المشكلة الكبرى التي تواجه حماس في مسيرتها السياسية أنها رغم كونها طورت افكارها واصبحت اكثر التصاقا بالعمل الوطني، فلم تتخلص بعد من إطار وثقافة «الفصيل» أدري أن الحديث عن «حماس» هذه الأيام، إذا لم يكن مسبة واتهامًا، فإنه قد يصبح في مصر على الأقل وقوعًا في المحظور، واعترافًا بالتخابر مع «محور الشر» العربي، لكن أما وقد أصبحت أحد عناوين المرحلة، فلا بأس من المغامرة بالخوض في الموضوع لتحرير الالتباس فيه. أغلب الظن أن كثيرين لا يذكرون أنني كنت أول من اشتبك مع برنامج حماس حين أعلن في شهر غشت عام 1988، بعد ثمانية أشهر من انطلاق انتفاضة الحجارة.. وقتذاك نشرت لي «الأهرام» في 1 11 88 مقالا كان عنوانه: «فلسطين المحررة قبل فلسطين الإسلامية». وهو المقال الذي لم يرحب به آنذاك بعض الناشطين الإسلاميين في الأردن، الذين نشرت الصحف لهم تعليقات وردوداً على الفكرة التي دعا إليها، ولخصها عنوانه. ذلك أنني انتقدت الخطاب الدعوي في البرنامج المعلن، الذي اعتبر فلسطين وقفا إسلاميا يتعين الدفاع عنه لاستعادة الهوية الإسلامية للبلد، التي طمسها الاحتلال الإسرائيلي. كنت أعلم بأن حماس لها جذورها الإخوانية التي تمتد إلى منتصف الثلاثينيات (في القرن الماضي بطبيعة الحال)، وأن البناء التنظيمي للحركة ظهر في عام 1946، واشتد عوده بعد مشاركة حركة الإخوان في حرب عام 1948، وخلال الفترة منذ عام 48 إلى عام 67 الذي تم فيه احتلال إسرائيل لما تبقى من ارض فلسطين، ظل جهد الإخوان محصورا في الدعوة والتربية. وحين أدى الاحتلال إلى قطع صلاتهم بالإخوان في مصر، فإنهم أسسوا في عام 1973 ما سمي «المجمع الإسلامي»، الذي ظل ملتزماً بنهج التربية والدعوة، الأمر الذي كان محل انتقاد من جانب الرموز الفتحاوية. وانصب النقد وقتذاك على عزوف عناصر المجمع عن المشاركة في مواجهة الاحتلال بدعوى انتظار الوقت المناسب، رغم سعة انتشارهم في القطاع. ولكن هذا الوضع بدأ في التغير ابتداء من عام 1980، الذي خرجت فيه تلك العناصر إلى الشارع، حتى كانت انتفاضة عام 1987 التي ألقى الناشطون الإسلاميون بثقلهم فيها. ومن رحمها خرجت حركتا حماس والجهاد الإسلامي، لتنخرط بقوة في الحركة الوطنية الفلسطينية. خلاصة وجهة النظر التي عبر عنها المقال الذي نشر قبل عشرين عاماً أنه في العمل السياسي والنضالي بوجه أخص يتعين الانطلاق من الفريق وليس الفصيل. وأن القوى الوطنية يجب أن تحتشد لتحقيق الأهداف العليا حسب أولوياتها - التحرير في الحالة الفلسطينية - بصرف النظر عن توجهاتها الفكرية. بالتالي فإن الحديث عن فلسطين الإسلامية في بلد يرزح تحت الاحتلال يعد استباقا غير مبرر، فضلا عن أنه قد يثير خلافا يشتت الجهد بما قد يصرف الناس عن هدف المرحلة المتمثل في التحرير، حيث المطلب الملح هو حشد الجهود وليس بعثرتها. منذ برز دور التيارات الإسلامية في انتفاضة عام 1987، بدا أن هناك متغيرا جديدا في الساحة الفلسطينية يمكن أن ينافس حضور «فتح» وهيمنتها. وثمة إجماع بين المحللين على أن هذا المتغير كان له دوره في الإسراع بإجراء مفاوضات أوسلو التي انتهت بتوقيع الاتفاق الذي تم في البيت الأبيض وحضره كل من ياسر عرفات وإسحاق رابين في سبتمبر من عام 1993 ورعاه الرئيس كلينتون. ونقل عن أحد القادة الإسرائيليين آنذاك أنهم حين وجدوا أنفسهم مخيرين بين التعامل مع أبو عمار أو مع حماس فإنهم فضلوا الأول باعتباره «أهون الشرين». بمقتضى الاتفاق تم إنشاء السلطة الفلسطينية وعاد ياسر عرفات إلى غزة في عام 1994حيث انتخب رئيسا للسلطة وتمكنت فتح منذ ذلك الحين لا من أن تهيمن على الفضاء السياسي الفلسطيني فقط وإنما على جزء من الأرض الفلسطينية أيضًا.. الذي لا يقل أهمية عن ذلك أن الاتفاق كان بداية لانخراط قيادة فتح في التسوية السياسية في الوقت الذي اختارت فيه حماس وحركة الجهاد الإسلامي نهجًا آخر انحاز إلى خط المقاومة. ولأن الاحتلال كان لا يزال قائما، فإن حماس والجهاد بموقفهما المقاوم بدآ في كسب الشارع الفلسطيني وتعاظم ذلك الكسب بمضي الوقت بفعل عدة عوامل منها استمرار تحديها للعدو الإسرائيلي بعمليات تمت داخل إسرائيل ذاتها، وشعور الفلسطينيين بالإحباط حين أدركوا أنهم لم يجنوا شيئا من اتفاقيات أوسلو، وفشل المحادثات التي أجراها في كامب ديفيد عام 2000 الرئيس الفلسطيني مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك بحضور الرئيس كلينتون. وهي الخلفية التي فجرت انتفاضة عام 2000 التي اشترك فيها مختلف الفصائل الفلسطينية وانتهى المشهد بعيد ذلك بحصار الرئيس عرفات في رام الله، وتسميمه هناك ثم وفاته في عام 2004. بعد التخلص من أبو عمار انتخب السيد محمود عباس رئيسا للسلطة، وهو الذي كان معروفا برفضه للمقاومة حتى قال لصديق أعرفه: إنني ضد المقاومة حتى بالحجارة (كما حدث في انتفاضة عام )87 ووصف إحدى العمليات الاستشهادية بأنها «حقيرة». وهي خلفية تسلط الضوء سواء على موقف القطيعة والمخاصمة الذي تبناه إزاء حماس والجهاد، كما تسهم في تفسير تراجع شعبية السلطة التي يقودها في أوساط الرأي العام الفلسطيني. لذلك فإن فوز حركة حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي في انتخابات عام 2006 بدا أمرًا مفهومًا (حصلت على 74 من 132 مقعدًا بالمجلس التشريعي) وهذا الفوز نقل التنافس بين أبو مازن وجماعة السلطة المحيطين به وبين حكومة حماس إلى مستوى الصراع. خصوصًا أن السلطة كانت ماضية في مسلسل التسوية السياسية إلى حد كان مثيرًا لقلق قوى المقاومة وحماس في المقدمة منها. ولكي تمضي عجلة التسوية كما كان مخططًا ومرسومًا، كان لا مفر من إزالة عقبة حماس وما تمثله، وبات معروفا الآن ما كان للأمريكيين من دور في محاولة إقصاء حماس وحكومتها وإخراجها من المسرح السياسي. وهي المحاولة التي أجهضتها حكومة حماس باستعادتها زمام الأمور ومن ثم سيطرتها على القطاع في صيف عام 2007، الأمر الذي شكل تحديًا آخر لها هناك. حينما استقر الأمر لسلطة حماس في القطاع أصبح لها أربعة أوجه: الأول: أنها بحكم الأصل حركة إسلامية تشكل فرعا لجماعة الإخوان المسلمين. الثاني: أنها حركة مقاومة تعد جزءا من النضال الوطني الفلسطيني. الثالث: أنها فصيل يمثل أغلبية في المجلس التشريعي. الوجه الرابع: أنها سلطة مسؤولة عن إدارة القطاع يفترض أن ينضوي تحت مظلتها مختلف شرائح وقوى المجتمع هناك. الأطراف المعنية بالشأن الفلسطيني تعاملت مع حماس في القطاع من الزاوية التي لاءمت سياساتها ومواقفها. فمصر اعتبرت حماس جزءا من «الجماعة المحظورة» وخاصمتها لهذا السبب. كما رفضت منها فكرة المقاومة انطلاقا من كونها ترتبط بمعاهدة «سلام» مع إسرائيل. وأبو مازن وجماعته خاصموها لأنهم ضد المقاومة ولأنهم هزموهم في الانتخابات التشريعية. إسرائيل ومعها الولاياتالمتحدة والمجموعة الأوروبية الذين خاصموها لأنها حركة مقاومة. أما سوريا فقد أيدت حماس لأنها حركة مقاومة بالدرجة الأولى - إيران ساندتها لأنها مقاومة ولأنها حركة إسلامية.. أما تركيا فإنها تعاملت مع حماس باعتبار أنها فصيل حاصل على الأغلبية في المجلس التشريعي، حتى إن رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان أبدى دهشته أكثر من مرة لمقاطعتها رغم فوزها بالأغلبية في انتخابات حرة. (للعلم: نفس الموقف عبر عنه جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في حوار أجرته معه مجلة نيوز ويك عدد 27 يناير الماضي). اللافت للنظر في هذا السياق أن مساندة سوريا وإيران لحركة حماس أصبحت تهمة تجرح بسببها، في حين أن الطرف الآخر المخاصم لها مؤيد من قبل الولاياتالمتحدة وإسرائيل والرباعية الدولية. وبالمناسبة فإن أبواق حملة التعبئة المضادة على الصعيدين الإعلامي والسياسي درجت على القول بأن حماس تنفذ «أجندة» إقليمية (غمزًا في إيران)، وهو ما نفاه المقال الافتتاحي لمجلة نيوزويك (في 14 الشهر الماضي) حيث قال رئيس تحرير المجلة فريد زكريا إن حماس ليست صنيعة لإيران. والذين يروجون لذلك الادعاء لا يعرفون أن بين حماس وإيران نقاط اتفاق وأخرى للاختلاف، وأنهم شأنهم في ذلك شأن أي حلفاء، على اتفاق في بعض الأهداف المرحلية دون الأهداف النهائية، وللعلم فإن «الأجندة» الأخرى المقابلة التي نرى آثارها على الأرض ليست مما يطمأن إليه. على الأقل فالأجندة الأولى إن وجدت فهي ظنية بالأساس، أما الثانية فهي قطعية ولا مجال للشك فيها، وما حدث في التعامل مع العدوان الإسرائيلي الأخير في غزة خير شاهد على ذلك. المشكلة الكبرى التي تواجه حماس في مسيرتها السياسية أنها رغم أنها طورت أفكارها وأصبحت أكثر التصاقا بالعمل الوطني فلم تتخلص بعد من إطار وثقافة «الفصيل». لذلك فإنها لم تنجح في تحالفاتها مع القوى الوطنية الفلسطينية لتتبنى مشروع الدولة. وهو داء أصاب الكثير من الحركات ذات الأصول الإسلامية. صحيح أن هناك أطرافا يهمها إفشال مثل هذه التحالفات، إلا أن الساحة الفلسطينية أصبحت لا تحتمل استمرار انفراط عقد الصف الوطني، علمًا بأن المجلس الوطني الفلسطيني لم ينعقد منذ 20 عاما منذ التأم آخر اجتماع له في الجزائر عام 1988.