للفيلسوف الألماني الشهير فريدريك نيتشه قول معبًّر وهو «إن مرض الجنون نادر عند الأفراد، ولكنه هو القاعدة عند الجماعات والأمم وحقب التاريخ». والواقع أن المتابعة المتأنية الموضوعية للكثير مما يحدث يومياً في مشهد ما بعد ثورات وحراكات الربيع العربي يذكر الإنسان بذلك القول المتشائم ما لم يراجع نفسه. قد لا يكون المشهد قد وصل أغلب لاعبيه إلى مرحلة فقدان العقل ذاك، لكن من المؤكّد أن أعراض ما يعرف بالعصاب النفسي في علم النفس أصبحت منتشرة في كل مكان. ومع أن هناك أنواعاً عديدة من العصاب النفسي، إلاً أن المشهد المجتمعي العربي يزخر بأهم دلالتين لوجود ذلك العصاب، وهما القلق المبالغ فيه والخوف الذي لا مبرر له. أما القلق المبالغ فيه فيقرأه الإنسان يومياً أو يستمع إليه عبر شاشات الفضائيات في شكل بكائيات وتشاؤم وفقدان أمل ينشرها من لم يقرؤوا التاريخ الإنساني بعمق، أو من ليس لديهم على ما يظهر إلمام بطبيعة العمل السياسي وحدود الحراك في ساحات. ولذلك يبالغون في تقييم حجم ووزن الأخطاء التي لا شكّ أنها ترتكب في الحياة السياسية في أقطار ما بعد الثورات والحراكات. قلقهم المبالغ فيه يدفعهم لاعتبار الأخطاء كوارث غير قابلة للتصحيح. ومن حيث يدرون أو لا يدرون يدخلون الجماهير العربية في ثلاَّجة اللامبالاة وفقدان الأمل أو جحيم الكفر بإمكانيات الشعوب والمجتمعات. ومع أن الثورات والحراكات العربية كسرت حواجز الخوف التاريخية عند الإنسان العربي ونجحت في تحقيق ذلك في أيامها الأولى، خصوصاً بالنسبة للخوف التاريخي من السلطان وسطوة سلطاته الاستبدادية، إلاً أننا نشاهد الآن صعود لغط خوف عصابي غير منطقي بشأن ما سيأتي به المستقبل من جهة، وبشأن طبيعة ما تتطلبه المرحلة الانتقالية الحالية من تجارب تنجح أو تفشل، ومن محاولات مستمرة مكلفة ومجهدة لنفض غبار تخلف القرون، ولفتح كوَّة نور في عالم الظلام الذي عاشته الأمة سنين طويلة. لسنا نخاف من العصاب النفسي ذاك، فمثلما عند الأفراد فانَّه أيضاً قابل للعلاج والشفاء عند الجماعات والمجتمعات. لكننا بالفعل، إن طال الأمد وترسخت تلك الأعراض، نخاف أن ننتقل ذهنياً وتصرفاً إلى مشارف الجنون عندما يتحول القلق والخوف إلى أوهام وهذيان وهلوسة. مثلما يحدث ذلك عند الأفراد فإنه قابل لأن يحدث في المجتمعات. يكفي أن يطلّ الإنسان على مشهدي ما يحدث الآن في سورية والعراق، كمثلين، ويستمع لما يقوله المتصارعون حتى يقتنع بأن الهذيان والأخيلة المريضة وهلوسات المجانين قد أصابت الغالبية السًّاحقة من الأطراف، إلاً من رحم ربي، وهم قلًّة معزولة لا حول لها ولا قوُة. ألسنا نرى نيرونات بغداد ودمشق وهم يعزفون قيثاراتهم بينما العاصمتان تحترقان؟ لماذا هذا التوجُّس؟ لأن الساحة العربية تعج الآن بأعداد ليست قليلة من المفكرين والكتاب والمتحاورين والمفسرين والمجتهدين الذين يدفعون الناس والمجتمعات، من خلال نقد تشكيكي سطحي، واستعمال لألفاظ السخرية والاستهزاء وقراءات فكرية مراهقة، نحو مربَّع العصاب الجنون ذاك. بعض هؤلاء ينتمون حتماً لقوى الثورات المضادة التي تحارب كل تغيير وتجديد، وبعضهم من الذين لا يستطيعون مع هذه الأمة صبراً. دعنا نذكٍّر أنفسنا بقول للطبيب النفسي الاسكتلندي المعروف، ر.د. لانج، الذي كتب أن «الجنون لا يقود بالضرورة إلى الإنكسار المدمر، إذ إنه أحياناً يقود إلى كسر الحجب» الذي يقود إلى الخروج من الأزمة. ذلك أن كثيراً مما أفرزته أحداث ما بعد الثورات والحراكات ليس بالضرورة سيقود إلى انكسار الأمة المدمر، فقد يقود إلى انكسار الحجب التي كانت تحجب هذه الأمة عن رؤية موجبات النهوض من عثراتها التاريخية المزمنة. لكن كسر تلك الحجب لا زال ينتظر فعلاً سياسياً يحيد الأصوات النشاز المتكالبة على عقل وروح الأمة ويقنع الإنسان العربي، ومن بعده العالم كلٍّه، بأن ثورات وحراكات الربيع العربي كانت مدخلاً لتغييرات كبرى رائعة مبهرة. كسر تلك الحجب لن يتمً بحجم تاريخي على مستوى كل قطر ولا على مستوى هذا الفريق أو ذاك ولا على مستوى هذه الإمكانية الواعدة، ولكن المحدودة، أو تلك. لا بد ًّله أن يكون على مستوى الوطن الكبير والأمة الواحدة والعمل الواسع الهادر المشترك. نعود هنا إلى ما كتب عنه الكثيرون عبر سنين طويلة: ضرورة بناء كتلة تاريخية من مؤسسات المجتمعات العربية المدنية غير الملوَّثة بالعلل والفساد والانتهازية ومن أنصار تلك الكتلة من الأفراد المستقلين العادلين في منطقهم ومواقفهم. إذا كان شباب الثورات والحراكات يريدون أن يروا في حياتهم تحقُّق ذلك الحلم المتسامي بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، الذي مات من أجله أخوة لهم يستصرخونهم من قبورهم، فعليهم أن يعملوا من أجل ولادة تلك الكتلة التاريخية. بدون وجودها، كفاعل حقيقي في الحياة السياسية العربية، لن تجدي التجمعات في السَّاحات والمظاهرات في الشوارع. تستطيع هذه الأخيرة أن تهدم الاستبداد ولكنها لن تكون كافية لكسر الحجب وبناء المستقبل. لن يهزم من يؤججون العصاب النفسي والجنون في طول وعرض الوطن العربي، إلاً وجود تلك الكتلة المتراصة، وستكون لنا عودة إلى موضوعها في الأيام القادمة.