رغم أن مواقع التواصل الاجتماعي قد سحبت البساط من تحت الكتب وهددت دور النشر بالإفلاس وحولت المكتبات إلى مجرد دكاكين لبيع المقررات المدرسية، فإن «خير جليس» لازال صامدا ضد عاديات الزمن، ولازال له موعد سنوي يحيي من خلاله صلة الرحم مع ما تبقى من قراء رغم أن سعر إقامة عابرة لسيارة أو دراجة نارية في موقف سيارات المعرض الدولي للكتاب يزيد بقليل عن ثمن الدخول لفضاء الكتب، فإن الإقبال على فضاء القراءة أكبر من القراءة ذاتها، خاصة بعد أن كشف تقرير لمنظمة اليونسكو حول القراءة في العالم العربي أن المواطن العربي يعاني من داء التنافر مع الكتب، إذ يخصص ست دقائق في اليوم لفتح كتاب بينما المتوسط العالمي هو نصف ساعة في اليوم. معرض الدارالبيضاء الدولي للكتاب هو تيرمومتر حقيقي لقياس قدرة المغاربة على التبضع الفكري، ومنح الكتاب مكانة في القفة اليومية للمواطن، إلى جانب الخضروات واللحوم والتوابل، لكن حين تجوب أروقة المعرض وتنسج علاقة جديدة مع رائحة الورق، ستكتشف تحولا كبيرا في مضامين الكتب المعروضة من طرف الناشرين والمؤسسات ذات الارتباط بالفكر والثقافة، وستلاحظ اختفاء العديد من المطبوعات التي كانت تحتل حيزا كبيرا في أروقة الدول العربية المشاركة في هذا المعرض. اختفى الكتاب الأخضر وكتب النظرية العالمية الثالثة وكل المنشورات الخضراء جميلة الإخراج التي ظلت لسنوات تنشر دعوة العقيد معمر القذافي وتبشر الكائنات بسلطة الشعب، وحل محلها أدب الثورات بإصدارات تحول الكتاب الأخضر إلى كتاب أسود، وظهرت في الرفوف كتب تدين الزعيم وتشمته، على غرار كتاب «رجل من جهنم» لرمزي المنياوي و«من يصنع الطغاة؟» لمجدي كامل. واختفت الكتب التي عمرت طويلا في معارض الكتب العربية والتي كانت تصف حسني مبارك براعي السلم والسلام، وزوجته سوزان مبارك باليد البيضاء، لتحل محلها كتب تتحدث عن «الأيام الأخيرة لنظام مبارك» و«آخر الحكام الفراعنة» و«الخطايا العشر لحسني مبارك» و«سوزان حية في ثوب إنسان» أو «الشعارات الساخرة لثورة مصر»، وغيرها من الكتب حديثة العهد بالرفوف. واختفت من المعرض كتب زين العابدين بن علي الذي وصفته كثير من الإصدارات «الرسمية» بصانع التحول في تونس، قبل أن تصادر من المكتبات وتحل محلها كتب تجعل من البوعزيزي صانع التحول الحقيقي بالوقود والنار. أما دور النشر السورية فكانت إصداراتها عن الثورة خجولة، حيث لازالت كتب الفكر البعثي حاضرة خوفا من زئير الأسد، بينما فضل بعض الناشرين السوريين اتقاء شر بشار وملء الرفوف بكتب الطب البديل الذي يغني عن المساءلة، لذا ظهرت مكتبة فطائر الشام وكانت إصدارات التداوي بالأعشاب والخضروات حاضرة إلى جانب كتب أخرى تحث الناس على العلاج بالأدعية حتى خيل للزائر أن من يفتح معرضا للكتاب يغلق عيادة. وأنت تجوب دروب المعرض زنكة زنكة ستستنشق رائحة أدب الفساد والمفسدين المنبعث من الكتب، وتكتشف أن هناك صراعا ثلاثيا بين كتب الثورة والدين والمطبخ، وأن الناشرين عرفوا أن الوصول إلى قلب القارئ يتم عبر المعدة والقلب وإشارة النصر. وإذا كان المعرض الدولي للكتاب في القاهرة قد اختار كشعار «عام على ثورة 25 يناير»، فإن معرض الدارالبيضاء قد فضل شعار «وقت للقراءة، وقت للحياة»، والصحيح أنه وقت للحياء أيضا، كما اختار العربية السعودية كضيف شرف، رغم أنها استقبلت زين العابدين ومنحته صفة ضيف الشرف.