زرت مكتبة، بعد طول غياب. حدث ذلك قبل أيام بمحض الصدفة، وإلا فليس من عادتي أن أترك مقعدي فارغا في المقهى لعيون المكتبة. تجولت بين رفوف الفلسفة والتاريخ والطب والآداب.. أبو تمام يجاور الفرزدق وجرير، وشوقي مع شاعر الحمراء وشاكر السياب. المكتبة اليوم أكبر وأغزر من مكتبة أيام زمان. الكتب أوراقها صقيلة وعناوينها ملونة، وقاعة العرض مكيفة، تؤنسها موسيقى خفيفة. ومع كل ذلك، فالذين «يعصرون» الوقت عصرا، في المقهى المجاور، والمتجولون في الشارع ذهابا وإيابا و... ذهابا، هم أكثر بآلاف المرات من المتجولين بين الرفوف بحثا عن كتاب. الكتب المعروضة في جناح الطبخ تفوق كتب العلوم بكل فروعها.. كتب للأطباق المغربية، وأخرى للطبخ الغربي، وثالثة للأسماك أو للمقبلات أو للمثلجات أو للعصائر. جناح الآداب واسع ومتنوع بين الإبداع والنقد و»نقد نقاد المتنبي»، لكن الزبناء القلائل يمرون به مر الكرام. جناح العقائد لا يتوقف به غير الملتحين والمتحجبات ممن لا يقربون باقي الأجنحة. الأمهات يملأن جناح كتاب الطفل، ينتقين لفلذات الأكباد كتب الخط والتلوين. والزائرة الحبلى تسأل عن كتاب «جمالك عند الوضع» و«كيف تستقبلين المولود الجديد؟». مرافقتها المراهقة حائرة بين كتب علم النفس وروايات إحسان عبد القدوس قبل أن تغادر بيدين فارغتين. لكن ما يثير الانتباه أكثر هو هذا الرجل الخمسيني الذي يقف طويلا، في خشوع، أمام رف تعرض فيه المكتبة مؤلفات من قبيل «أهوال القبور» و«سكرات الموت» و«حوار مع جني مسلم». حين دخولي المكتبة، اعتبرته زائرا وصل في جولته إلى ذاك الجناح، لكن وأنا أراه في نفس الموقع لحظة خروجي بعد ساعة، وبنفس الدرجة من الخشوع، أيقنت أنه مقيم هناك، يستعجل «المغادرة الطوعية» من الحياة الدنيا. ....................... عندما أخبرت بعض الأصدقاء بزيارتي للمكتبة، أصابهم العجب، ليس لأن الشهر رجب، ولا لكوني عدت إليها بعد طول غياب، ولكن لأنهم لم يفهموا لماذا أذهب إلى المكتبة في هذه السن المتقدمة من العمر (!؟)، بل وتساءل أحدهم «ياك ساليتي القرايا شحال هادي؟»؛ فالقراءة لدى كثيرين منا لا تكون إلا إذا كنا نهيئ لامتحان أو مباراة، وكثيرا ما ننسى الحديث النبوي الذي يحثنا على طلب العلم من المهد إلى اللحد. كثير من الكتب المجلدة المعروضة في «فيترينات» صالوناتنا هي مجرد قطع للزينة، مثل إبريق النحاس وشمعدان الفخار وصحن الطاووس الصيني، لا تلمسها ربة البيت أو خادمتها إلا لنفض الغبار عنها. الكتاب بالنسبة إلى عامة عباد الله المغاربة لا يستقيم إلا بوصف المدرسي، وبالتالي فالمكتبة موقع يقصده الواحد منا مرة واحدة في العام، بمناسبة الدخول المدرسي، لشراء الدفتر والقراءة المصورة والمنجرة والمسطرة و... بعضنا لم يفتح كتابا منذ عقود. «القرايا» عنده انتهت يوم مغادرة المؤسسة الدراسية أو الجامعية. الواحد منا يقرأ فاتورة الماء والكهرباء، يطالع جريدة «التيرسي» أو يخيط كلمات متقاطعة.. يقرأ «ميساجات البورطابل» وأسماء الشوارع، ولا تعجزه غير «الكتابة ديال الطبيب»، وحدها التي يضطر في فك طلاسمها إلى الاستعانة بمساعدة صاحبة الصيدلية. تنوعت صيغ الكتاب من المخطوط إلى المطبوع إلى الرقمي، لكن علاقتنا به تبقى على حالها؛ فلو سألنا السيدة «أنترنيت» عن عدد الذين يدخلونها منا قصد القراءة لأخبرتنا بأن الواحد من هذه الفصيلة تقابله مائة ألف من داخليها قصد «الشات»، بحثا عن عجوز غربية تتزوج شابا مقابل تهجيره. «خير جليس في الزمان كتاب»، كلام منسوب إلى الناس القدامى؛ أما في هذا الزمان، عندنا هنا، فالكتاب يأتي في درجة لاحقة خلف المسلسلات ومسابقات أحسن الأصوات وقنوات المباريات و«أنترنيت الشات»، ليبقى آخر جليس في هذا الزمان كتاب.