كان المكلف الأساسي بالعلاقات الفرنسية الليبية أثناء فترة حكم جاك شيراك، ثم خلال فترة حكم نيكولا ساركوزي. وبعد إطلاق وكالة أنتربول مذكرة بحث دولية عنه، أضحى «أمين المال» السابق للقذافي محط كل الاهتمامات، سواء بباريس أو بالعاصمة الليبية طرابلس. المسؤول الليبي اختفى كليا عن الأنظار، وقد يمكن العثور عليه من فك الكثير من الألغاز حول تصريحات القذافي وابنه سيف الإسلام بشأن قيام ليبيا بتمويل الحملة الانتخابية لنيكولا ساركوزي سنة 2007. أين يتواجد؟ بلبنان، أو على الأرجح في مكان ما بين جنوب إفريقيا والسوازيلاند والنيجر، كما ألمحت إلى ذلك بعض المنابر الإعلامية بدولة بريتوريا منذ بضعة أيام فقط. وبعد وضع وكالة الأنتربول مذكرة بحث في حقه، أصبح بشير صالح، «أمين مال القذافي»، كما يطلق عليه بإفريقيا، لا يمكث طويلا بحانات باريس، ولا يحل أبدا بطرابلس. وبينما يقوم القضاء الفرنسي بالتحقيق في مصادر تمويل الحملة الانتخابية لحزب اليمين سنة 2007، يعرف فقط محاموه كيفية الوصول إلى هذا الرجل شبه الفار، ومحور العلاقات الفرنسية الليبية أثناء حكم جاك شيراك، ثم أثناء ولاية نيكولا ساركوزي. لا يوجد أي أثر لهذا الأخير بالمدينة التي تقيم بها آخر زوجاته المعروفات؛ البلدة التي تقع بمحاذاة الحدود السويسرية، ولا بشقته (السابقة) بباريس، ولا بالفيلا التي يملكها بقبرص، ولا حتى بمزرعته، حيث ترعى الخرفان والأحصنة والجِمال تحت أشجار الليمون والكمثرى، والتي تبعد بحوالي عشرين كيلومترا عن العاصمة الليبية. أما سبب غيابه عن مزرعته فيكمن في رغبة السلطات الجديدةبطرابلس في استجواب من كان منذ سنة 2006، يسير أحد أغنى الصناديق السيادية بإفريقيا، محفظة ليبيا إفريقيا للاستثمار، وربما متابعته من أجل «التلاعب المالي». تقدر القيمة المالية لهذا الصندوق بما بين 6 و8 ملايير من الدولارات، وكان الذراع المالي للعقيد معمر القذافي بإفريقيا قبل وفاته، شهر أكتوبر 2011، وأهم أداة لبسط نفوذه بإفريقيا جنوب الصحراء. وتعود آخر مرة تم خلالها مشاهدة بشير صالح داخل فرنسا، بشكل رسمي، لشهر ماي 2012، في عز الحملة الانتخابية. أما صوره الأخيرة المعروفة، فهي عبارة عن عدد من الكليشيهات المسروقة. وبعد نقله سرا من ليبيا من قبل المسؤولين عن المجلس الانتقالي الليبي، الذين كان يتفاوض معهم انطلاقا من إقامته بليبيا، وبعد استقباله بتونس من قبل السفير الفرنسي السابق بوريس بوايون، أمضى بشير صالح، شهر ماي 2012، عدد من الأيام شبه هادئة بباريس، العاصمة الأوربية المفضلة لدى هذا الفرانكوفوني المثالي. لم يكن يشك أبدا في أنه ملاحق من قبل مجموعة من المصورين، عدد منهم يعملون لصالح مجلة «باري ماتش». وفي يوم فاتح ماي 2012، تم الانتباه إلى جلوسه على طاولة طعام بفندق ريتز بساحة «فيندو»، مع الوزير السابق للشؤون الخارجية دومينيك دوفيلبان، ورفيقه المدان، رجل الأعمال ألكسندر دجوهري. يوم 2 ماي، شوهد في مكان لا يبعد كثيرا عن أحد المقاهي بتقاطع شارع سان جيرمان. ويوم 3 ماي، حينما لم تكن تفصل الفرنسيين سوى ثلاثة أيام عن القيام بالإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية، تم العثور عليه تحت العمود الغربي لبرج إيفيل. المسؤول السامي السابق بالجماهيرية كان يمضي وقته ذهابا وجيئة بين الرئيس السابق للمخابرات الداخلية الفرنسية بيرنارد سكارسيني، ونفس المدعو الدجوهري. عندما حلت الساعة السادسة مساء، تم مرة أخرى التصريح أمامه، بأنه يتعين عليه لأجل مصلحته، ومصلحة الفرنسيين، الرحيل عن فرنسا. بعد مرور ساعتين، حلق صالح على متن طائرة خاصة وضعت رهن إشارته. ومنذ ذلك الحين أصبح أحد الفاعلين في هذه الرقعة الإفريقية التي أطلقت عليها مجلة «جون أفريك» بظرافة «ثلاثية الأقطاب». القاسم المشترك داخل العواصم الإفريقية، كان أحد الوجوه المعروفة جدا. كان يطلق عليه لقب «الرجل الأسود لدى القذافي». وفي الواقع ازداد بشير صالح سنة 1946 بواحة للنخيل جنوبي ليبيا، ويتحدر من قبائل التبو، المجموعة العرقية التي تقطن جنوبي ليبيا وشمال النيجر، «المعروفة بمحاربيها»، يستحضر المختص في علم الأعراق البشرية، موريس غوديليه. تلقى تربية صارمة من لدن والده راعي المواشي الذي حلم بأن يصبح ابنه يوما ما أحد الموظفين بالدولة، وتعلم اللغة الفرنسية بدولة التشاد المجاورة. ومثل القذافي، «كان البشير لا يتوانى عن إبراز معرفته بالثورة الفرنسية»، يؤكد ذلك جميع الأشخاص الذين التقوا بباريس هذا المعلم السابق، والظريف، والهادئ، والمبتهج، الذي كانت لديه طلة «موظف صغير» من إحدى دول الغرب. وغداة الانقلاب العسكري لفاتح شتنبر 1969، منحه مجلس الثورة في البداية منصب سفير بدولة وسط إفريقيا، ثم تانزانيا والجزائر فيما بعد. قام بالتجول في جل أرجاء القارة السمراء قبل أن يلتحق بوزارة الشؤون الخارجية لشغل منصب رئيس برتوكول الدولة. «كان علي التريكي، الوزير السابق للسؤون الخارجية بليبيا الذي أصبح ممثل بلاده داخل مجلس الأمن، هو من فتح الباب أمامه لتسلق سلم المسؤوليات»، يحكي أحد الصناع الفرنسيين العارف بأحوال طرابلس منذ زمن بعيد. وعندما فارق الحياة إبراهيم البشاري، الذي كان أحد أركان النظام الذي وضعه القائد الليبي، في حادثة سير على الطريق، حل بشير صالح مكان هذا «الأسود» الآخر الذي «أصبح بارعا في الاستراتيجية ومؤثرا بالنسبة للقائد». أصبح رئيسا للبرتوكول ثم «سكرتير» القذافي، فيما كان تارة كاتم أسراره وتارة أخرى خادمه المطيع، حسب أهواء القائد. «كان يقفز في الغالب على متن طائرة من جنيف إلى طرابلس في منتصف الليل متى طلب منه القذافي الحضور»، يحكي المحامي مهدي بنبوزيد، الذي دافع عن أربعة خدم يحملون الجنسية التانزانية في قضية استعباد منزلي ضد صالح وزوجته، وتمكن مؤخرا من إقناع المحكمة في جلسة استئناف بإدانة زوجة المسؤول الليبي. «داخل مزرعته بطرابلس، كما في منزله بفرنسا، كان رهن إشارته على مدار 24 ساعة.» وبليبيا، اعترف بعض الأشخاص أمام عدد من الفرنسيين بأنهم رأوا القذافي يمشي فوق بطنه. الذراع المالي في سنة 2006، تمكن أخيرا من ترؤس محفظة ليبيا إفريقيا للاستثمار، الصندوق السيادي الشهير، وهو ما جعل صالح يقطع إفريقيا طولا وعرضا. «أن تكون أسواد هو عائق داخل ليبيا على المستوى القبلي، لكن لأجل تسيير المنة الإفريقية، يتحول ذلك الأمر إلى امتياز»، يوضح ممثل إحدى مجموعات بيع السلاح بإفريقيا. وحالما أصبح المسؤول عن جميع التمويلات الرسمية، عمل صالح على استثمار الملايين بالمناجم، والأبناك، والفنادق، والأراضي، والغابات. لكن محفظة ليبيا إفريقيا للاستثمار كانت كذلك أداة سرية للتمويل، لاسيما في شريط منطقة الساحل التي كان يغذق عليها معمر القذافي بالأموال. فقد كانت المحفظة تمول الجماعات المتمردة، بمناطق مثل دارفور، وتوفر المساعدة لرؤساء الدول والمسؤولين السياسيين، وكانت تستعمل لإمالة كفة الانتخابات. (...) لكن مع قرب نهاية سنة 2003 فقط، تعرف الفرنسيون على هذا الرجل «القصير والأسود الذي كان يضع أحذية مصنوعة من جلد التمساح ويعفو عن شاربه»، كما يقول صديقه إلياس بن شدلي، الذي يرأس دائرة الصداقة بالاتحاد المتوسطي. حدث ذلك خلال الفترة التي أعادت فيها فرنسا إحياء علاقاتها مع ليبيا، بعد سنوات عديدة من المقاطعة. «أول شخص تعرف عليه من عاصمة الأنوار كان هو موريس غوردو مونطاني»، المستشار الدبلوماسي لجاك شيراك، يحكي مصدر دبلوماسي. وفي شهر نونبر 2004، استقبل بشير صالح بطرابلس الطائرة الرئاسية الفرنسية التي جاء على متنها أكبر المصنعين الفرنسيين، فضلا عن «الوسيط» ألكسندر دجوهري. (...) «من هو الشخص الذي أستطيع ملاقاته لكي أتحدث معه حول القضايا الحساسة؟ هل هو السيد بشير؟»، كما طلب نيكولا ساركوزي من العقيد القذافي، أياما فقط بعد فوزه بالرئاسيات، وبالضبط يوم 28 ماي 2007، إذا صدقنا محتوى محادثة هاتفية نشرها موقع «ميديابارت». وحول العقيد، كان لكل شخص دوره المحدد، كما كان يقع في الغالب بالقارة السمراء؛ سواء تعلق الأمر بساعدي القذافي، ابن الدكتاتور، ولاعب كرة القدم السابق الذي أصبح المسؤول عن القوات الخاصة، أو سيف الإسلام، أو موسى كوسا، رئيس جهاز المخابرات. وفي الخارج سارت الأمور على نفس المنوال. «السيد بشير» أصبح قنطرة الحوار بالنسبة لمحيط ساركوزي، وبشكل خاص المحاور الليبي للوزير السابق كلود غيون. «كان يقدم نفسه بهذا الشكل: «أنا صديق غيون»»، يحكي باتريك ميني، الذي حاوره خلال برنامج تلفزيوني شهر أبريل 2011. «كان حسب ما تشير إليه الكثير من المعطيات يحظى لدى القذافي بدور الوسيط على جميع المستويات، يوضح اليوم كلود غيون. لا أعتقد أنه تورط في الانتهاكات التي اقترفها النظام.»
مجرد وسيط ما الذي يراه؟ وما الذي يعرفه هذا الرجل، الذي تم ترحيله من فرنسا بحذر جد شديد؟ ماذا عن الأسرار التي يحتفظ بها بشير صالح، الذي أصبح اليوم شخصا غامضا. «إنه لا يمتلك الكثير من الأسرار. إنه لم يكن سوى مجرد ممثل للدولة الليبية ناطق باللغة الفرنسية»، يؤكد أحد أطر شركة فرنسية للأسلحة. «لو كان يعرف فعلا الكثير من الأشياء، لكان في عداد الموتى»، يضيف شاب متشائم مقرب من نيكولا ساركوزي. «إنه سيف الإسلام، الابن، هو من يعرف كل الأسرار،» يضيف هذا الأخير. «ولهذا السبب يتواجد اليوم بسجن الزنتان.» لكن ذلك لا ينفي قيام البعض بتوفير الحماية له. «لقد وضعنا لائحة بأسماء الدول التي يمكن أن يكون قد لجأ إليها»، يقر جون دافيد ليفيت في «القذافي حيا أو ميتا»، وثائقي ملفت للنظر أنجزه أنطوان فيتكين. البعض يريدون العثور عليه، بدءا بالسلطات الجديدة بليبيا. «لا أحد في إمكانه أن ينكر بأن بشير يعرف كذلك لائحة العمليات السرية والاغتيالات التي مولتها ليبيا»، يوضح مصدر دبلوماسي فرنسي. ويظل الأمر الأكيد هو أن بشير صالح كان واحدا من الأشخاص القلة الذين جرى اطلاعهم على تفاصيل خريطة توزيع رؤوس الأموال الليبية بالخارج. ووعيا منها بخطورة المنصب، قامت ليبيا بتكليف مكتب سويسري لقانون الأعمال بتسيير محفظة ليبيا إفريقيا للاستثمار، ووضعت على رأس الصندوق السيادي أحد الليبيين الموثوق بهم، المدعو عبد الرزاق سرقن. لكن من يعلم أين هو؟ قبل رحيله إلى إفريقيا، عرج بشير صالح على جزيرة كورسيكا. ففي شهر ماي 2012، نزل بأحد الفنادق القريبة من مدينة أجاكسيو، وتناول وجبة طعام ببلدة بيرنارد سكارسيني (رئيس المديرية المركزية للاستخبارات الداخلية الفرنسية). حل بالجزيرة استجابة لدعوة ميشيل سكاربونشي، نائب أوروبي سابق، ينتمي لليسار الراديكالي، عاد مجددا إلى دخول مجال الأعمال. سكاربونشي، الذي سبق له خوض المنافسة على منصب النائب الأوروبي إلى جانب فرنسوا هولوند سنة 1999، كان يحلم «أن يبقى بشير بفرنسا وأن يكون رهن إشارة السلطات الاشتراكية». وداخل المنطقة الساحلية التي أخذه إليها رجل الأعمال هذا، كان السيد بشير يتلو آيات من القرآن. «أنا لا أهاب الموت»، كان يكرر الليبي. «على أي حال، سأحظى يوما بمكان لي على طاولة المفاوضات. لأجل بناء ليبيا يتعين على الجميع التشمير عن سواعدهم.» وحسب جريدة «الصانداي تايمز»، لكي تتمكن السلطات الليبية الجديدة من العثور على الأموال، أو الذهب أو قطع الألماس التي خبئت بجنوب إفريقيا أثناء فترة حكم القذافي، فقد سعت إلى العمل يدا في يد، منذ دجنبر 2012، رفقة الرئيس الجنوب إفريقي جاكوب زوما. وربما مع بشير صالح... * بتصرف عن جريدة «لوموند»