تؤدي ذكرى المحرقة دورا مركزيا في سياسة إسرائيل الخارجية والأمنية. ويصف قادة الدولة وقادة الجيش الإسرائيلي مهمتهم الرئيسة بكونها منع محرقة جديدة تتربص بالشعب اليهودي، في رأيهم. سيزور رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في الأسبوع القادم، معسكر الإبادة السابق أوشفيتس، ويفتتح هناك المعرض الدائم في «بيتان إيهودي». ويحذر نتنياهو في مثل هذه المقامات من المحرقة الجديدة التي تخطط لها إيران ويعد قائلا: «لن نقف مرة أخرى عاجزين في مواجهة من يطلبون القضاء علينا». ليس نتنياهو وحده، فرئيس الأركان بيني غانتس، وهو ابن لناجيين من المحرقة، سيعرض وثيقة مخيفة حصل عليها في «مسيرة الحياة» في أوشفيتس، يحسب فيها موظف نازي الفائدة والخسارة الاقتصاديتين للسجين اليهودي. وقاد قائد سلاح الجو، أمير إيشل، الطلعة الجوية لطائرات إف 15 فوق أوشفيتس قبل نحو من عشر سنوات. ويرسل الجيش مئات من ناس الخدمة الدائمة في الجيش في رحلات «شهود في البزات العسكرية إلى بولندا ترمي إلى تقوية شعور القائد بالجيش الإسرائيلي وبدولة إسرائيل باعتبارها دولة ديمقراطية للشعب اليهودي»، ولجعل «القائد مخلصا لوحدته ومحيطه لتوريث ذكرى المحرقة». إن الصلة بين المحرقة والحياة الواقعية تبدو اليوم طبيعية ومفهومة، لكن الأمر لم يكن كذلك دائما. في حرب يوم الغفران، دفع الجيش الإسرائيلي إلى دونية شديدة، فقد هاجمت مصر وسورية بغتة، وصعب على سلاح الجو الإسرائيلي أن يعمل بالجبهتين، وقتل مئات الجنود في معارك الصد، ومع كل ذلك لم يرَ الساسة والقادة في أخطر ساعاتهم أمام أعينهم غيتو وارسو ومابدنك، ويمكن أن نجد في الكتب الكثيرة التي نشرت عن تلك الحرب رعبا وخوفا وبلبلة وفقدانا لرباطة الجأش، لكن العدو لا يوصف بكونه مثل هتلر وآيخمن. لم يتحدث زعيما إسرائيل في 1973، غولدا مائير وموشيه دايان، عن المحرقة حتى في أيام الحرب الأولى الصعبة. وقالت غولدا التي آمنت بأهمية الدعاية بقدر لا يقل عن نتنياهو، للصحافيين الأجانب آنذاك: «جاراتنا تقاتل للقضاء عليها»... «نعلم بأن التنازل يعني الموت ويعني خراب سيادتنا وخرابا ماديا لشعبنا كله». وقالت في الكنيست: «هذه حرب على حقيقة وجودنا، دولة وشعبا». ولكنها آنذاك أيضا لم تساو أنور السادات وحافظ الأسد بالنازيين. حدث التغيير مع الانقلاب السياسي وتولي مناحيم بيغن الحكم في 1977. فلم يكد والد الليكود ينجو من المحرقة التي قتل فيها أبناء عائلته إلا بصعوبة. ويرى كاتب سيرته الذاتية شلومو نكديمون أن المحرقة أثرت في تصور بيغن العام أكثر من كل شيء. «يؤمن بيغن في سويداء قلبه خلافا لإسرائيليين آخرين يرون المحرقة نوعا من كارثة تاريخية وقعت مرة واحدة لا تكرار لها، بأن درس المحرقة هو أن الشعب اليهودي يجب أن يدافع عن نفسه في أرضه، كي يمنع خطرا جديدا على وجوده»؛ فقد اعتاد بيغن، بالمزاج نفسه، أن يساوي بين ياسر عرفات وهتلر ووصف قصف المفاعل الذري العراقي بكونه عملية لمنع المحرقة التي خطط صدام حسين لتنفيذها في حق الشعب اليهودي. بدا قصف «أوزيراك» في 1981 نقطة تحول بدأت الرسالة تستوعب معها في الجيش الإسرائيلي أيضا، فقد وصف العميد «احتياط» يفتاح سبكتور أكبر الطيارين الذين شاركوا في العملية في مذكراته لقاء بين أفراد الدفعة بعد عشرين سنة فاجأه فيه أحد شباب المقاتلين، وهو ريلك شبير، حينما روى كيف تذكر جده وعمته اللذين قتلا في معسكر التجميع شتوتهوف في التوجيهي قبل الإقلاع إلى بغداد. ولم يفكر الطيارون القدماء في العملية، ومنهم أبناء العائلات النبيلة للمستوطنات الأصلية، ذلك التفكير. منذ ذلك الحين وإلى اليوم، سيطرت تحذيرات المحرقة على الخطابين السياسي والعسكري. وكلما قويت إسرائيل، من جهة سياسية وعسكرية واقتصادية، أصبح قادتها وزعماؤها أكثر خوفا، وبلغ هذا الأمر ذروته في أيام نتنياهو. والسؤال هو: هل يوجه الخوف، فضلا عن الخطابة نحو الداخل والخارج، السياسة، وهل هو الذي سيحث نتنياهو وغانتس وإيشل على الهجوم على المنشآت الذرية في إيران.