-1 لم يكن مفاجئا أن يصبح حزب الله اللبناني طرفا في الصراع الدائر في سوريا بين نظام بشار الأسد والمعارضة المسلحة، وذلك لأن هذا التنظيم، الذي ساند الثورات العربية في مصر واليمن وليبيا وتونس، وجد نفسه في مأزق حقيقي مع اندلاع الثورة السورية، لأن نجاح هذه الثورة يعني سقوط نظام الأسد، وبالتالي فقدان حزب الله للجسر الذي يصله السلاحُ عبره من إيران، وهو ما يعني إضعاف قدراته العسكرية التي يستعملها ليس فقط لمواجهة إسرائيل، وإنما للهيمنة على الحياة السياسية اللبنانية، كما يحدث حاليا، حيث يتحكم في الحكومة التي وضعها على هواه، بعد أن نجح في إسقاط حكومة سعد الحريري سنة 2011. لكن دخوله بشكل مكشوف في الصراع السوري ومشاركته في القتال إلى جانب قوات الأسد سيجعله، من جهة، يزج بلبنان في صراع لا يعنيه بشكل مباشر؛ كما سيجعله، من جهة أخرى، يفقد الكثير من مصداقيته، ليس فقط في سوريا والعالم العربي، بل وفي مناطق واسعة من العالم الثالث، من بينها أمريكا اللاتينية التي نجح في الوصول إليها بقوة كبيرة، من خلال ثلاثة عناصر هي: الجالية العربية الشيعية، التغلغل الإيراني بالقارة، وبعض التنظيمات الماركسية الراديكالية التي اعتنق ممثلوها الإسلام، وشكلوا تنظيما مسلحا أطلقوا عليه اسم «حزب الله أمريكا اللاتينية». بالنسبة إلى العنصر الأول، توجد جالية لبنانية شيعية تتمتع بنفوذ اقتصادي كبير في بعض المناطق مثل منطقة «إيكويكي» في الشيلي، و»مايكاو» في كولومبيا، وجزيرة مارغاريتا في فنزويلا، وخصوصا المنطقة المعروفة ب»الحدود الثلاثية «Triple Frontera، التي تحد الأرجنتين والبرازيل والبراغواي، وهي منطقة حرة تنشط فيها بشكل مكثف الحركة التجارية والتي هي، في الكثير من الحالات، تجارة تهريب، تهمّ قطاعات على رأسها الأجهزة الإلكترونية، لكنها تضم كذلك تجارة المخدرات والأسلحة وغسل الأموال. وقد أنجزت الدوائر السياسية والأمنية الأمريكية مجموعة من التقارير عن الجالية العربية بها، تتهمها فيها بتمويل الإرهاب، ويتحدث بعض هذه التقارير عن الدور الحاسم الذي يلعبه حزب الله في المنطقة. وقد اعتبرت «المجلة العسكرية»، الناطقة باسم البانتاغون، المنطقة نقطة تنسيق لوجستيكي ومالي لحزب الله وحماس، و»أخطر نقطة يفتقد بها الأمن في أمريكا الجنوبية». وذكر تقرير أنجزه قسم الأبحاث الفيدرالي Federal Research Division أربعة تنظيمات وصفها بالإرهابية، لها حضور مكثف في منطقة الحدود الثلاثية، هي: القاعدة والجماعة الإسلامية المصرية وحزب الله وحماس؛ يشمل نشاطُها، حسبه، «غسلَ الأموال وتجارة السلاح والمخدرات وجمع التبرعات من أجل تمويل الإرهاب». ويضيف التقرير أن تغلغل تنظيم القاعدة في المنطقة بدأ منذ 1999، وأن هناك تنسيقا مشتركا بينه وبين حزب الله. العنصر الثاني هو التغلغل الإيراني، الذي عرف تزايدا ملحوظا على امتداد العقد الأخير، خصوصا في البلدان التي تناصب الولاياتالمتحدة العداء لأسباب إيديولوجية، مثل فنزويلا وبوليفيا. هذا التغلغل يستفيد منه حزب الله لتوطيد نفوذه في هذه المنطقة. وتضع التقارير الأمريكية علاقة بين ما تسميه الدعم الفنزويلي للإرهاب ذا التوجه الإسلامي، وبين التقارب الحاصل بين فنزويلا وإيران. وتضيف ذات التقارير أن الولاياتالمتحدة تتوفر على الدليل الذي يؤكد دعم إيران للإرهاب في أمريكا اللاتينية، وأن لها يدا في التفجيرين اللذين استهدفا سفارة إسرائيل وجمعية التعاضد الإسرائيلية في الأرجنتين في تسعينيات القرن الماضي. والواقع أن التقارب بين إيران وفنزويلا لا يمكن حصره في التعاون الاقتصادي وفي انتماء البلدين إلى منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبيب»، بل له أبعاد استراتيجية وإيديولوجية كذلك، بحيث يهدف إلى الحد من الهيمنة الأمريكية في كل من العالم العربي الإسلامي وأمريكا اللاتينية، وخصوصا الحد من الضغوطات التي تمارسها الولاياتالمتحدة على إيران بسبب مشروعها النووي. وقد أنشأت فنزويلا وإيران صندوقا ماليا مشتركا من ملياري دولار للحد من تأثير الولاياتالمتحدة في أمريكا اللاتينية. ولا يختلف الوضع كثيرا في بوليفيا، حيث يستفيد حزب الله من العلاقات المتميزة التي لإيران مع الحكومة التي يقودها إيفو موراليس. وكانت التقارير التي أعدتها المخابرات الأمريكية، قد تحدثت، عقب زيارة رئيس إيران محمود أحمدي نجاد لبوليفيا سنة 2007، عن تزويد بوليفيا لإيران باليورانيوم من أجل برنامجها النووي، وتقديم إيران مساعدات مالية ضخمة لبوليفيا، الغاية الحقيقية منها تسهيل تغلغلها في هذا البلد وفي بلدان أخرى بأمريكا اللاتينية، وهو ما أثار احتجاج الولاياتالمتحدة، التي رأت في هذه الخطوة الإيرانية خطرا آخر على مصالحها في جارتها الجنوبية. ووجه كاتب الدولة الأمريكي في الدفاع «روبير غايت» انتقادات لاذعة إلى إيران في خطاب أمام الكونغرس جاء فيه: «إنني منشغل بالنشاط التخريبي الذي يقوم به الإيرانيون في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية، أساسا في أمريكا الجنوبية والوسطى، حيث فتحوا مجموعة من المكاتب، كما فتحوا الكثير من الجبهات، والتي يقومون من خلالها بالتدخل في ما يقع بهذه البلدان». -2 العنصر الثالث هو بعض الماركسيين السابقين الذين اعتنقوا الإسلام وشكلوا تنظيم «حزب الله أمريكا اللاتينية». وهنا نسجل كيف تحولت إيديولوجية حزب الله اللبناني إلى عقيدة آمن بها أشخاص لا علاقة لهم بالأصل العربي ولا بالعالم العربي الإسلامي. وكان تبنيهم لعقيدة حزب الله ومنهجه في المقاومة ينطلق من معطيين اثنين: الأول هو اعتبار حزب الله حركة مقاومة وطنية، تذكر بحركات المقاومة الوطنية التي قادتها التيارات الماركسية في أمريكا اللاتينية خلال مرحلة الديكتاتوريات العسكرية؛ والثاني أن حزب الله اللبناني يناصب العداء الولاياتالمتحدة حليفة إسرائيل، وهذا عنصر أساسي على اعتبار أن اليسار الراديكالي في أمريكا اللاتينية يعتبر الولاياتالمتحدة مسؤولة عن الكثير من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها القارة منذ حصولها على الاستقلال وإلى اليوم. وقد جعل «حزب الله أمريكا اللاتينية» من فنزويلا مقره الرئيسي، مع إنشاء فروع تابعة له في بلدان أخرى من القارة. وتتكون النواة الأساسية ل»حزب الله أمريكا اللاتينية» من هنود المنطقة الحدودية بين كولومبيا وفنزويلا. وكان هؤلاء قد تعرفوا على بعض مبادئ الثقافة العربية من خلال احتكاكهم بالجالية العربية التي استقرت هناك منذ بداية القرن العشرين، إذ نشأت بين المجموعتين علاقة تجاوزت التعامل التجاري، بعد إقدام عدد من المهاجرين العرب على الزواج من هنديات. وحسب موقعه الإلكتروني، تأسس «حزب الله أمريكا اللاتينية» سنة 2005، غير أن الانطلاقة الفعلية لم تسجل إلا سنة 2006، عقب النجاح الذي حققه حزب الله اللبناني في مقاومة الغزو الإسرائيلي للبنان. ومع اعتراف «حزب الله أمريكا اللاتينية» بإعجابه بحزب الله اللبناني، فإنه يحرص على تأكيد أنه لا تربطه به أية علاقة لوجستيكية، بل ولا يعرف قادتُه شخصيا قادةَ حزب الله الأصلي، وأن التآلف الوحيد بينهم يقوم على أساس القاسم المشترك الذي يمثله الإسلام. ومما نقرؤه في الموقع الإلكتروني المذكور: «حزب الله أمريكا اللاتينية ليس خلية تابعة لحزب الله اللبناني، فنحن لا نعرف أولئك الإخوة، وليس لنا اتصال بهم، وهم كذلك لا يعرفون نشاطنا. ومع ذلك، فحزب الله اللبناني له دعمنا الأخلاقي والروحي والإنساني. لا يجب أن ننسى أن الذي يجمعنا وإياهم هو الإسلام، وكل مسلم يتألم لمعاناة أخيه المسلم». ويعرف «حزب الله أمريكا اللاتينية» نفسه بكونه «حزبا سياسيا عسكريا إسلاميا» يدعو إلى الجهاد، وإلى محاربة الولاياتالمتحدة وإسرائيل، بسبب ما ترتكبانه في حق «إخواننا المسلمين الذين يعانون من ويلات الإرهاب الإمبريالي والصهيوني، وهو ما لا يمكن أن نتعامل معه بلامبالاة، مهما بعدت المسافات بيننا وبينهم... لأن على الولاياتالمتحدة وإسرائيل وحلفائهما أن يعلموا بأن في أمريكا اللاتينية مسلمين يتألمون لمعاناة إخوانهم، وهم على استعداد للمساهمة في الدفاع عنهم». يتولى قيادة «حزب الله أمريكا اللاتينية» قيادي ماركسي سابق هو «تيودورو دارنوت»، الذي برز نجمه منذ سبعينيات القرن العشرين، كأحد أهم مقاتلي «القوات المسلحة الثورية الكولومبية»FARC (الجناح المسلح للحزب الشيوعي الكولومبي). وقد بقي «دارنوت» سنوات منفيا في كولومبيا قبل أن يعود إلى بلده فنزويلا، ليبدأ مرحلة جديدة من النضال، بعد أن أسس تنظيما ثوريا جديدا حمل اسم «غوايكايبوروGuaicaipuro للتحرير الوطني»، جعل من بين أولوياته العمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للهنود المقيمين في المنطقة الحدودية بين فنزويلا وكولومبيا، استنادا إلى عقيدة «لاهوت التحرير». وبسبب معرفتهم ببعض مبادئ الثقافة العربية، وجد «دارنوت» لدى هنود تلك المنطقة نوعا من الاستعداد المسبق لاعتناق الإسلام، إذ أقبلوا على تعلم اللغة العربية وعلى تلاوة القرآن جماعة، بتأطير من وعاظ شيعة قدموا من لبنان وإيران. ومما ساعد على انتشار الإسلام في المنطقة، التي بدأ فيها «دارنوت» دعوته، وجود مركز إسلامي نشيط في مدينة «مايكاو» الواقعة في التراب الكولومبي على الحدود مع فنزويلا، يضم من بين مرافقه ثالث أكبر مسجد في القارة. وستتحول حركة «غوايكايبورو للتحرير الوطني»، بعد اعتناق الهنود الإسلام، إلى «حزب الله أمريكا اللاتينية»، وبدأت تطالب بمزيد من الحقوق المدنية للهنود، على غرار ما قامت به «حركة شياباس للتحرير الوطني» في المكسيك سنة 1995، وكذا على غرار ما قامت به «جماعة المسلمين» سنة 1990 في منطقة الكاريبي. وأصبح لدارنوت ثلاثة زعماء يقتدي بهم: مؤسس حزب الله اللبناني الشيخ حسن نصر الله، ومؤسس جماعة المسلمين في ترينيداد توباغو الشيخ ياسين أبوبكر، وسمى نفسه على منوالهما «الشيخ عبد الله»، ومؤسس حركة «شياباس» الرائد ماركوس، وسمى نفسه على منواله «الرائد دارنوت». وانطلاقا من عقيدة لاهوت التحرير، تبنى خطابا حاول فيه التوفيق بين الماركسية والإسلام، على اعتبار أن «عَرَق العمال مقدس وممجد كدم الشهداء»، وأصبح كل من الجهاد والماركسية رمزا للثورية والراديكالية، كما أصبح ما حققه «حزب الله أمريكا اللاتينية» من نجاح جزءا من النجاح الذي حققه اليسار في هذه المنطقة. لقد اعتبر «حزب الله أمريكا اللاتينية» حمل السلاح ضد من يسميهم أعداء الإسلام أمر واجبا، وطالب بالجهاد «لأن الإسلام وأهله يتعرضون لحملة صليبية شرسة من طرف الغرب، والنجاح في مواجهة هذا الهجوم الشرس لن يتحقق إلا بالجهاد المسلح». وبدأ بتدريب الهنود على استعمال السلاح، كما بدأ يخطط لتنفيذ عمليات مسلحة، مثل وضعه قنبلة سنة 2006 أمام سفارة الولاياتالمتحدة في كراكاس، تم إبطال مفعولها قبل أن تنفجر. وتوعد «دارنوت» بمزيد من العمليات ضد مصالح الولاياتالمتحدة في أمريكا اللاتينية، بل وداخل الولاياتالمتحدة نفسها، إذا ما قرر هذا البلد مهاجمة إيران بسبب مشروعها النووي. وسوف يلقى القبض عقب محاولة التفجير الفاشلة على الشخص المكلف بتنفيذها، وكذا على «دارنوت» بصفته قائد التنظيم، ويحاكما بتهمة الإرهاب في دجنبر 2008، حيث قضي في حق كليهما بعشر سنوات سجنا نافذا.