هناك ظاهرتان رئيسيتان تسيطران على خريطة المشهد السوري هذه الأيام لا يمكن تجاهلهما إذا أردنا أن نستشرف المستقبل من خلال التوقف عندهما وقفة متأنية. الظاهرة الأولى: كثرة المناورات العسكرية في أماكن مختلفة من المنطقة العربية؛ فهناك مناورة جوية سعودية تركية هي الأولى من نوعها، وهناك مناورة في الأردن تحمل عنوان «الأسد المتأهب» تشارك فيها 19 دولة بهدف معلن هو تأمين الأسلحة الكيماوية السورية من خلال تدخل عسكري بري، وهناك مناورة بحرية ثالثة في منطقة الخليج تشارك فيها 41 دولة تركز على كيفية إزالة خطر الألغام البحرية في قاع البحر، ومنع إغلاق مضيق هرمز، وهناك مناورات عسكرية رابعة تجريها البحرية الإيرانية؛ الظاهرة الثانية: زحمة من اللقاءات السياسية والدبلوماسية، فيوم الاثنين اجتمع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوربي في بروكسيل لمناقشة مسألة رفع الحظر عن توريد أسلحة للمعارضة السورية. ومساء اليوم نفسه، عقد لقاء ثلاثي في باريس ضمّ وزيري خارجية روسيا سيرغي لافروف وأمريكا جون كيري، ومضيفهما الفرنسي لوران فابيوس، للاتفاق على جدول أعمال «مؤتمر جنيف 2» بشأن سورية. ولا ننسى في هذه العجالة اجتماع المعارضة السورية في إسطنبول لبحث توسيع الائتلاف وضم كتلة ميشيل كيلو واتخاذ قرار بشأن المشاركة في مؤتمر السلام الدولي. اللافت أن لا خلافات إطلاقا على صعيد الظاهرة الأولى، وهي المناورات العسكرية، فالمشاركة فيها، وغالبا من القوى الغربية العظمى وحلفائها، تتم في انسجام تام وبطريقة حماسية، خاصة تلك التي تجري في الأردن قرب الحدود السورية، أو الأخرى التي تجري في الخليج العربي. المناورات الجوية السعودية التركية التي جاءت بعد زيارة مفاجئة للأمير سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد ووزير الدفاع السعودي، لأنقرة الأسبوع الماضي، هي العنصر الجديد والأبرز في هذه المناورات، فلم يسبق أن أجرى البلَدان مناورات كهذه مطلقا، بل إن السفير السعودي غاب عن أنقرة لأكثر من عامين، فهل سبب هذا التناغم المتسارع هو تشكيل «كتلة سنية» في مواجهة «الكتلة الشيعية» (إيران، حزب الله، سورية، العراق) حيث ينجرف الصراع على سورية إلى مناح طائفية صرفة؟ وفي مقابل هذا الانسجام في المناورات العسكرية، تسود الخلافات جميع اللقاءات السياسية والدبلوماسية المتعلقة بالملف السوري: أولا: اجتماع المعارضة السورية في إسطنبول مدّد اجتماعه الذي بدأ قبل أربعة أيام إلى يومين إضافيين لحلحلة العقد المستعصية على الحل، وأبرزها الاتفاق على الذهاب إلى مؤتمر جنيف وهوية رئيس الوفد والأعضاء فيه. السيد معاذ الخطيب، رئيس الائتلاف، ما زال في حكم المستقيل، والسيد جورج صبرا، نائبه، هو الذي ترأس الاجتماعات، ومصير رئاسة السيد غسان هيتو، رئيس الوزراء، في مهب الريح، فمنذ مارس الماضي وهو يحاول تشكيل حكومة دون جدوى، وهناك من يقول إن أسهمه انخفضت في أوساط المعارضة إلى مستويات دنيا. فرنسا وأمريكا ودول أوربية والسعودية تضغط لتوسيع الائتلاف (60 عضوا) لضم مجموعة ميشيل كيلو الليبرالية، لكسر هيمنة الإخوان المسلمين عليه، ولكن هذه الضغوط تواجه مقاومة شديدة من كتلة الإخوان في المجلس بدعم من دولة قطر، ولا يلوح في الأفق حلّ قريب؛ ثانيا: فشل اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوربي في التوصل إلى اتفاق بشأن رفع الحظر عن تسليح المعارضة السورية، مما يعني انهيار العقوبات المفروضة على دمشق إذا لم يتم التمديد لها وللحظر قبل مطلع الشهر المقبل (الجمعة)؛ ثالثا: استمرار الخلافات بين لافروف وكيري حول مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد قبل انعقاد مؤتمر جنيف الثاني، وكذلك حول الدول المشاركة فيه، خاصة إيران، وطبيعة تمثيل سورية ووفدها. مؤتمر جنيف الثاني، في حال انعقاده، سيكون المحاولة الأخيرة لمناقشة، وليس للتوصل إلى، حل سياسي للأزمة السورية يوقف نزيف الدماء، واتفاق لافروف كيري، قطبي الحرب بالوكالة الدائرة حاليا في سورية، أو عدمه هو الذي سيقرر طبيعة المرحلة المقبلة. الدول الغربية وحلفاؤها في تركيا ومنطقة الخليج (مصر غائبة تماما) يستعدون للحرب، سواء من خلال المناورات المكثفة أو إعادة التلويح باستخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية كورقة تغطية لتبرير التدخل العسكري، في حال صدر قرار اللجوء إليه. صحيفة «لوموند» الفرنسية قالت إنها تملك أدلة على استخدام النظام لهذه الأسلحة مجددا في منطقة جوبر القريبة من العاصمة، ورددت الخارجية الفرنسية الزعم نفسه قائلة إن لديها أدلة إضافية أكثر قوة، وورد هذا على لسان فابيوس نفسه. هناك احتمالان حول هذه المسألة الكيماوية، فإما أن يكون النظام لجأ فعلا إلى استخدام هذه الأسلحة لإحراج الرئيس باراك أوباما وخطوطه الحمراء مرة أخرى، لقناعة راسخة لديه بأنه متردد في التدخل المباشر في الأزمة، وهذا احتمال وارد ولكنه ضعيف، أو أن الدول الغربية تدرك جيدا أن فشل مؤتمر جنيف شبه مؤكد، وأن لا مناص من اللجوء إلى القوة، وما يرجح ذلك أن بان كي مون، أمين عام الأممالمتحدة، أعرب عن قلقه الشديد من زيادة عدد القتلى في الحرب السورية، وطالب بوقف الحرب في أسرع ما يمكن. الحرب في سورية بدأت ثورة شعبية من أجل الإصلاح والتغيير الديمقراطي وتحولت إلى صراع طائفي أو، بالأحرى، إلى حرب إقليمية طائفية سنية شيعية بالإنابة، بين معسكر يضم إيران وحلفاءها تدعمه روسيا والصين من ناحية، وآخر يضم تركيا والسعودية وتدعمه أمريكا وبريطانيا ودول غربية. مؤتمر جنيف هو طوق النجاة الأخير الذي يمكن أن يوقف الانزلاق إلى هذه الكارثة من خلال التوصل إلى حل سياسي وفرضه على الجميع أو الذهاب إلى الحرب. باختصار شديد، إما الحلّ السياسي أو حرب طائفية تتطور إلى عالمية مدمرة. للتذكير فقط، نقول إن الحرب الصفوية التركية طائفية الطابع استمرت 166عاما.