في كل العصور التي مرت على أمة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، كان هناك فقهاء لا يخشون في الحق لومة لائم. لكن كان هناك أيضا فقهاء يسخرون علمهم وفقههم لتحقيق مكاسب دنيوية. فكان هناك فقهاء السلطان الذين يحللون له كل ما يقوم به، بما في ذلك إفطار رمضان. وفقهاء يسيل الفتات لعابهم، فيزحفون إليه على بطونهم.. عندما تفجرت براميل الغضب في شوارع مصر، انبرى فقهاء يستشهدون بآيات من القرآن الكريم وأحاديث نبوية شريفة لتحريم الخروج عن الحاكم مبارك... بل ويشهدون بأنه عادل. وفي الوقت نفسه ظهر فقهاء آخرون يفتون بالخروج على نفس الحاكم باعتباره ظالما، مستندين في ذلك لآيات وأحاديث. ليبقى المصري البسيط حائرا بين فقيه وفقيه. بين حديث يحرم ما يحلله حديث آخر، وأحيانا يحلله نفس الحديث المحرم. حتى لم يعد المسكين يعرف شيئا أمام تعدد المفتين والقنوات التي يختلف خطابها الديني باختلاف انتماءاتها السياسية والمذهبية والطائفية. بينما فضل فقهاء آخرون خيار الصمت، لا يتكلمون في غير نواقض الوضوء. وحدث ما حدث يوم 11 فبراير 2011، فلم يعد مبارك رئيسا، وإذا ببعض من فقهائه المحللين يلتحقون بجوقة الحاكم الجديد مهللين، يحرمون الخروج عليه من قبل المعارضة الجديدة. في الانتخابات، التشريعية والرئاسية، كما في الاستفتاء، اصطف فقهاء مصر أحزابا. فكان منهم من حرم الخروج على الرئيس الجديد، وكان منهم من حلل الخروج عليه واعتبره فرض عين، كما كان بينهم من فضل النأي بنفسه عن صداع السياسة. ثم فجأة وقع خلاف بين الحليفين الكبيرين، أقال الرئيس الإخواني مستشارا يمثل حزب النور السلفي، فاستقال زميله في التنظيم تضامنا، وتحول الناطق باسم حزبهما من المساندة غير المشروطة إلى الهجوم بكل الأسلحة، لينعكس ذلك على فقهاء هذا الحزب، الذين تحولوا في لحظة واحدة، من محللين إلى محرمين... وهو التحول الذي فسرته بعض ألسنة السوء بأنه ناتج عن سوء تفاهم في توزيع كعكة الحكم. أن يتحول أهل السياسة من النقيض إلى النقيض، فذاك أمر معلوم، وجزء مفهوم في لعبتهم. لكن أن يتحول الفقيه، ليفتي اليوم بعكس ما كان يفتي به البارحة، معتمدا قال الله تعالى وقال الرسول الأكرم، فذلك ما يحير عباد الله المسلمين. عندنا هنا، كما عند إخوتنا أهل مصر، فقهاء محرمون وفقهاء محللون وفقهاء مهللون. وفقهاء يقولون في السر عكس ما يعلنون. وبعيني هاتين «اللي ياكلهم الدود والتراب»، رأيت فقيها جليلا بلحية بيضاء ناصعة يقبل يد قائد لم يبلغ الخامسة والعشرين من العمر، كان مستيقظا للتو بعد ليلة حمراء.. ............................ مثل الصحافي والسياسي والتاجر والطبيب والأديب والخطيب، المؤكد أن «الفقيه فيه وفيه». وإلى جانب النماذج المذكورة، يوجد فقهاء الاستثناء. ومن أمثلتهم المعبرة السي أحمد بن عمر. الفقيه المتمرد، الذي يروي عنه أهل البلدة عشرات الحكايات التي تستحق أن تجمع في كتاب بعنوان «لآلئ ودرر.. في ما خلفه الفقيه بن عمر.. من حكم وعبر». ويحكى أن أحد القواد المتعاقبين على البلدة، أعجب بشخصية الفقيه حسب بعضهم، أو أراد إغراءه حسب بعض آخر. فبعث إليه مرسولا يدعوه. كان السي أحمد في خلوته عندما سمع طرقات غير مألوفة ببابه. من خلف «الطاقة» رأى دركيا شابا يستعجله فتح الباب، ويبشره أن «سيد القايد» يريد أن يراه. لكن الفقيه غير مستعجل، فرد ببرود «شوف يا ولدي، يلا بغيت نشوف القايد نمشي عندو، ويلا بغا هو يشوفني يجي عندي». لم يستسغ الدركي هذه الجرعة من الجرأة، لكنه لم يتجرأ على الفقيه، وراح يبلغ القائد بما وقع، قبل أن يعود لطرق الباب مجددا، يبشر الفقيه أن القايد يريد أن يهديه تذكرة لحج بيت الله الحرام، فلا يعقل أن يحج الجزار والسمسار ولا يحج الفقيه النبيه. لم يحتج السي أحمد بن عمر فسحة تفكير، و»قنبل» الدركي بجواب صادم، بقولته الشهيرة: «سير يا ولدي كول للقايد، كال لك الفقيه: لا حج بعد حج الحاجة الحمداوية».