منذ فترة لا يستهان بتمددها وتمططها، اسْتَعَر الكلام، سواء ذلك المسنود بالحجة والبرهان والفكر التحليلي الحر أو ذاك الملقى على عواهنه، المدجج بالاندفاع و التوعد والوعيد، الكلام الأسود الذي يحمل أثقالا من البغضاء والحقد والإحن والسخائم. وإذا كان السجال والنزال والنقاش الفكري مطلوبا ومرغوبا وعلامة صحة وحيوية ويقظة وانخراط في معمعان الأحداث والوقائع والتحولات والمستجدات، فإنه -أحيانا- ينقلب سوء منقلب ويحيد عن الجادة والهدف والأفق المشع، المأمول، ينقلب إلى هذه العاقبة ما لم يرتكز على أسس وأشراط النقاش والسجال والتناظر. ولعل العلم والإدراك العميق، والمؤهلات الفكرية والثقافية والقدرة على الحوار والتوليد والتفنيد البناء والنقد الخلاق، أن تكون جميعا من أشراط وأسس أي فكر وحوار وتحليل يَرُوم الخوض في مسألة من المسائل الاجتماعية أو قضية من القضايا السياسية والاقتصادية والحقوقية أو إشكالية من إشكاليات الدين والدولة، في تلاقيهما وتماهيهها أو في وجوب تنائيهما وتباعدهما، من أجل أن يشتغل كل مقوم وكل أقنوم بمجاله وحقله الذي خلق له وَعُبِّدَ من أجله. وفي ما أتابعه وأقرؤه يوميا على صدر الجرائد والمنابر والمجلات والحوائط «الفايسبوكية» والمواقع الإلكترونية مَا يَشي بالغنى والثراء، وهو يتناول قضايا ملحة يعيشها المجتمع والناس، لها عُلْقَة بالسياسة والتعليم والصحة والشغل والسكن والبيئة والحريات (هكذا بالجمع). وليس من شك في أن القلم يَزِلُّ والفكر يَشْتَطُّ والتحليل يغوص عميقا، عميقا حتى يشارف على الموت غرقا، ويطفو جثة هامدة بلا حراك. ثم، بالمقابل، هناك القلم الذي يُسَطر ويحلل ويبني فيما هو ينتقد، محاولا خلخلة المنمط والمسكوك، وساعيا إلى تبيان تهافت بعض الأفكار والرؤى في الكتب والمظان والمتون. ليس من فكر معصوم، وليس من كتاب لا يقبل التجريح والتعديل، وليس من رأي -أيا ما كان هذا الرأي- بمُمْتَنع عن الهزهزة والخضخضة والدحض عن طريق طرح السؤال وإسقاط مشيئة الفكر المعاصر المحمول على شتى البُسُطِ العلمية والأدوات التحليلية الإجرائية من مختلف العلوم. هذه وَاحِدَةٌ، إذ لا صنمية اليوم ولا عبودية ولا تقديس وخشوع وخضوع وخنوع إلا لله سبحانه. ما عدا الخالق المحيط، فإن الضعف والشدة والتراخي والدس والمس يطول عملَ ابن آدم، فكرا وعقلا ويدا ومأتى وبناء وصرحا وحضارة. ثانِيَتُهَا، أن هذا «العَرَمْرَم» من الكتابات والمقالات، التي أصبحت ملء العين والسمع والفكر والوجدان، ما كان لها أن تكون بالوفرة والدفق إياهما لو لم «يندلع» ربيع «الثورات» و»الهَبَّات» الجماهيرية. وزاد من سُعَارِ هذه الكتاباتِ سقوطُ «الثورات» في يد مشايخ ودعاةٍ، مكانُهم في الحقيقة بيوتُ الله والمساجد التي يذكر فيها اسم الله وتقام فيها الصلوات؛ ومكانهم، إذا شاءت أطراف منتفعة، «الفضائيات» رغم تشويه الديانة الإسلامية في مناولاتهم وأحاديثهم التي يتطاير منها البُصَاق، ذات اليمين وذات الشمال، أكثر مما يتطاير منها الفكر الثاقب والرأي السديد والتوجيه المحكم والوعظ الأقوم. ف«طائر الوقواق» هذا الذي سرق «بيض» الآخرين، بعد أن سطا على «شقائهم» في بناء أعشاشهم، هو من كان وراء هذا السيل المهدار من المقالات والكتابات. ومعلوم أن السيل يحمل الطمي كما يحمل الغثاء، وهو يدمدم نازلا من القمم إلى السفوح والأباطح، نحو الأنهار والجداول والوديان. لقد كان حريا بالمثقفين في العالم العربي أن يقولوا كلمتهم، أن يضعوا الأصبع على «الفتح» ويُقوِّمُوا الاعوجاج ويسندوا المائل من الأفنان والأغصان، فما وقع -وهو أمر عظيم- يهمهم وينبغي أن يشغلهم، إذ القول والرهان على المثقف العضوي المستنير الذي «يتعالى» على اليومي، والسياسة بمعناها السطحي المبتذل، ليقول كلمته صريحة واضحة -لا أمتَ فيها ولاَ عِوَجا- في مجريات الأمور، في الدولة ودواليبها وآلياتها، كما في النخب السياسية المسيرة وفي حقوق المواطنين وحرياتهم، وعلى رأسها حرية التفكير والتعبير وحرية التجول والحق في الشغل وفي العيش الكريم والحق في اختيار العقيدة، لأنها موصولة بثقافة الإنسان وكينونته ووجوده وقناعاته الشخصية التي نَمّاها بالقراءة والاحتكاك والتثاقف والمقارنات والمقايسات، وهلم جرا. هذا بَعْضٌ مما على المثقف أن يقوله بالصراحة المطلوبة، من دون مواربة ولا التفاف ولا تقية، إذ إن المواثيق والعهود العالمية جاءت بهذه الحقوق وغيرها بعد أحقاب من الحروب والاقتتالات والتصفيات وأنهار من الدم، من دون أن نتخطى الديانات الإبراهيمية: (اليهودية، والمسيحية، والإسلام) والديانات الوضعية. وإن كانت الإشارات إلى تلك الحريات محتشمة، غير طليقة من قيود «المهيمنات الثقافية» والسياقات التاريخية، المبصومة «بإستيم» تلك العهود، في تواشجها وترابطها وتعالقها بالحضارات والثقافات القائمة والمتزامنة معها. ومن ثم لا يحق لأحد -سواء لبس جبة الداعية أو «سموكينغ» السياسي- أن يسلب غيره هذا الحق ويصادر على آراء الغير في قول ما يريدونه ما لم يكن هذا القول يعمل على تجييش الناس لإسقاط الحكم أو تحشيدهم للنيل من المقدسات أو دفعهم إلى قتل فلان أو علان. وفي ما كتبه أحمد عصيد -وأنا أقرؤه من زمان- لا أجد البتة مدعاة إلى الغوغائية والضوضائية التي تعرفها بلادنا هذه الأيام؛ فقد انبرى نَفَرٌ من «المشايخ» و«الدعاة»، عبر منابر مختلفة: (فايسبوكات) وإعلانات وتصريحات ومحاضرات، ل«عصيد»، ملوحين بالويل والثبور ومهيجين «أتباعا» لهم، للنيل من شخص الرجل ومساره ووطنيته وعميق ارتباطه بمكونه اللغوي والثقافي في غناه وتعدده، بل إن منهم من ذهب مذهبا خطيرا، محرضا عليه ومكفرا له، معتبرا إياه مجرما يحق عليه القول «الفصل» و«الحد» الذي لا نقاش فيه؛ ومنهم من ذهب مذهبا تأليبيا بدعوة القضاء إلى أن يقول كلمته فيه؛ ومنهم من ادعى «المهدية»، حيث أسقط في يده عدم «اهتداء» عصيد إلى الجادة، وقد دُعِيَ إلى الصراط المستقيم والسبيل الأقوم ونهج القرآن !! غير أنني أسأل: بأي موجب انبرى هؤلاء «المشايخ»، فقهاء السنة والجماعة؟ وما مبررهم في التحريض عليه والنيل من كرامته وشخصه وفكره ومساره العلمي؟ وكيف يقولون إنهم فشلوا في هدايته؟ من يكونون؟ هل هم أنبياء؟ وهل صَفا إسلامُهم وَسَما إيمانُهم وَسَمَقَ إحسانُهم، وارتفعوا إلى مرتبة الأولياء/الأوصياء، حتى يهدوا الناس؟ أفمَنْ يُعَبر عن رأيه بكل حرية، ودون خوف ولا عقدة، مستظلا بالقانون الرباني والمواثيق الإنسانية والبنود الدستورية لبلده التي تقر مبدأ الحرية كثابت لا محيد عنه، يحتاج إلى الهداية والإرشاد؟ والحال أن «عصيدا» ناظر جملة من هؤلاء «المكارتيين» الدينيين الجدد، بخصوص التحديث والعصرنة ومواءمة الإسلام للمتغيرات والتحولات من عدمها، أمام جمهرة غفيرة من الطلاب والنُّخَب والسياسيين والحقوقيين، في كثير من أنحاء وجنبات الوطن؟ فكان قوي الحجة، بليغا، حرا، ديمقراطيا، فهو تقلب على جمر الغضا الفكري، ونَضَج جلده نضوجا وقويت حجته ورأيه ومأتاه، فكيف نفسح الطريق للتكفير والقتل في زمنية كونية وسياق مغربي متحرك، قَطعا مع المصادرة والرأي الواحد والقهر الفكري والقمع الثقافي والحجْرِ على الرأي واحتكار العلم والدين والمعرفة؟ كيف تقوم قيامة هؤلاء ويعلو إيقاع الجذبة وترتفع أصوات الأبواق والكفوف والدفوف، في وقت نتحدث فيه عن مقارعة الرأي بالرأي والحجة بالحجة، ونقيم المناظرات في إطار ديمقراطي لتغليب رأي على رأي من دون قهر أو تسخيف أو تطاوس وغطرسة؟ فهل ما يقوله «المشايخ السلفيون» يَمُتُ بصلة ما إلى الحرية والديمقراطية، أم يمت بصلة وثقى إلى الخوف من التعبير والرأي والاختلاف؟ وهل تُخَوِّلُهُمْ «صفاتهم» و«مكانتهم العلمية الدينية» هذا الحق؟ حق التخوين والتكفير والتجريم وسلب الحقوق والمواطنة من الآخرين والمغايرين المختلفين معهم؟ أفْهَمُ كيف جاءت هذه الردود المتشنجة سريعا، وفي زمن قياسي، إذ إن فتاوى المجلس العلمي الأعلى هي ما قدح الزناد، وأوفى على المراد، ووضع بين يدي «العلماء» قاموس التكفير والجهاد؟.. هذا التواقت مفكر فيه، ويهدف -في ما يهدف إليه- إلى لجم الحريات، ومنها: حرية المعتقد التي تنامى الحديث عنها وفيها وأصبح الكثيرون مقتنعين بها، انطلاقا من النصوص المقدسة وانطلاقا من كتاب حقوق الإنسان الكوني؛ كما يهدف إلى التخويف ونشر الرعب، دعما وتقوية لمن هم في السلطة والحكم، إخوانهم وأصفياؤهم وشركاؤهم في ميراث «الثورة» المغدورة؟ فبمثل هذه الآراء والخرجات التكفيرية، التي تجد حدبا وتشجيعا وتمويلا من التيار الإسلامي الحاكم الآن في المغرب وتونس وليبيا ومصر واليمن والسودان... و«بعض» دول الخليج، يتصور المشايخ هنا وهناك أن النصر قريب والتمكين على قدم وساق وبشائر الطلائع المجيدة تتلامح في الأفق و»الخلافة الإسلامية» قاب قوسين أو أدنى من التحقق والإنجاز.. والحال أنهم في عَماهُمْ يَعْمَهُونَ وفي أضغاثهم يسبحون، والحال أنهم يخوضون في أشياء تسير، بقوة قانون الجاذبية العلمي والفكري والتكنولوجي، إلى أمام.. لا إلى الخلف، وأن الديمقراطية والحداثة، اللتين ترْعِبَانِهم وتَقُضّانِ مضاجعهم، تشقان طريقهما بإصرار، لأنهما قدرنا المبتغى ومستقبلنا المرتجى ونهوضنا في الحال والمآل، وهما فكر وشعار الدولة، أحب من أحب وكره من كره.