قد يبدو العنوان غريبا، فإذا أصبح المشروع الإسلامي مشروع سلطة فهو اليوم في قمّة النجاح؛ أما إذا كان مشروع نهضة وإصلاح، كما بدأ وكما ينبغي أن يعود، فهو في مأزق تاريخي لم تزده السلطة إلا تعقيدا، ولا مفرّ من صياغة جديدة للمشروع وتأسيس جديد للحركة. طبعا، الحديث هنا عن اجتهادات وجهود بشرية، فالإسلام قادر دوما على استنهاض الشعوب وإصلاح أوضاعهم، وقد غيّر وجه الأرض ومجرى التاريخ في بضعة عقود وفي أسوأ الظروف، فما أبقى عذرا لأحد. ولأن مرجعية المشروع الإسلام وغايته الإصلاح فهو ملك للجميع وينبغي أن يتسع للجميع، ولا ينبغي أن يُختزل في حزب أو يقتصر على فئة بعينها، وإذا أصبح عامل تفرقة ولم يحقق مقاصده، فذلك مؤشر على جمود وانغلاق وانحراف وإخفاق في صياغته صياغة وطنية مدنية إنسانية جاذبة، فهو بحاجة مستمرة إلى تطوير وتجديد وتقييم وتعديل كي يظل مواكبا للعصر، وإلا احتاج إلى صياغة جديدة. واضح أن المشروع الإسلامي قد تآكل وتجمّد وأنهكته عقود الصدام والتهميش والاستنزاف، وأصيب بعدد من التشوّهات لعل أخطرها تدحرجه منذ أمد ليس بالقصير من مشروع نهضة وإصلاح محوره الإنسان إلى مشروع سلطة محوره التنظيم، فلا يوجد عمل فكري ولا رؤية واضحة ولا تخطيط استراتيجي ولا تنمية بشرية ولا تقويم. ذلك ما كشفه الربيع العربي الذي وضع الحركة الإسلامية على المحك وتحت المجهر، ومثل لها أكبر اختبار وأكبر فرصة لتترجم مبادئها وشعاراتها إلى واقع ملموس. ولكن البداية الخاطئة والأداء المرتبك والضعيف كشفا أن الحركة -على وضعها الحالي- تفتقر إلى القدرة -وربما الإرادة- لتكون قاطرة النهضة العربية. كان الأمل أن تتبنى الحركة مقاربة وطنية وتراهن على الشعب لا على السلطة، وتعتمد على أطروحاتها ثم إنجازاتها لا على تنظيمها، وتغلِّب المصلحة الوطنية وتزهد في المكاسب الآنية، وتحافظ على الوحدة الوطنية وتتعاطى مع الشعب بشفافية، فتتعزز مصداقيتها وتلتحم به وتقوده في مواجهة الأجندات الإقليمية والدولية لإخراج البلاد من التخلف والتبعية، وبالتوازي تعمل على تجديد هيكليتها وإحياء مشروعها والعودة به إلى الأصل بعدما أزيحت العقبة من طريقه. لم يكن ذلك الأمل واقعيا، وسارت الحركة في الاتجاه المعاكس بعدما أخطأت في قراءة الحدث (الذي أنقذها من مأزق)، فاعتبرته تتويجا لمسيرة ناجحة وبداية لموسم الحصاد، وهي قراءة تحول دون تقييم المسيرة وتصحيح المسار، ودون التخطيط والإعداد للمستقبل. افتقرت الحركة إلى رؤية واستراتيجية واضحة ومشتركة تحتكم إليهما، وفاجأت المتابعين ليس فقط بنقص الخبرة والكوادر، ولكن بمواقف وقرارات وخطوات فيها من التذبذب والارتباك والتناقض ما لا يكاد ينتظمه سوى التشبث بالحكم، وانعكس ذلك في تصريحات لا تخفى فيها النشوة. وتصرفت الحركة كأنها أنجزت المطلوب، وكأنها لم تقم من أجل أهداف أكبر وأسمى من أن تحكم وتبقى في الحكم، وكأنها جاءت إلى الحكم بانقلاب لا بالانتخابات، وكأن الثورة ما قامت إلا لتغيير الوجوه وتمكين الحركة. رفع الربيع العربي عن الحركة الاضطهاد والمظلومية وأخرجها من السرية، وأعلنت تخليها عن فكرة الدولة أو الخلافة الإسلامية، فضعُفت بعض المرتكزات والعناصر الموحّدة للصف والتي حلّ محلها الوصول إلى السلطة والبقاء فيها والخوف من فقدانها ومن العودة إلى السجون والمنافي، فأصبح المشروع مشروع سلطة بامتياز، وأصبحت الحركة فريسة سهلة للابتزاز، خاصة بعدما تمزق الصف الوطني وتبخر الزخم الثوري وغرقت الحركة في تصريف الأعمال وحمّلت نفسها التركة الثقيلة وكبّلت نفسها بوعود غير واقعية. كل ذلك خفض سقف الثورة وأضعف موقف النظام الجديد في التعاطي مع الأطراف الإقليمية والدولية، واضطره إلى تنازلات وصفقات لا تخطئها العين، ثم استُدرِج إلى سياسة المحاور (التي وقعت فيها منظمة التحرير الفسلطينية وأضرت بالمنظمة وبالقضية)، واستنزفت الطاقات في صراع بائس (بين الأحزاب وداخلها) بين من يتلهف على السلطة ومن يخشى فقدانها، وهو صراع عضلات وماكينات انتخابية لا صراع أطروحات وإنجازات ومؤهلات. وفي النهاية وجد النظام الجديد نفسه ينفّذ أجندات إقليمية ودولية كان يفترض أن يتصدى لها مسنودا بشعبه، فكانت الاستمرارية الكاملة والمحيّرة في السياسات الاقتصادية والخارجية، مما جعله يكابد ليثبت اختلافه عن الأنظمة المخلوعة. فجأة، أصبح السقف عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الثورة، وأصبح يُستكثر على الشعب أن يطالب بأكثر من الحرية التي يُمنّ بها عليه رغم أنه انتزعها بنفسه، واعتُمد الولاء والترضيات والمحاصصة بدل الكفاءة في التعيينات، ثم كان التخبّط والسطحية في التعاطي مع بعض الملفات الحساسة، مما أضر كثيرا بمصداقية الحركة وتميّزها ورصيدها وبالثورة التي كانت بحاجة إلى تيار وطني جامع يقودها كما قادت الحركات الوطنية معركة التحرر والاستقلال. فالمعارك والتحولات الكبرى لا يقدر عليها إلا شعب معبأ وموحّد حول قضية وطنية جامعة ومحفّزة وقيادة وطنية عابرة للطوائف والأحزاب والإيديولوجيات والفئات. والحركة الإسلامية كانت مرشّحة أكثر من غيرها لتكون نواة ذلك التيار، لولا ما أصاب بنيتها ومشروعها من أضرار. المقاربة الحزبية التي اعتمدتها الحركة وجعلتها تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، كانت أكثر اتساقا مع مسيرتها منذ ربطت مشروعها بالحكم وراهنت عليه لإصلاح المجتمع بديلا عن منهجها الأصلي في الإصلاح التراكمي. هذه المراهنة التي طغت على التاريخ السياسي العربي في بنيتها خلل يجعلها لا تستقيم ومحكومة بالفشل، مثلها مثل وهْم المستبِد العادل، ذلك أن الصراعَ على الحكم واحتكاره صراعٌ وجودي مزمن ومدمّر يتمخض عن حلقة مفرغة من الانقلابات والمواجهات، والسلطة لا يمكن أن تتحول إلى وسيلة للنهوض بعد أن تصبح غاية. ولأن المواطن محور النهضة وصانعها فلا يمكن أن تتحقق بتهميشه من قبل جهات تنصّب نفسها نائبا عنه ووصيّا عليه، فضلا عن أن تجعله وقودا لصراعاتها. والحرص على السلطة -والخوف من فقدانها- لا يبني نهضة، بل يؤسس للدكتاتورية. لم يكن تحوّل الحركة عن المشروع الأصلي والمقاربة الأصلية طارئا ولا خفيا، فمنذ أمد بعيد بل ومنذ النشأة والحركة تعاني من نقص شديد في الجانب الفكري والاستراتيجي، ونادرا ما أخضعت مشروعها للمراجعة وقياداتها للمحاسبة وأداءها للتقويم، حيث طغى البعد الحركي والتنظيمي. خطورة هذا الوضع أنه يشكل وصفة مثالية للجمود والمراوحة وحلقة مفرغة بين المراهنة على السلطة ومن ثم الاعتماد على التنظيم وعلى عامل الدين (مما يضمن أسبقية حاسمة على الخصوم والأغلبية في الانتخابات) والجمود الفكري والاستراتيجي وانتفاء الحاجة إلى المراجعات والتقويم أو تطوير الأداء أو تعديل المسار (خاصة أن تلك الخطوات قد تهدد وحدة التنظيم وتكلف بعض المكاسب الآنية)، وانتفاء الحاجة لدى الأعضاء إلى التطور والتميز وإثبات أنفسهم في المجتمع، فكان أن أضر الرهان على السلطة والتنظيم والجمع بين الدعوة والسياسة بالدعوة وبالسياسة والمشروع والأعضاء والبلاد. لقد أصاب الإمام البنّا كثيرا في التشخيص والعلاج وبلور مشروعا إسلاميا وطنيا للإصلاح التراكمي المتدرج محوره الإنسان، وبدايته ثورة في العقول والنفوس من خلال عمل سلمي علني قانوني وتنظيم مفتوح ومرن ما فتئ حضوره وتأثيره يتعاظمان، خاصة في حياة المؤسس الذي تميز بصدق الخطاب وبساطته، وقوة البعد الروحي والوطني والإنساني. لكن المشروع لم يتبلور ولم يتطور فكريا واستراتيجيا ومؤسسيا بما يتناسب مع التضخم السريع للتنظيم الذي لفت الأنظار ورفع مستوى التحديات، فانكشف الخلل، وكانت مسألة التنظيم الخاص والانفلات التنظيمي والاغتيالات والصدام المزمن مع النظام بلا أفق والانغلاق التنظيمي والسرية وتداعياتها الكارثية على النفوس والأخلاق، ثم كانت ظاهرة سيد قطب الذي كان له فكر عميق ومتسق وواضح، ولكنه مخالف ويكاد يناقض فكر الإمام البنّا، إذ لا يرى فائدة في أي إصلاح في ظل حكم جاهلي. كما تضرّر المشروع من مفهوم الشمول (الذي ترجم خطأ إلى تنظيم مركزي يشرف على كل المجالات) ومفهوم العالمية (الذي أضعف الحس الوطني لحساب الولاء للجماعة المحلية والعالمية). وحاولت الجماعة الجمع بين المنهجين المتناقضين فوقعت في مأزق تاريخي صبغ مسارها، حيث جنّدت خليطا من الأعضاء يحملون قناعات متباينة، وظلت تتأرجح بين المسارين (الإصلاح التراكمي والتغيير الفوقي) ووقعت في الازدواجية، وينطبق ذلك على جل الحركات التي استنسخت التجربة، باستثناء الحالات التي حسمت التناقض مبكرا (كتيار التوحيد والإصلاح المغربي). أصبح في الأساس الفكري للجماعة ضعف وتناقض، وبالتالي أصبح المشروع عصيّا على أي بلورة وتطوير، فذلك أمر غير مطلوب لأن الإصلاح أصبح مؤجّلا، وغير مرغوب لأنه يهدّد تماسك التنظيم الذي أصبحت الجماعة تعتمد عليه كليا، وجل ما أنتجته الجماعة من أدبيات يُصنف ضمن فقه الدعوة ويطغى عليه الطابع الحركي والتنظيمي، كما تطغى على الأعضاء الأنشطة والإداريات، وأصبح النجاح يقاس بكثرة الأعداد والمناشط وليس بالمساهمة في النهوض بالوطن وأمنه وازدهاره، وأصبح التركيز على تجنيد الأعضاء وصهرهم في التنظيم وليس تكوينهم ليكونوا رساليين وطنيين وقادة مجتمع، وكل ذلك أضعف في المشروع البعد الفكري والاستراتيجي، وأضعف لدى الأعضاء الحس الرسالي والوطني، وأصبح التنظيم أشبه شيء بالطائفة أو القبيلة. لم تخلُ مسيرة الحركة من الاجتهاد والتجديد، خاصة في ما يتعلق بالمشاركة السياسية والمواءمة بين الإسلام والديمقراطية، خاصة بعدما تبينت استحالة استنساخ التجربة الإيرانية في التغيير، وتبين أن العمل التنظيمي والحركي لا يوصل إلى الحكم، ولكن تلك الاجتهادات لم تخرج المشروع من مأزقه التاريخي، وطغى عليها الارتجال والتكيّف مع الواقع والترقيع، وناقضها العمل كما حصل في حالة السودان وغيرها. بقدر ما نجحت الحركة في إحياء الدين وتجديده ومصالحته مع العصر ونشر التدين، أخفقت في السياسة والجمع بينها وبين الدعوة، وفي توظيف النجاحات والإمكانات في النهوض بالشعب والوطن. ظلت تخوض معركة الهوية بعدما حسمتها، وأبطأ بها الضعف والتناقض في الأساس الفكري وغياب رؤية واستراتيجية واضحة ومشتركة، وأضرت بمشروعها الأصلي المراهنة على السلطة، وهو مسار لا يحتاج إلا إلى توسيع التنظيم وإحكامه والتغلغل في مؤسسات الدولة والمجتمع. وفّر الربيع العربي للحركة الإسلامية أعظم فرصة لإحياء مشروعها الأصلي للنهضة والإصلاح وصياغته صياغة وطنية، بحيث يلتف حوله وحول الحركة الشعب وسائر القوى الوطنية، ولكن التعاطي مع هذه الفرصة يوشك أن يحوّلها إلى أكبر محنة واجهتها الحركة في تاريخها، وأن يحوّل السلطة (الانتقالية) إلى محرقة وورطة للمشروع الإسلامي الذي أصبح مهددا بالفشل. ودون تصحيح جذري للمسار ومراجعة عميقة للمسيرة وصياغة جديدة للمشروع، لا يصلح المسار الحالي إلا للتمدّد الأفقي وتصريف الأعمال، ونهايته إعادة إنتاج للمنظومة التي أسقطتها الثورة (ربما مع فساد أقل وهامش من الحرية أكبر)، لأنه ذات المسار الذي سارت عليه الأحزاب التي حكمت بعد الاستقلال شبرا بشبر وذراعا بذراع. وأول المؤشرات على ذلك التشبث بالسلطة والاستمرارية في السياسات. وإذا استمرت حالة النشوة والمكابرة والصراع العبثي فإن هذا الجيل، الذي اختار أن يجني ثمرة نضالاته دون أن يزرع ويخطط للمستقبل، سيترك لمن بعده تركة ثقيلة ومكاسب قليلة، وستستمر الشعوب في دفع أثمان باهظة بسبب هوس نخبها بالسلطة، إلا أن تنكسر الحلقة المفرغة التي تدور فيها البلاد العربية والحركة الإسلامية، وما ذلك بعزيز.