سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
المديني: تماسيح وعفاريت بنكيران هي نفسها «جيوب مقاومة» حكومة اليوسفي الكاتب المغربي يحمل الجهات الرسمية مسؤولية تدني الحياة الثقافية في البلاد ويدافع عن النخب
- يحتفل بك موسم أصيلة هذا العام، ويخصص لك لقاء مفردا للحديث عن تجربتك يشارك فيه نقاد من المغرب والوطن العربي، و أنت صاحب المعارك والسجالات الثقافية على مدار أكثر من أربعة عقود. لو سألتك عن أهم المحطات المؤثرة في حياتك، كاتبا وإنسانا ومبدعا ملتزما، كيف ستقدمها للقراء؟ المحطة الأولى في بداية توجهي الثقافي هي انحرافي إلى الأدب في نهاية دراستي بكلية ظهر المهراز في فاس، وقد لمس أساتذتي في ذلك الوقت تفوقي، وهذه النزوة الأدبية، فكلفت في إطار أنشطة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بتقديم أعمال أدبية لشعراء، منهم مثلا، محمد بندفعة، ومحمد عنيبة الحمري، وأنا ما زلت طالبا. الفترة الثانية الأساسية التي خضت فيها أول مغامرة لي، هي ارتباطي بمجلة «أنفاس» الأدبية، التي كان يحركها مجموعة من الأدباء والتشكيليين، ويديرها الشاعر عبد اللطيف اللعبي، فانخرطت في هذه المجموعة التي كانت كلها مفرنسة، أو ذات ثقافة فرنسية، وكنت الوحيد مع بنسالم حميش المعربين. - هل كنت عضوا في هيئة التحرير أو مجرد متعاون؟ لا، كنت في هيئة التحرير، وأصدرنا العدد الأول الخاص بفلسطين. كان ذلك سنتي 1969/ 1970، وأتوقف عند هذه المحطة، لأنني في إطار مجلة «أنفاس»، وبعناية خاصة من التشكيلي الكبير محمد شبعة، أصدرت مجموعتي القصصية الأولى «العنف في الدماغ»، التي أصبح النقد الأدبي والقصصي في المغرب يعتبرها رائدة في التجريب. ومحمد شبعة هو من صمم ومن أنفق عليها، وقد صدرت المجموعة في سلسلة منشورات «أطلانطا». وهذه المجموعة، للعلم فقط، صدرت مع أول ديوان للطاهر بنجلون، الذي يحمل عنوان «تحت كفة الصمت». هذه هي المحطة الأساسية في تجربتي الحياتية والإبداعية. - وماذا تلا بعد ذلك، هل كان هذا التكوين الأولي هو بداية انخراطك في الحياة السياسية والإعلامية؟ أريد أن أتحدث عن محطة أخرى مهمة في حياتي، هي محطة مفصلية. هذه المحطة، أنا مدين فيها للمرحومين الشهيدين معا، عمر بنجلون ومصطفى القرشاوي. فاستئناف جريدة «المحرر»، التي كانت ممنوعة، في الدارالبيضاء سنة 1974، مكنني من الانضمام إليها. لقد كانت لي علاقة تاريخية بمصطفى القرشاوي، رغم أنه كان مناضلا مشهورا ومعروفا. هذه العلاقة بدأت عندما آويته وهو في حالة فرار من الشرطة، في حملة الاعتقالات التي شهدتها سنة 1973. كنت أسكن آنذاك في حي الأحباس بشارع فيكتور هيغو في الدارالبيضاء، فجاءني القرشاوي وتوارى عندي عدة أيام، فقد كانت الاعتقالات في تلك الفترة جارية وكان الاتحاديون ملاحقين من طرف الأمن. وتعود معرفتي بالقرشاوي لما تخرجت من المدرسة العليا للأساتذة، حيث عينت في التعليم الثانوي، وكنا نلتقي في الدارالبيضاء لأنها كانت مختبرا لكل شيء. وقد كنت آنذاك أدرس في ثانوية محمد الخامس وفي ثانوية الخوارزمي أيضا. هذه المعرفة مهدت لي الالتحاق بجريدة «المحرر»، وأصبحت ضمن طاقمها الأول الأساسي، مع كل من قيدوم الصحافة المغربية حسن العلوي، وأحمد صبري الصحفي القيدوم والشاعر. - هل كان ضمن الطاقم القاص إدريس الخوري؟ لا، إدريس الخوري لا علاقة له بهذا الطاقم. فالخوري كان يعمل مصححا في جريدة «العلم»، ولا علاقة له ب»المحرر». وقد التحق الخوري في وقت لاحق، بعد مؤتمر اتحاد كتاب المغرب والخلاف مع عبد الكريم غلاب، فآوته جريدة «المحرر»، لكونه اتخذ موقفا لصالح محمد برادة ضد غلاب. هكذا تم احتضان الخوري من طرف جريدة الحزب، لأن اتحاد كتاب المغرب كان يعرف ولاءين، إما للاتحاد الاشتراكي أو لحزب الاستقلال. - وهل التحقت أنت بجريدة «المحرر» لأنك كنت في حزب القوات الشعبية؟ ليس هذا هو السبب وحده، بل لأننا، نحن مجموعة من المثقفين المغاربة، كنا كلنا اتحاديين بالفطرة، فأنا من الجيل الذي خاض انتفاضة سنة 1965، في الدارالبيضاء، وتظاهرنا وطوردنا وتعرضنا للتنكيل. والاتحاديون بالفطرة هم المناضلون الحيقيقون وليس مثل كثير من التحقوا بعد ذلك بالاتحاد، وأصبحوا قادة وزعماء، ونحن لا نعرفهم. ونستغرب كيف أصبح هؤلاء الناس قياديين، ولا زلنا نستغرب ذلك إلى هذه الساعة، فنحن لا نعرف كيف تحولوا إلى قياديين ومتى وقع ذلك؟ وماذا قدموا؟ وما هو تاريخهم النضالي؟ هذه سيرورة تنظيمية في البيت الاتحادي الحديث فيها شجون. - تعرفت أيضا إلى عمر بنجلون. هل كنت تعرف الرجل حق المعرفة؟ وما هي الصورة التي يمكن أن ترسمها له؟ تعرفت إلى عمر بنجلون في تلك الأثناء، كما تعرفت أيضا، كما أسلفت الذكر، إلى مصطفى القرشاوي ومحمد عابد الجابري. وهؤلاء كانوا يرمون في حمى تعلم مهنة الصحافة ومخاطرها. وبالنسبة للشهيد عمر بنجلون، الصورة التي ارتسمت في ذهني عنه، هو أنه كان يعرف أنه عابر في حياته، وقد كانت له عدة مهام، تنظيمية ونقابية ومهام استئناف الجريدة والمطبعة، ولم تكن له بالمعنى الدقيق حياة عائلية، فقد كان يسرق بعض الساعات من النوم، وبعض الساعات لعائلته، ويأتي مسرعا إلى الجريدة. أنا كنت في تلك الفترة متطوعا، فقد كان عملي الأساسي هو التدريس، وبالتالي كنت أنا وعبد الجليل باحدو متطوعين. في تلك الفترة جيء بمحمد البريني ليجمع قصاصات وكالة الأنباء الفرنسية ويقطعها ويرتبها، ثم بعد ذلك تعلم كيف يترجم بعض هذه القصاصات. هذا هو كل ما كان يقوم به البريني في تلك الفترة. - ولكن ماذا أفادتك هذه التجربة ككاتب؟ هل تعلمت أشياء تخص مهنة الكتابة؟ المهم في هذه التجربة، بالنسبة لي ككاتب، هو أنني لم أعد ذلك الشخص الهائم، الذي ينتظر الإلهام ليكتب نصا أدبيا، أو قصة، بل أصبحت الكتابة بالتدريج نوعا من المسؤولية، وتتعلم شيئا أساسيا، وهو أن الجريدة لا تنتظر أحدا، فلا بد أن تملأ العمود، ولا بد أن تملأ القطعة، إذ يأتيك حسن العلوي، وهو رجل محترف، ومن المحترفين القلائل جدا في تاريخ الصحافة المغربية، ليقول لك أنا أحتاج إلى أربع جمل، وما إلى ذلك من حاجيات العمل اليومي السريع. إن العلوي أحد أمهر الصحافيين الذين رأيتهم في الصحافة المغربية. فعمر بنجلون ومصطفى القرشاوي رمياني في الفرن، فرن الصحافة، وبدأت أكتب المقال السياسي، والتحقيق الاجتماعي، وأترجم. كنت كذلك أذهب إلى المحاكم لكتابة تقارير عن المحاكمات في ركن العدالة. في تلك الفترة، في سنة 1975 و1976 و77، أصدرنا أول ملحق ثقافي. كان ملحقا يقام له ويقعد، وكان له تاريخ، وكان تكتب فيه كل الأسماء الرائدة والمجددة اليوم. كل هؤلاء مروا من هناك، وكنت أشرف على ذلك، بل هناك قصائد كنت أعيد كتابتها لشعراء معروفون الآن، وقصص لقاصين حاضرين في الساحة الآن. هذه اللحظة أساسية لأنها علمتني أن الكتابة مهنة لا يمكن أن تنجح إذا خضعت للمزاج فقط. فروايتي الأولى «زمن بين الولادة والحلم» تدرس أيضا في الجامعة وتعتبر نصا مفصليا ومؤسسا في التجديد الروائي في المغرب. - لكن مرحلة باريس تشكل محطة كبيرة وفارقة في حياتك الفكرية والأدبية وتجربتك الإنسانية. هل أعادت هذه المحطة صنعك من جديد؟ وماذا قدمت إليك؟ مرحلة باريس مرحلة مهمة في حياتي. قبلها استطعت في المغرب أن أنتزع بصعوبة ديبلوم الدراسات العليا، لأني كنت موزعا بين التدريس والجريدة والحياة الشخصية في مدينة الدارالبيضاء، التي تعتبر مدينة عاتية على مستوى الحياة. - قبل أن نعود لمتابعة الحديث عن مرحلة باريس، من هم الأدباء الذين كانوا شلتك في الدارالبيضاء؟ أنا بالمناسبة لا أرافق الأدباء كثيرا، ولا أحب ذلك، وأصدقائي من الأدباء هم قلة. أنا أحب أن أرافق أصحاب المهن الأخرى، الذين لهم اهتمامات مغايرة، وأرافق، بالدرجة الأولى، نفسي كثيرا. فأنا أعتزل، وهذا ضروري للثقافة وللكتابة. لكن من بين أصدقائي في الوسط الأدبي الذين كنت أعاشرهم بانتظام، رفقة المعاريف، وعلى رأسهم المرحوم محمد زفزاف وأحمد الجوماري، وبصفة خاصة أحمد المجاطي. المجاطي كان صديقا لكثيرين، وهو لم يكن له أصدقاء كثيرون، بل كان له «ندمان»، أما أصدقاؤه فقلة. لقد كان يعاشر نفسه طول النهار في عمله وتأملاته وشعره وبحثه، وكنت من القلة النادرة من أصدقائه، وقد تعلمت منه أشياء كثيرة، أهمها أن الإبداع هو معاناة حقيقية وومضة، فهذا الرجل رأيته وأحسست به كيف يمضي بالقصيدة مثل امرأة حبلى لتسعة أشهر وأكثر. كان صبورا على إبداعه وغير مستعجل مثل الكثيرين من شعراء اليوم. - لنعد إلى محطة باريس. ما أهمية هذه المحطة الحياتية، التي استغرقت مسافة كبيرة من عمرك؟ ذهبت إلى باريس لإعداد دكتوراة الدولة، فدخلت في تجربة حياتية أخرى، وقد ساعدني في البدايات أستاذي جمال الدين بن الشيخ، وأستاذي محمد أركون، فبدأت بالتدريس الجامعي في فرنسا، في جامعتي باريس 8 وجامعة السوربون الجديدة، وجعل مني جمال الدين بن الشيخ مساعدا له في الكوليج دو فرانس، وهذا لم يكن موقعا هينا. وفي باريس كتبت الرواية التي يعرفها الجميع، وهي رواية «الجنازة». - كنت في رواية «الجنازة» وكأنك ترثي مرحلة سياسية واجتماعية كاملة من تاريخ المغرب. هل هذا ما كان يشكل خلفية عملك؟ كانت بالفعل رواية وداعية لمرحة تاريخية من تاريخ البلاد. ومن الصدف أنها امتزجت بوفاة والدي وسير أخرى، وامتزجت فيها سيرة الوالد، وسير أخرى، منها سيرة الشهيد عمر بنجلون، وسير أخرى. ومنذ 1989 إلى الآن وأنا في باريس، رغم أنني بين ذهاب وإياب، وقد عدت إلى هنا فترة لأستأنف الحياة، لكنني لم أنسجم كما يجب. حياتي الأدبية والثقافية الحقيقية أعتبر أن إقامتي في فرنسا هي التي علمتني إياها. هناك مناخ للبحث وللعمل الجدي والكتابة. كما أن تأخذ حجمك الحقيقي هناك، وتتخذ لنفسك مسارا دقيقا ومنظما ومسؤولا. هذه الثلاثين سنة هي التي أتاحت لي العمل بجد والتزام تجاه الذات والكتابة، بالإضافة إلى حياتي الشخصية والعائلية، التي جعلتني أنتظم في سياقها. وفي الحقيقة لم أغلق على نفسي في باريس، فانطلاقا من باريس جلت العالم وذهبت إلى جميع القارات وإلى جميع عواصم الدنيا. - أمن هنا جاء ولعك بكتابة المذكرات والرحلات، رغم أنك لم تجمعها في كتاب؟ بالفعل، هذا التجوال ولّد لدي ولعا بكتابة أسفاري ومناخاتها، لكني لم أجمعها في كتاب. وقد نشرتها كأوراق أسفار ورحلات في عدد من الصحف الوطنية والعربية في كل الوطن العربي. فالسفر جزء من حياتي، الذي أرى من خلاله العالم، ولا غنى للإنسان عن ثلاثي الإنسان والسفر والمكان، لكي يتطور، فهو يحتاج إلى الحركة لكي يبدع. لم أستطع أن أجمع ما كتبت في كتاب بسبب صعوبة ذلك، بعضها تسرب إلى نصوصي الروائية والقصصية، وبعضها موجود في كتاب «الضفاف»، وهي الكتابات التي كنت أكتبها في الصحافة المغربية. كما أني لم أجمعها، لأني أعتبر أني لو بدأت من الآن أجمع ما كتبته في الماضي، سأتوقف عن كتابة الحاضر، علما أنني أتقدم في العمر والحياة أخذت مني الشيء الكثير. - لكنك ما زلت شابا، وأنت حريص على ممارسة الرياضة، وأنقصت وزنك إلى حد بعيد. هل انتهى زمن البوهيمية وأصبح المبدع أكثر انتباها لحياته وصحته من فترة السبعينيات؟ سأقول لك شيئا. الكاتب يحتاج إلى أن يعتني بصحته، وأن يمارس الرياضة، حتى وهو يدمر جسده. وكم دمرت جسدي، وأواصل حتى الآن ذلك. لكن مع ذلك يحتاج الكاتب إلى أن يعتني بصحته وتغذيته ومشاعره وعائلته وعلاقاته مع الناس. الكتابة ريجيم، ونظام وحمية للكثير من الأضرار، وهي أناقة ورشاقة، ونظافة معينة. فالكتابة لا تتحمل القذارة والتشويش والأوبئة، رغم أن الكاتب العربي والمغربي ليس محظوظا تماما مثل الكاتب في الغرب. فالكاتب المغربي يضطر إلى أن يعمل وإلى أن يواجه صعوبات الحياة، ومطلوب منه أن يلتزم دائما بالمجتمع، وكأن الأمر يتعلق بوظيفة. الكاتب ليس رسولا، بل واحد من الناس، لديه درجة من المسؤولية، لأنه في مجتمع متخلف ولا بد له من القيام بدور ما تجاه مجتمعه، حتى لو كان ذلك الدور صغيرا، ولكنه في الوقت نفسه ليس زعيما سياسيا، كي يقول إنه سيقود ويقدم البدائل. إن دور الأديب والمبدع والمفكر هو أن يحاول أن يساعد في بلورة البدائل، ويقول في الآن نفسه إني أوجد في تلك الرقعة من الإحساس ومن الكلمات. - رغم ذلك، فموقعك وانتماؤك السياسي كانا يحتمان عليك أن تكون لك رؤية للمشروع المجتمعي والسياسي المنشود. بالتأكيد، هذا صحيح، فأنا لم أكن منعزلا، لكني كنت في خضم معارك اتحاد كتاب المغرب الأصيلة، وجميع الرؤساء الذين ترشحوا وكانوا رؤساء كانت لي كلمة طولى في ترشحهم وتعيينهم. وهذا لا يستطيع أن ينكره إلا جاحد. - لكنك «طفشت» وأسست الرابطة. هل كان ذلك موجة غضب أم أمرا مفكرا فيه؟ خلافا لكل الأقاويل، سأسرد عليك القصة الحقيقية. عندما عدت من باريس، تزامن ذلك مع مؤتمر اتحاد كتاب المغرب، الذي ترأس افتتاحه عبد الرحمان اليوسفي. وبهذه الصورة تستطيع أن تفهم معنى التحكم السياسي في مؤتمر للكتاب. في المؤتمر جاء من يقول إن المديني يريد أن يترشح. كنت حينها في إقامة مؤقتة في المغرب. والحقيقة أنني لم أرد الترشح قط، بل قلت شيئا واحدا في القاعة، وهو أنه على الرئيس أن ينتخب من طرف القاعة وليس من طرف المكتب المركزي. كان هذا هو التقليد المتبع من طرف اتحاد كتاب المغرب في انتخاب الرئيس إلى أن تمت الإطاحة بعبد الكريم غلاب في قاعة سمية في 1974. وتلك الإطاحة نظمناها جميعا، على أساس أنه كانت هناك استقطابات سياسية بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، فهوجمت في قاعة المؤتمر، وخرجت وأعلنت مع عدد من الكتاب والأدباء، من بينهم سعيد يقطين وعبد الغني أبو العزم وعبد الفتاح الحجمري ومحمد بنطلحة ومحمد عزالدين التازي، تأسيس رابطة أدباء المغرب. وهؤلاء أسماء أدبية مرموقة لا منازعة فيها، وهكذا كان بعد أن رأينا أن اتحاد الكتاب سجين رؤية سياسية معينة. واتجهت أعمال الرابطة إلى عمل أكاديمي وأدبي كبير مشهود له في الأوساط الأدبية والجامعية، والتحق بها عديدون، ولم تكن هناك عضوية للانتماء للرابطة، إذ كان التكريس الأدبي هو المعيار، وهذا خيار نخبوي، وهو حق مشروع. وبالتالي لم يكن تأسيس هذه الرابطة رد فعل ضد اتحاد كتاب المغرب بتاتا، كان الأمر خيارا مشروعا لكتاب وباحثين رأوا أن من حقهم أن يكون لهم إطار جامع خاص بهم. ثم عدنا لاحقا إلى الاتحاد بعد أن تبين لنا أن هناك بصيص أمل فيه، لكن عملنا في الرباطة حتى إن توقف لأسباب تتعلق بإدارة هذه الجمعية الثقافية، إلا أن عملها يمكن أن يعود في أي لحظة وأن تستأنف بالتالي نشاطها. - نعيش الآن صعودا للتيارات الإسلامية إلى سدة الحكم. هل كان هذا، في نظرك، وليد انتكاسة المشروع التقدمي العربي؟ الكثير من الناس يظلموننا، نحن أبناء الحركة التقدمية، وينسون أننا أبناء اليسار، وأبناء التغيير، وأننا طالبنا وناضلنا وكثير منا ضحى بحياته وبكل شيء من أجل إرادة الإصلاح. لماذا لا نطرح السؤال بصيغة أخرى: من الذي وما الذي أدى إلى الانتكاسة ؟ هذه الحركة التقدمية في المغرب وفي العالم العربي بكامله عانت طيلة عقود من الضربات ومن القمع ومن الحجز ومن جميع أنواع التصفيات الجسدية والمعنوية، وبكل الوسائل... ثم بعد ذلك نأتي لنقول إنها انتكست. طبعا، انتكست، ثم إن هناك أجيالا عانت من السجون، ومنها من اغتيل ومن تعرض للنفي ومنها من أعيته الحياة. في ندوة في المعرض الدولي للكتاب الأخير حول «الإعلام والمسألة الثقافية»، سمعت وزير الاتصال مصطفى الخلفي، وهو مثقف وشخص محترم حقا، يقول عبارة مثل طلقة طائشة، أظن أنه، وهو العاقل، لم يفكر فيها جيدا، وأظن أنه قالها من منطلق سياسي. قال إن النخب المغربية أصبحت منهكة، بمعنى أن لا فائدة فيها. وكان بودي أن أعقب على ذلك في إبانه، لكني فضلت تأجيل ذلك بسبب القاعة التي كانت مشحونة بحضور سياسوي. وأنا من هنا أقول: نحن لسنا منهكين، ونحن في أتم عافيتنا البدنية وفي أتم امتلاكنا لقوتنا العقلية وصفاء أرواحنا وملكاتنا الثقافية وإرادتنا لمواصلة رسالة وعمل التغيير كما نتصوره نحن. نعم إننا منهكون لما تكالب علينا من ضربات، ومن قمع شرس حتى أن هذه المرحلة أصبح لها اسم «سنوات الرصاص»، والأصيلون فينا لم يبيعوا ولم يشروا ولم يتاجروا في تاريخهم، لا بمنصب ولا بجاه. فالزمن ينهك جميع الأفراد وجميع القوى، لكنها تستطيع إذا كانت لها إرادة أن تنهض من كبوتها، وأن تستأنف، وهذا جدير بالحركة التقدمية في المغرب القيام به، لا أن تستهويها ألاعيب السياسة الظرفية ولا مصالحها، وبالتالي أن تجدد هويتها. - هل تعتبر صعود الإسلاميين في المغرب انتكاسة للمشروع التنويري؟ حقيقة، أقول لك إن المشروع الإسلامي ليس مشروعنا نحن، ونختلف معه جذريا، فهو يرى الإصلاح في الآخرة ونحن نراه في الدنيا، وهو يرى من منظور يعمم أخلاقا واحدة ورؤية واحدة، وينمط ويدجن الإنسان لإرادة أكبر منه. نحن نؤمن بمشاريع تجد تعبيراتها في الدولة المدنية بالدرجة الأولى في جميع تجلياتها العقلانية، وحيث يكون الإنسان سيد نفسه وسيد موقفه، وهم عندهم مشروع مختلف، وأنا لا أحب أبدا أن أدخل في أي خطاب للإدانة أو للتجريح. كما أن لهم أيضا رؤيتهم، وخطابهم الذي ينسجم مع شرائح واسعة من المجتمع، لكني أختلف مع هذه الحركة في منظورها وأطروحاتها ومشروعها. - وهل تعتبر ظاهرة الإسلام السياسي ظاهرة عابرة؟ أظن أن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وراء تنامي هذه الظاهرة وسط الناس. وأنا من رأيي أن يأخذوا حقهم ووقتهم في التدبير الحكومي، وينبغي أن يختبرهم الواقع وأن يختبروا الواقع المادي المباشر في الحكم وإدارة الدولة. أما أن نضعهم الآن كفريسة ونشرع في نهشهم فهذا خطأ. أنا ضد أن نعتبر الإسلاميين مثل طريدة، ونشرع في ملاحقتها. وإذا كنا ديمقراطيين حقيقة، فيجب أن نعترف بأن هؤلاء الناس وصلوا إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، فكيف نسمح غدا لنا بنتائج صناديق الاقتراع ونرفضها لغيرنا؟ وهذا الخطاب الديموقراطوي في المغرب، هو خطاب نسبي وأناني. ينبغي أن تعطى للإسلاميين فرصتهم، وأتحدث هنا عن حزب العدالة والتنمية من طرف الجميع، ومن طرف من يسمون ب»أولي الأمر، ومن طرف القوى السياسية التي تعتبر نفسها مناهضة، فهذه القوى المعارضة ينبغي أن تتعلم النظر إلى وجهها في المرآة، لتتأمل تاريخها وماضيها، وألا تخجل إذا أخطأت من قول ذلك والاعتراف به. فالاتحاد الاشتراكي يعلم جيدا الضربات التي تعرضت لها حكومة اليوسفي في حكومة التناوب. إذ منذ ظهرت وهي تتلقى الضربات تلو الأخرى من طرف ما سمي ب»جيوب المقاومة». وقد سماها اليوم رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بنكيران العفاريت والتماسيح. وبالتالي أقول إن جيوب مقاومة حكومة اليوسفي هي نفسها عفاريت وتماسيح حكومة بنكيران. - هل هناك، في نظرك، استعجال من طرف جهات معينة لطي صفحة العدالة والتنمية في المغرب؟ سأسوق لك واقعة. حضرت قبل أسبوع في الرباط لقاء لتوقيع كتاب للباحث الشاب يوسف بلال، ابن الشهيد عزيز بلال. وهذا الشاب أستاذ بجامعة كولومبيا في أمريكا، قال في حديثه إن ما تتعرض له حكومة عبد الإله بنكيران هو نفسه ما تعرضت له حكومة عبد الله إبراهيم منذ الاستقلال. وهذا يعني أن العدالة والتنمية هو تيار إصلاحي وليس تيارا إفساديا أو مفسدا، أبدا. قد أكون مختلفا معه، ولكنه يملك برنامجا إصلاحيا، ويريد أن يطبقه، تماما كما كانت حكومة عبد الله إبراهيم تملك برنامجها الإصلاحي، مع الفارق، طبعا. لكن السؤال هو : هل هذه الحركة هي بديل لبرنامج الحركة التقدمية اليسارية التي كانت في الستينيات؟. هذا سؤال آخر يستدعي التأمل من نمط آخر. ولكن لا بد من المضي قدما في تجاه الإصلاحات الدستورية إلى أبعد ما يمكن وإلى الرقي بالمجتمع السياسي. فالمجتمع السياسي المغربي الآن يتخاطب ويتماحك في درجة من الإسفاف لا مزيد عليها، وهناك أكثر من وجه للضحالة نجدها في المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية.