أحدث الدستور الجديد نقلة نوعية في تاريخ السلطة بالمغرب، بعد أن منحت سلطات واسعة للوزير الأول، الذي أصبح رئيس حكومة لكن الملك احتفظ بسلطاته في المجالات العسكرية والدينية. وفتح التعديل الدستوري نقاشا واسعا حول السلطة في المغرب، إذ دار جدل معمق في قبة البرلمان حول التعيين في المناصب العليا أو ما يصطلح عليه ب«ما للملك وما لرئيس الحكومة»، حيث سطرت الحدود بين مراتع السلطات الإدارية، في تحول حقيقي غير مألوف. قبل دستور 2011، كانت السلطة الدينية والسياسية بيد سلاطين وملوك المغرب، وعلى امتداد التاريخ، ظل الصدر الأعظم هو الشخص الذي يجمع بين يديه سلطات تفرقت بين أفراد الحاشية، وهو «العلبة السوداء للسلطان» كما قال مصطفى العراقي في كتابه «من باحماد إلى بنكيران الصدر الأعظم». ومنذ أول حكومة بعد الاستقلال، برئاسة مبارك البكاي إلى حكومة عبد الإله بنكيران، ظل العديد من الوزراء يتقاسمون السلطات مع الملك، فلم يكن الوزير الأول هو الذي يمسك بزمام الأمور، بل كان وزراء آخرون يستمدون قوتهم من الملك، فتميزوا عن بقية نظرائهم بجرعات «الإخلاص الزائد»، كما يقول عبد الله العروي، وتفاعلاتهم السياسية مع المحيط الوزاري ومع المحيط الاقتصادي والسياسي والديني. بالعودة إلى نشأة الدولة المغربية، يتبين أن سلاطين المغرب اختاروا طوعا أو كراهية رجالا أشداء نالوا صفة مستشارين، وساهموا في صناعة العديد من القرارات، بل مارسوا الحكم بصيغ مختلفة، فحين مات السلطان إدريس الأول مسموما على يد سليمان بن جرير، بتواطؤ مع السلطان العباسي هارون الرشيد، ترك زوجته كنزة البربرية حاملا، فتم الاتفاق على تدبير هذه الأزمة السياسية بإسناد أمور السلطان إلى راشد مولى إدريس بالوصاية، إلى حين ميلاد الابن، وهو ما مكن راشد من القيام بدور سلطوي واسع الاختصاصات، وحين اشتد عود الوليد ادريس الثاني بايعه، لكنه استمر في القيادة، قبل أن تعصف به دسائس القصر ويقتل، ليخلفه أبو خالد يزيد فأدار شؤون البلاد بالتفويض إلى أن بلغ ادريس الحادية عشرة من عمره ليبايعه ويظل وصيا عليه، يمارس اختصاصات سلطانية باستشارة من والدته كنزة الأوربية. لا يمكن أن نغفل في هذا السرد التاريخي دور الزوايا وسلطاتها، فقد كان أغلب سلاطين المغرب يعملون على نشأة وتطور مجموعة من الزوايا المساندة لسلطتهم، ويقدمون لهم ظهائر تعيين تحمل الأختام الشريفة لتكريمهم وإعفائهم من كل ما يوظفه المخزن من الرسوم، مقابل قيام الزوايا بدعوة سكان المناطق التابعة لها إلى طاعة أولياء الأمر، بالإضافة إلى عملها الديني ونشر طرقها الصوفية، بينما يفوض السلطان لأكبر وزرائه وأقربهم إلى غرفة القرار أمر التفاوض مع الزوايا المعارضة الراغبة في الانفصال عن السلطة السياسية المركزية، وحين يفشل في إقناعها، يدعو القصر إلى تجنيد مجموعة من الحركات بهدف القضاء عليها وطمس معالمها، وبالتالي ردعها وتوقيف مطامعها. على امتداد تاريخ المغرب، كانت السلطة كقطعة الحلوى يمنح الجزء الأكبر منها للأقرب إلى القلب والعقل، لذا استمر أقوى الوزراء في ممارسة الحكم من خلف الستائر، بعد أن منحهم السلاطين صفة الذراع الأيمن، وهو ذراع سياسي وعسكري وديني أيضا. فرغم وجود وزراء آخرين لهم اهتمامات أخرى، إلا أن قطب الرحى في الحكم ظل بين قبضة أقوى الوزراء وأقربهم للسلطان، خاصة حين يتعلق الأمر بالاختصاصات المالية والعسكرية. حين نال المغرب استقلاله، اعتقد كثير من الباحثين السياسيين، أن مؤسسة الصدر الأعظم قد ذهبت إلى غير رجعة، بعد أن جثمت على هياكل السلطة لعقود، إلا أن التخلص من هذا الإرث لم يتم بمجرد بزوغ فجر الاستقلال، إذ ظل الصدر حاضرا في المشهد السياسي في عهد الملك الراحل محمد الخامس، إلى أن أصبح صدرا بلا عظمة. علما أن صدورا آخرين كان مارسوا الحكم في عهد الحماية رغم وجود سلطان جالس على العرش، وهم المقيمون العامون الذين مارسوا سلطات بالتفويض، وكانوا بمثابة وسطاء بين القصر ومختلف القطاعات الحكومية، لأن فرنسا لم تغير في نمط السلطة وحرصت للضرورة الأمنية على استمرار بنية السلطة التقليدية حتى لا تصطدم سلطة المخزن بسلطة المستعمر، لكن في هذه الفترة التاريخية تراجع دور «الوزير القوي»، الذي ناله ضمنيا القائم العام، فيما ظل هامش تحرك «كبير وزراء السلطان» ضيقا، لا يتجاوز الجانب الديني وأحيانا يمتد إلى العدل أو التعليم الأصيل. منذ دستور 1962، اتضح أن صلاحية صفة الصدر قد انتهت، أو بتعبير آخر، استبدلت برداء الوزير الأول، وأحيانا يلعب مستشارو الملك وأقوى وزرائه هذا الدور، على غرار الجنرال أوفقير ورضا اكديرة وأحمد العلوي وادريس البصري، وغيرهم من المقربين لغرفة القرار، المساهمين فيها بالاستشارة تارة، وبالتنفيذ عن بعد تارة أخرى. بل إن الحسن الثاني اضطر إلى إلغاء بعض الوزارات حين لمس توسع شهيتها السلطوية، على غرار وزارة الدفاع، بعد محاولة الانقلاب الثانية التي قادها محمد أوفقير. كانت السلطة التنفيذية هي الركن الأساسي لإصلاحات 2011، التي أعقبت الربيع العربي، وهي إصلاحات جاءت لتحسم في قضية أثارتها المعارضة وأطلقت عليها اسم «مرحلة اللامسؤولية»، أي بوجود مناطق غير خاضعة لسلطة الحكومة، أو ما أطلق عليه عبد الرحمن اليوسفي يوما «إشكالية ازدواجية السلطة بين الحكومة والدولة»، وهي المرحلة التي جاء خطاب 9 مارس ليقطع معها، عندما تحدث عن «الحكومة المنتخبة، وعن مكانة رئيسها كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية ليتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية». لقد عرف المغرب، في حقب تاريخية متفاوتة، حكومات أقوى من دساتيره كحكومة عبد الله ابراهيم، لكن ظل حضور الوزير القوي مميزا للمرحلة، محدثا شرخا في وجهها، قبل أن «تدستر» صلاحيات الحكومة مع ارتفاع مطالب توسيع صلاحيات الحكومة احتراما لفصل السلط.