منذ سنة 2010، لم يعد يشغل الناس في مدينة وجدة، إلا تتبع فصول نزاع قضائي محموم بين قيادي بارز في حزب العدالة والتنمية وعضو في حركة التوحيد والإصلاح، وبين جيرانه الذين يتهمونه باحتلال الملك العام وتشييد مدرسة خاصة فوق الطريق العام. «المساء» أعدت تحقيقا شاملا عن الملف، وتنقلت إلى مدينة وجدة وقابلت كل الأطراف، وحصلت على الوثائق الإدارية اللازمة، من أول وثيقة إدارية تخص الملك موضوع النزاع، في عهد الحماية الفرنسية على المغرب. في هذا التحقيق، ننقل وجهات نظر الطرفين، لكن نركز على الوثائق الإدارية والأحكام القضائية والخبرة للوصول إلى مكمن الخلل... «هذا الرجل يصلي بالناس في الجامع وينتمي إلى هيئة دعوية وحزب إسلامي ويغلق في وجه جيرانه طريقا عرضه 6 أمتار..» يقول محمد خلفة، أحد الجيران المتضررين، في إشارة إلى هيئة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي للعدالة والتنمية. بيد أن محمد بيبودة، المستشار الجماعي عن حزب «العدالة والتنمية» بمجلس مدينة وجدة والرئيس السابق لجماعة سيدي إدريس القاضي، يؤكد أنه شيّد المدرسة فوق طريق تعود إلى سنة 1952، و«نام محمد بيبودة إلى سنة 2010 ليخرج إلي معترضا على أشغال البناء، حينما حصلت على الرخصة وبدأت أعمال توسيع مدرسة أديرها تحت اسم «الرميساء»»، مضيفا أن «هذا الرجل مسخر من جهات ويريد أن يشوش على حزب العدالة والتنمية ويشوه سمعته لكن أنى له ذلك هو وأمثاله». «المساء» تعقبت الخيوط القانونية للملف بعيدا عن الحسابات الشخصية والسياسية للأطراف المتداخلة في الملف، ابتداء من سنة 1952، عندما كانت وجدة تحت الحكم الفرنسي، وأعدت تحقيقا شاملا عن ملابسات الطريق الذي يُعتقد أن مستشار العدالة والتنمية وعضو التوحيد والإصلاح أغلقها وأصبحت موضوعا تلوكه ألسنة السكان في مدينة وجدة. أصل الحكاية في نونبر 2010، عمد المستشار الجماعي في مدينة وجدة، محمد بيبودة، إلى تشييد قبو وبناية من طابقين في أعمال توسيعية لمدرسة «الرميساء»، التي يديرها، وهو الأمر الذي أثار حفيظة العديد من جيران بيبودة، وتقدم بعضهم بشكايات في الموضوع أمام القضاء، لكن تنازل الجميع وبقيت عائلة واحدة هي عائلة خلفة (إحدى العائلات المتضررة)، وجها لوجه أمام المستشار الجماعي. فقد تقدم ممثلها محمد خلفة بطعون في رخصة البناء المسلمة لبيبودة، مدير المدرسة الخاصة، متهما إياه «باستغلال النفوذ والحصول على رخصة خارج القانون وتزوير شهادة الملكية التي تم استخراجها من الرسم الأول». وحسب الوثائق التي حصلت عليها «المساء» خلال التحقيق، فإن المشتكي محمد خلفة يملك قطعة أرضية (ذات رسم عقاري 4803/02)، يستفيد بموجب هذا الرسم من طريق عرضها 6 أمتار (ما يسمى بحق الارتفاق) والمتمثل في حق المرور المضمن بالرسم العقاري الأم، عدد 495/02. فأين يكمن المشكل إذن؟ هنا يجب العودة إلى هذا الرسم العقاري ومحاولة ترجمته واستنطاقه من جديد، لأنه رسم قديم تم توثيقه خلال فترة الحماية الفرنسية على المغرب. ففي دجنبر 1952، وأمام الموثق الأول الأستاذ «فرانسوا فاليس»، حضر كل من بيست فردنان (ملاك) و»فيسي بيرت ماري» (بدون مهنة)، زوجته المرخص لها والمساعدة من طرفه، الساكنان بوجدة، السماح لكل من «سيما جون» (ميكانيكي) و«بونوا جوزيف ليون» (ملاك) و«كابيلجو كيم أونطونيو» (بقال) بحق المرور في الملك المسمى «تيران فيسي»، وهو الذي ستنبى عليه المدرسة لاحقا في 2010. وقد صرح الزوجان (بيساريت) البائعان، أمام الموثق، بأنهما تملكا القطعة الأرضية المقتطع منها منذ ذلك اليوم حق المرور، وأنهما فعلا يسمحان لجيرانهما «سيما جون» و»بونوا جوزيف ليون» و»كابيلجو كيم أونطونيو» بالاستفادة من حق المرور في ملكهما. وبعد هذه الخطوة، التمست كل الأطراف في مذكرة كتابية من المحافظ على الأملاك العقارية بوجدة، تقيد تحويل حق المرور الذي اتفق عليه الجميع في السجلات العقارية رقم 495، وهو الملك المسمى آنذاك «أرض فيسي»، «مقيديش»، «أرض جاك» و»لوبون كوان». نحن الآن أمام عقد رسمي محرر بوجدة، وينص بوضوح على «ضرورة الالتزام بحق المرور المقتطع من الملك المسمى تيران فيسي 2 ذي الرسم العقاري 495، وهذا الحق المسمى قانونيا «حق الارتفاق» قدر طوله ب 17 آرا و 52 وعرض قدره 6 أمتار، وكل ذلك لفائدة السكان المجاورين أصحاب الرسوم العقارية 2337/02 و3336/02 و4803/02». الذي سيحدث بعد ذلك، هو أن محمد بيبودة الذي أصبح مالكا لرسم عقاري هو 02/46889 المستخرج من الرسم العقاري الأم، عدد 02/495 «لم يلتزم بحق المرور على عقاره، وعمد إلى القيام بأشغال البناء على مستوى القطعة الأرضية موضوع حق المرور، دون احترام القوانين الجاري بها العمل»، على حد تعبير محمد خلفة. «تورط المجلس البلدي؟» عمد المجلس البلدي لوجدة في يوليوز 2010 إلى تسليم المستشار الجماعي محمد بيبودة رخصة بناء لتوسيع المدرسة، دون أن يلتفت المجلس إلى وجود حق المرور في الملك الذي سيحتضن الأشغال، واعتبرت المحكمة لاحقا أن «رخصة البناء لم تحترم حقوق الغير المتمثل في الاعتداء على حق الارتفاق لفائدة الملاكين المجاورين، وهو ما يجعل رخصة البناء مسلمة خلافا للقانون». وبعد أن تطورت الأمور بشكل متسارع خلال الأشهر القليلة الأخيرة، حاولت الوكالة الحضرية في مذكرة جوابية، عبر دفاعها، أن تُخرج نفسها نهائيا من الملف وأن تنأى بإدارتها عما أسماه محمد خلفة «التزوير العلني والشطط في استعمال السلطة»، حيث أكدت الوكالة الحضرية على أن دورها ينحصر في إبداء الرأي التقني حول مشاريع البناء، أما الترخيص بالبناء فيبقى من اختصاص الجماعة الحضرية بوجدة، مشددة على أن «الاستجابة للمشروع تمت بعد مراعاة القواعد القانونية، من تقديم دراسة خاصة بالخرسانة والإسمنت المسلح، وتقديم شهادة المتانة والمساعدة التقنية، بالإضافة إلى احترام حقوق الغير وحذف القاعة الدراسية الموجودة بالطابق الأرضي»... والتمست الوكالة إخراجها من الدعوى لأنها غير مسؤولة عما وقع... وقال محمد خلفة، الذي طالب بإلغاء رخصة البناء، ل»المساء» إن الجماعة دافعت أمام القضاء عن قرار تسليم الرخصة لمؤسسة الرميساء، حيث أكد رئيس المجلس الجماعي لوجدة في مرافعته أمام المحكمة أنه «بناء على الوثائق المدلى بها من طرف المستفيد (محمد بيبودة)، الذي وضع بيدنا الوثائق القانونية، ومنها الشهادة العقارية، التي لم تتضمن أي إشارة لحق الارتفاق أو حق عيني للأغيار، وأن الجماعة لا علاقة لها بالنزاع بين الطاعن والجوار حول حق الارتفاق، الذي يعتبر نزاعا مدنيا صرفا». وواصل رئيس الجماعة الحضرية أن «طلب سحب الرخصة غير مؤسس على أرضية قانونية صلبة»، والتمس الحكم برفضه نهائيا. تعميق البحث لم تشأ المحكمة أن تتسرع في إصدار الحكم في قضية جد ملتبسة، يتشبث فيها كل طرف بحقه القانوني. فالمتضررون يؤكدون على وجود حق المرور في طريق عرضها 6 أمتار قام صاحب مدرسة «الرميساء» بإغلاقها، وهذا الأخير يلقي بالمسؤولية على من منحه الرخصة وشهادة الملكية في عقاره، الذي وصفه ل»المساء» ب»الخالي من العيوب». المحكمة وللتأكد من المعطيات المدلى بها من دفاع الطرفين أمام المحكمة الإدارية بوجدة، أمرت بإجراء خبرة في الموضوع. وحسب تقرير الخبير، الذي عينته المحكمة، فإن الرسم العقاري 64889/02 موضوع رخصة البناء المطعون فيها «مستخرج من الرسم العقاري عدد 495/02، المترتب عليه حق المرور عرضه 6 أمتار لفائدة الرسوم العقارية المجاورة عدد 2337/02 و3336/02 و4803/02، وذلك منذ سنة 1952»، وقبل أن يستخرج الرسم عدد 64889/02 موضوع الترخيص المتنازع بشأنه، وأنه رغم صدور المذكرة عدد 1686/م ع /02 بتاريخ يونيو 2002 عن مصلحة المحافظة العقارية بوجدة الموجهة إلى رئيس مصلحة المسح العقاري، لتحديد حق المرور لفائدة الرسوم العقارية المجاورة «لم يتم التنفيذ». كما أضاف الخبير أن شهادة الملكية المسلمة للطاعن في شتنبر 2010 «تضمنت الإشارة إلى كون الرسم العقاري 495/0 مثقلا بحق المرور، في حين أن شهادة الملكية المسلمة من طرف المحافظ على الأملاك العقارية بنفس التاريخ والمتعلقة بالرسم العقاري 64889/02 لم تتضمن هذه الإشارة». وعقب ذلك، وفي 18 أكتوبر 2011 أصدرت المحكمة الإدارية بوجدة حكما يقضي بإلغاء الرخصة التي مُنحت لصاحب مدرسة «الرميساء» لأن «رئيس المجلس البلدي حسب منطوق الحكم لا يمكنه بأي حال من الأحوال تسليم رخصة البناء إلا بعد التحقق من الوثائق المقدمة من طرف طالب الترخيص والتأكد من الضوابط والارتفاقات التي يجب أن يخضع لها البناء لتوفير المتطلبات الصحية وتيسير المرور والمتطلبات الأمنية والجمالية»، ولما تم تسليم «رئيس المجلس البلدي رخصة البناء دون التأكد من موقع ومواصفات القطعة الأرضية وخصائصها ومدى تحملها لحق ارتفاق يتجلى في نازلة الحال في حق المرور لفائدة عقار الطاعن محمد خلفة، فإن الترخيص المسلم إذن مخالف للقانون مادام قد مس بحقوق الغير». وقد استأنف المستشار في العدالة والتنمية محمد بيبودة قرار المحكمة، وقدم طعونا أمام الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى، وبالفعل نجح في إلغاء الحكم الأول الصادر عن المحكمة الإدارية بوجدة بسبب عيب في الشكل، بيد أن هذا «النصر الصغير» لم يدم طويلا، حيث تم تأييد حكم المحكمة الإدارية من جديد في 31 يناير الماضي. أين كنتم يا جيران؟ يتهم المشتكي محمد خلفة خصمه بيبودة ب»النفاق»، «لأنه يصلي بالناس ويخطب فيهم وينتمي إلى هيئة دعوية وحزب إسلامي ويغلق في وجه جيرانه طريقا عرضها 6 أمتار». مضيفا ل»المساء»، «الله يشهد أنني على علاقة طيبة بمستشار البيجيدي محمد بيبودة ودائما أسلم عليه كجار قريب، لكن إن الله لا يستحي من الحق». ويواصل خلفة اتهامه لبيبودة، قائلا إنه تحايل على القانون وأصدر لنفسه رخصة واستصدر ملكية أخرى من الرسم الأم، دون أن يكون فيها حق المرور، مما يعني، على حد قوله، «الشطط في استعمال السلطة». غير أن بيبودة له رأي آخر، حيث يؤكد أن العقار الذي اشتراه «خال من أي عيب، والمحافظة العقارية تؤكد ما أقول، لأن العقد الذي اشتريت بموجبه الأرض يؤكد أن العقار خال من كل رهن وقيد مع التصرف والحيازة الكاملة والفعلية، وذلك من تاريخ العقد بيني وبين الشخص الذي باعني هذه الأرض»، مضيفا «تقدمت للبلدية والوكالة الحضرية من أجل الترخيص لتوسيع مدرسة متواجدة بزنقة محمد العمراوي بوجدة، وبعد دراسة الملف حصلت على رخصة البناء فشرعت في البناء طبقا للرخصة المقدمة وتصميم البناء المصادق عليه، إلا انني فوجئت بشكاية مقدمة من طرف محمد خلفة، مفادها أنني أقوم بأعمال البناء فوق طريق عمومي، وهو بذلك يكذّب المجلس البلدي والمحافظ على الأملاك العقارية». وأشار إلى أنه منذ 1990 لم يتم بعد ولغاية اليوم إنجاز العمليات الهندسية، وهو بالإضافة إلى ذلك يقول اشترى القطعة الأرضية «مع التوقيع بالإبراء في العقد»، مضيفا أن «هؤلاء الجيران ناموا لمدة 60 سنة واستيقظوا الآن مطالبين بالحق في المرور من ملكيتي الخاصة». محمد بيبودة في رده على اتهامات خلفة، ذهب إلى وصف المشتكي ب»الرجل المسخر من طرف جهات أخرى يريد التشويش على حزب العدالة والتنمية»، مضيفا أنه «شخص محترم في كل وجدة ومن يريد أن يعرف محمد بيبودة فليسأل عنه في هذه المدينة». وواصل أنه يقدر المسؤولية الملقاة على عاتقه، قائلا: «هو يتهمني باستغلال النفوذ، وأنا اؤكد أني أنتمي للتوحيد والإصلاح والعدالة والتنمية وتربيتي تمنعني من ذلك، كما أن أنفاسي وكلامي وتحركاتي محسوبة جدا».