية و"بريستيجا" غير مسبوق. كان صديقي مسترسلا في الحديث عن ملابسات ظهور السيارة الإيطالية في أرض الكنانة، عندما زاحمتنا "فياط 1100"، يقودها رجل معمم، بدا كما لو كان يريد الصعود إلى الطوار ليشرب "كوباية شاي" ويركن سيارته الصغيرة جنب ساقيه كجرو وديع. خاطبه مرافقي: "ما ترد بالك يا عم"، فلوح السائق بيده من النافذة ونفثت السيارة في وجهينا دخانها القاتم وغابت بين الزحام. أضاف مرافقي: "ظهرت "الفياط 128" في ظروف صعبة أعقبت هزيمة 1967، واحتلال شبه جزيرة سيناء من طرف إسرائيل، وما تلا ذلك من بداية الاندحار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في كل مصر". وأشار إلى أن "فياط" يتكدس داخلها ما يصعب إحصاؤه من "أنفس"، وقال: "لقد ارتبطت "الفياط" بهجوم الريف على الحواضر". ذكرت مرافقي بأن هذا التحول تعبر عنه بدقة بالغة رواية "عمارة يعقوبيان"، التي تختصر التحولات الاجتماعية والثقافية التي عرفتها المدينة المصرية في هذه الرواية التي تنطلق من العمارة، عمارة يعقوبيان، التي كانت تحفة معمارية جميلة تضم علية القوم من وزراء و"خواجات"، فأصبحت، مأوى اجتماعيا يزدحم سطحه بأنواع الفقراء والبؤساء. أما شقق العمارة فقد ورثها أبناء "البهوات"، الذين حافظوا على ثقافة بورجوازية ما لبث أن زاحمها الفقر والفوضى فأصبحوا شخصيات عُصابية معقدة تتهاوى كجدران العمارة. لاحظ مرافقي استرسالي في الحديث عن الرواية وشخوصها، فتدخل بحسم: أتعرف لماذا يحب المصريون الجيش أكثر من الشرطة؟ حركت رأسي نافيا، فقال: "لأن مؤسسة الجيش تمنح أفرادها سيارة "الفياط" التي ألفها المصريون وأصبحت جزءا من هويتهم، عكس الشرطة التي يسوق أفرادها، بعجرفة، سيارات فارهة". وأضاف "كما أن أفراد الجيش يقفون مع عامة المصريين عند محطات الحافلات و"الترام". ذكرت صديقي بأن عمال نقابة "الفياط" في إيطاليا كانوا قاب قوسين أو أدنى، خلال عشرينيات القرن الماضي، من القيام بثورة عمالية، بالتحالف مع الشيوعيين والمثقفين الثورين، لولا أن تدخلت عدد من القوى الخارجية كابحة لجام العمال الثوار. أجاب صديقي: "إذن لتكن ثورة "الفياط" المصرية تحالفا بين الشعب والجيش". قهقه صديقي وبدأ يتحدث عن نوع من السيارات الفرنسية، يستعملها الريفيون لقوتها وقدرتها على شق الطرق غير المعبدة، لولا أن قاطعه مراهق متشرد، طالبا منه سيجارة، فناوله إياها وقال: "شفت منصف". "ضحك ولعب وجد وحب" سألت مرافقي عن منصف الذي يتحدث المراهق المتشرد عنه، فقال إن الأمر يتعلق بحارس مرمى "الزمالك" والمنتخب المصري السابق، محمد عبد المنصف. "بسطاء المصريين يسعدون لرؤية المشاهير يقفون جنبهم في التظاهرات". أضاف صديقي "لقد كان منصف في "الميدان" مرفوقا بزوجته الممثلة لقاء الخميسي. كما أن الممثلة دنيا سمير غانم قطعت شهر عسلها ونزلت إلى الميدان لمساندة الثوار هي وزوجها وأختها إيمي". في ميدان التحرير بإمكان بسطاء المصريين أن يصافحوا الممثل العالمي خالد النبوي، والروائي الحاصل على جائزة "البوكر" بهاء طاهر، والمغني علي الحجار، ويسرى اللوزي، ومنى هلا، وزهير أمين، ومحمد سلماوي، وجمال بخيت، وسيد حجاب، وغادة عبد الرزاق، وأحمد حلمي، ومنى زكي، وخالد الصاوي، وفتحي عبد الوهاب... كانوا على مرمى عدسات المصورين، فيما "الغلابة" يلتقطون صورا معهم. "أهي فرصة يا اولاد مش حتتكرر" يقول أحد المصورين. في كل أنحاء ميدان التحرير هناك طبالون وزمارون، رقص وغناء. حتى الشعارات الثورية يحرك لها المصريون قدودهم وخواصرهم متمايلين نشوة بالثورة المتجددة "كل ثورة واحنا دايما فرحانين". المصريون يحتجون بالرقص والموسيقى، يلعنون "مرسي" و"المرشد" بالهتافات والزغاريد والصفير ونقر الطبول وإحداث الإيقاع بالأكف والأقدام وبالنكتة. أحس مرافقي المناضل في حركة "تمرد" التقاطي تفاصيل هذا "العرس" النضالي، فقال: "احنا المصريين دايما كذا"، ثم ردد أغنية عبد الحليم حافظ: "ضحك ولعب وجد وحب". "لو كان الحكام المستبدون عرفوا قيمة هذه "الثورات" في التنفيس على "الجماهير الشعبية"، نساء ورجالا، كبارا وعيالا، لحرصوا على تنظيم ثورتين في السنة. فحتى كرة القدم لا توفر هذا الزخم المتنوع من "عباد الله" الذين لا يحتاجون إلى تذكرة لدخول الميدان وإفراغ شحنات العنف والكبت"، قال لي زميل مغربي يشتغل مراسلا لإحدى الوكالات الإعلامية الدولية من القاهرة، التقيته في ميدان التحرير. تذكرنا عيد عرش الحسن الثاني، وكيف كان النساء والرجال والأطفال يخرجون "عن بكرة أبيهم"، بلغة مصطفى العلوي، للاحتفال والصراخ والسكر والعربدة واحتلال الفضاء العام، والتبول في الشوارع، والعبث بالمرافق.. وكانت الكلمة السحرية: "عاش الملك.. يحيا الملك" تحميهم من كل اعتقال أو متابعة. عندما رفع "الميدان" شعار: "احنا مش خرفان.. احنا مش قفة بِودان"، تذكرت أن مرسي كان يشار إليه على الجدران بالخروف. كما أن عددا من الصور التي يحملها المتظاهرون في ميدان التحرير، تظهر مرشد الإخوان المسلمين والرئيس مرسي، في صورة خراف. سألت أحد المتظاهرين عن معنى ذلك، فتنحى جانبا وطفق يشرح لي: "جماعة الإخوان المسلمين هي جماعة تأسست على الطاعة العمياء، وعقلية القطيع، لذلك كنا نسميها بجماعة "الخرفان المسلمين"، ومرسي هو كبير الخرفان". قال ذلك وعاد ينخرط في الحماس العام. خطوة إلى الوراء.. "فرحانين، فرحانين، فرحانين.. كل ثورة واحنا دايما فرحانين.. اللي ماتوا في المعارك فرحانين.. واللي حضَّر واللي شارك فرحانين.. واللي ساكنين ع المبادئ فرحانين.. واللي شايلين شوق لفكره فرحانين.. واللي حاملين هم بكره فرحانين.. واللي معدتهم جيعانة فرحانين.. واللي كلمتهم أمانة فرحانين... كل ثورة واحنا دايما فرحانين".. عندما كان "ثوار" ميدان التحرير، أول أمس الأحد، يرددون ويرقصون على أغنية الشيخ إمام هاته، التي كتبها أحمد فؤاد نجم في سياق سابق، كان المنظرون يناقشون في الجرائد والمنتديات والبرامج: "هل ما يحدث في مصر ثورة أو انقلاب؟ وهل ما حدث يوم 25 يناير 2011 في مصر، وما حدث قبله في تونس ثم في ليبيا واليمن، ويحدث الآن في سوريا.. ثورات، أم تغيير استبداد بآخر؟ وعادة ما كان المثقفون يقارنون بين "الثورات" العربية، التي قلبت أنظمة وجاءت بأخرى، وعدد من الثورات الغربية، وعلى رأسها ثورة الشباب في فرنسا، في ماي 1968، التي لم تقلب نظام دوغول، ولكنها قلبت نمط التفكير والتنظيم، الحزبي والنقابي، في فرنسا، ورفعت شعارات من قبيل: "عمرك 18 سنة ونقابتك تنتمي إلى القرن الماضي!" في ميدان التحرير لا شيء كان يعلو على صور عبد الفتاح السيسي، القائد العام للقوات المسلحة المصرية، ونفس الشيء بالنسبة للألسن التي لم تتوقف عن ترديد "أنا بقول للسيسي.. مرسي مش رئيسي". وبالإضافة إلى صور السيسي كانت ترفع صور جمال عبد الناصر، بل حتى صور أنور السادات، نكاية في الإسلاميين، الذين تورط جزء منهم في مقتله، بل إن شباب ميدان التحرير لم يتذكروا إلا الآن أن "عبد الناصر قالها زمان: الإخوان مالهومشي أمان"، هكذا كانوا يرددون بحماس غنائي! هل ما يحدث في مصر من نوسطالجيا "عسكراتية" مجرد "خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام" كما كان اليساريون يرددون؟ أم أن الشعوب العربية تمكث دائما في الماضي تمجده وتحن إليه وتقارن استبداده بالاستبداد الراهن.. وسرعان ما تسقط في نوع من الثنائية المانوية، التبريرية: "الملك فاروق بنى مصر وعندما طلب منه الضباط الأحرار أن يتنازل عن الحكم سنة 1952، فعل ذلك دون مقاومة. جمال عبد الناصر كان يسكن في فيلا بسيطة وبعد هزيمة 1967 استقال من تلقاء نفسه لولا أن أعاده الشعب للحكم. أنور السادات أراد أن يشرك الإسلاميين الذين سجنهم عبد الناصر وأقصاهم من الحياة العامة، فقتلوه. حسني مبارك كان لصا.. بس كان معيشنا". في ميدان التحرير، ووسط الضجيج، سألت سيدة ستينية من حزب "التجمع"، الذي أسسه الدكتور البرادعي، وكان برفقتها شاب من حركة "تمرد": هل يمكن لهذه "الثورة" الثانية التي خرجت غالبية الشعب المصري تندد فيها بحكم "مرشد الإخوان المسلمين"، كما قيل، أن تحدث رجة ثقافية واجتماعية ليبرالية داخل المجتمع المصري، أم أن الأمر يتعلق باحتجاجات شباب وأناس بسطاء على سوء التدبير التقني لحكومة مرسي، اعترف هو نفسه بها؟ مططت السيدة شفتيها تاركة السؤال معلقا، فيما بادر الشاب "المتمرد" بالجواب: "من الصعب حدوث ذلك بهذه السرعة". فهل تبقى ثوراتنا العربية، إذن، مجرد ردود أفعال انفعالية، تسقط حاكما وتحن إلى الذي كان قبله. تحرق المباني، تعبث بالمرافق العامة وتزهق الأرواح... تخطو خطوة إلى الوراء وتمكث فيها؟